والمشهد الثالث من مشاهد القصة : مشهد نوح يصنع الفلك ، وقد اعتزل القوم وترك دعوتهم وجدالهم :
( ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه : قال : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) . .
والتعبير بالمضارع . فعل الحاضر . . هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته . فنحن نراه ماثلا لخيالنا من وراء هذا التعبير . يصنع الفلك . ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون به فيسخرون . يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم : إنه رسول ويدعوهم ، ويجادلهم فيطيل جدالهم ؛ ثم إذا هو ينقلب نجارا يصنع مركبا . . إنهم يسخرون لأنهم لا يرون إلا ظاهر الأمر ، ولا يعلمون ما وراءه من وحي وأمر . شأنهم دائما في إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير . فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلاء أنه يبادلهم سخرية بسخرية :
( قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) . .
نسخر منكم لأنكم لا تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير الله وما ينتظركم من مصير :
{ ويصنع الفلك } حكاية حال ماضية . { وكلما مرّ عليه ملأٌ من قومه سخروا منه } استهزؤوا به لعمله السفينة فإنه كان يعملها في برية بعيدة من الماء أوان عزته ، وكانوا يضحكون منه ويقولون له : صرت نجارا بعدما كنت نبيا . { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . وقيل المراد بالسخرة الاستجهال .
التقدير : فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال ، إذ في خلالها وقع مرورهم ، قال ابن عباس : صنع نوح الفلك بيفاع دمشق{[6330]} وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشاذ وهو البقص{[6331]} . وروي أن عودها من الساج وأن نوحاً عليه السلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة ؛ وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان ، وعرضها ستمائة ذراع ، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل : طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، ذكره قتادة ، وروي غير هذا مما لم يثبت ، فاختصرت ذكره ، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات : طبقة للناس ، وطبقة للبهائم ، وطبقة للطير ، إلى غير ذلك في حديث طويل{[6332]} .
و «الملأ » هنا الجماعة ، و { سخروا } معناه استجهلوه ، وهذا الإستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت - فوجه الإستجهال واضح . وبذلك تظاهرت التفاسير ؛ وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له : صرت نجاراً بعد النبوة ؟ ! ! .
وقوله { فإنا نسخر منكم } قال الطبري : يريد في الآخرة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل الكلام ، بل هو الأرجح ، أن يريد : إنا نسخر منكم الآن ، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.