وهؤلاء المجرمون المعروضون على ربهم وهم ناكسو رؤوسهم . هؤلاء ممن حق عليهم هذا القول . ومن ثم يقال لهم :
( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ) . .
يومكم هذا الحاضر . فنحن في المشهد في اليوم الآخر . . ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم ، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت . ذوقوا ( إنا نسيناكم ) . . والله لا ينسى أحدا . ولكنهم يعاملون معاملة المهملين المنسيين ، معاملة فيها مهانة وفيها إهمال وفيها ازدراء .
( وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ) . .
ويسدل الستار على المشهد . وقد قيلت الكلمة الفاصلة فيه . وترك المجرمون لمصيرهم المهين . ويحس قارئ القرآن وهو يجاوز هذه الآيات كأنه تركهم هناك ، وكأنهم شاخصون حيث تركهم ! وهذه إحدى خصائص التصوير القرآني المحيي للمشاهد الموحي للقلوب .
{ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } فإنه من الوسائط والأسباب المقتضية له . { إنا نسيناكم } تركناكم من الرحمة ، أو في العذاب ترك المنسي وفي استئنافه وبناء الفعل على أن واسمها تشديد في الانتقام منهم . { وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون } كرر الأمر للتأكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأفعالهم السيئة من التكذيب والمعاصي كما علله بتركهم تدبر أمر العاقبة والتفكير فيها دلالة على أن كلا منهما يقتضي ذلك .
هذا جواب عن قولهم { ربنا أبصرْنَا وسمِعنا } [ السجدة : 12 ] الذي هو إقرار بصدق ما كانوا يكذّبون به ، المؤذِن به قولهم { ربّنا أبصَرْنا وسمعنا . } فالفاء لتفريع جواب عن إقرارهم إلزاماً لهم بموجب إقرارهم ، أي فيتفرع على اعترافكم بحقية ما كان الرسول يدعوكم إليه أن يلحقكم عذاب النار .
ومجيء التفريع من المتكلم على ما هو من كلام المخاطب فيه إلزام بالحجة كالفاءات في قوله تعالى : { قال فاخرج منها فإنك رجيم } [ الحجر : 34 ] وقوله { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغْوِينَّهم أجمعين } [ ص : 79 82 ] ، وقوله : { فالحقَّ والحقَّ أقول لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ ص : 84 85 ] ؛ فهذه خمس فاءات كل فاء منها هي تفريع من المتكلم بها على كلام غيره . وقد تقدم ذلك في العطف بالواو عند قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } في سورة ( البقرة 124 ) واستعمال الذوق بمعنى مطلق الإحساس مجاز مرسل تقدم عند قوله تعالى : { ليَذوق وبالَ أمرِه } في سورة العقود ( 95 ) . ومفعول ( ذوقوا ) } محذوف دل عليه السياق ، أي فذوقوا ما أنتم فيه مما دعاكم إلى أن تسألوا الرجوع إلى الدنيا .
والنسيان الأول : الإهمال والإضاعة ، وتقدم في قوله تعالى { فنسي } في سورة طه ( 88 ) .
والباء للسببية ، أي : بسبب إهمالكم الاستعداد لهذا اليوم . والنسيان في قوله { نسِيناكم } مستعمل في الحرمان من الكرامة مع المشاكلة .
واللقاء : حقيقته العثور على ذات ، فمنه لقاء الرجل غيره وتجيء منه الملاقاة ، ومنه : لقاء المرء ضالة أو نحوها . وقد جاء منه : شيء لَقىً ، أي مطروح . ولقاء اليوم في هذه الآية مجاز في حلول اليوم ووجوده على غير ترقب كأنه عُثِر عليه .
وإضافة ( يوم ) إلى ضمير المخاطبين تهكم بهم لأنهم كانوا ينكرونه فلما تحققوه جُعل كأنه أشد اختصاصاً بهم على طريقة الاستعارة التهكمية لأن اليوم إذا أضيف إلى القوم أو الجماعة إذا كان يوم انتصار لهم على عدوهم قال السموأل :
وأيامنا مشهورة في عدوِّنا *** لها غررٌ معلومة وحجول
ويقولون : أيامُ بني فلان على بني فلان ، أي أيام انتصارهم . وسبب ذلك أن تقدير الإضافة على معنى اللام وهي تفيد الاختصاص المنتزع من المِلك ، قال عمرو بن كلثوم :
وقال تعالى : { ذلك اليوم الحق } [ النبأ : 39 ] ، أي : يوم نصر المؤمنين على المشركين في الآخرة نصراً مؤبَّداً ، أي ليس كأيامكم في الدنيا التي هي أيام نصر زائل .
والإشارة ب { هذا } إلى اليوم تهويلاً له .
وجملة { إنَّا نسِيناكم } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن المجرمين إذا سمعوا ما علموا منه أنهم ملاقو العذاب من قوله { فذوقوا بما نسِيتم لقاء يومكم هذا } تطلعوا إلى معرفة مدى هذا العذاب المَذوق وهل لهم منه مخلص وهل يُجابون إلى ما سألوا من الرجعة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من التصديق ، فأعلموا بأن الله مُهمل شأنهم ، أي لا يستجيب لهم وهو كناية عن تركهم فيما أُذيقوه .
وقد تقدم في سورة طه ( 126 ) قوله : { قال كذلك أتتك آياتنا فَنسِيتَها وكذلك اليوم تُنْسَى } فشبه بالنسيان إظهاراً للعدل في الجزاء وأنه من جنس العمل المُجازَى عنه . وقد حُقّق هذا الخبر بمؤكدات وهي حرف التوكيد . وإخراج الكلام في صيغة الماضي على خلاف مقتضى الظاهر من زمن الحال لإفادة تحقق الفعل حتى كأنه مضى ووقع .
وقوله { وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون } عطف على { فذوقوا بما نَسِيتُم } ، وهو وإن أفاد تأكيد تسليط العذاب عليهم فإن عطفه مراعى فيه ما بين الجملتين من المغايرة بالمتعلِّقات والقيود مغايرة اقتضت أن تعتبر الجملة الثانية مفيدة فائدة أخرى ؛ فالجملة الأولى تضمنت أن من سبب استحقاقهم تلك الإذاقة إهمالَهم التدبر في حلول هذا اليوم ، والجملة الثانية تضمنت أن ذلك العذاب مستمر وأن سبب استمرار العذاب وعدم تخفيفه أعمالهم الخاطئة وهي أعم من نسيانهم لقاء يومهم ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.