في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (169)

121

وبعد أن تستريح القلوب ، وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون ، وعلى حقيقة قدر الله في الأمور ، وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير . . ثم على حقيقة الأجل المكتوب ، والموت المقدور ، الذي لا يؤجله قعود ، ولا يقدمه خروج ، ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير . .

بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى . . حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها . . حقيقة أن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . أحياء عند ربهم يرزقون ؛ لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها ، فهم متأثرون بها ، مؤثرون فيها ، والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة .

ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم ، ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة ، التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح ، وخرجت تتعقب قريشا بعد ذهابها خوفا من كرة قريش على المدينة ، ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش ، متوكلة على الله وحده ، محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته :

( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله ، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم : ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول ، من بعد ما أصابهم القرح ، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله ، والله ذو فضل عظيم . . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) . .

لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل ، وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى : ( لو أطاعونا ما قتلوا ) فقال يتحداهم : قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين . .

شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة . . أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة . فكشف لها عن مصير الشهداء : الذين قتلوا في سبيل الله - وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى ، مجردة من كل ملابسة أخرى - فإذا هؤلاء الشهداء أحياء ، لهم كل خصائص الأحياء . فهم " يرزقون " عند ربهم . وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله . وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين . وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم . . فهذه خصائص الأحياء : من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير . فما الحسرة على فراقهم ؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث ، فوق ما نالهم من فضل الله ، وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة ؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه ؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة ؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين ، الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله . . ؟

إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور . إنها تعدل - بل تنشىء إنشاء - تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها ، وهي موصولة لا تنقطع ؛ فليس الموت خاتمة المطاف ؛ بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق !

إنها نظرة جديدة لهذا الأمر ، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين ، واستقبالهم للحياة والموت ، وتصورهم لما هنا وما هناك .

( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) . .

والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله ، وفارقوا هذه الحياة ، وبعدوا عن أعين الناس . . أموات . . ونص كذلك في إثبات أنهم " أحياء " . . " عند ربهم " . ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات ، وصف ما لهم من خصائص الحياة . فهم " يرزقون " . .

ومع أننا نحن - في هذه الفانية - لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء ، إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح . . إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة ، وما بينهما من انفصال والتئام . وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها ؛ وإننا حين ننشىء مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها . لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها ؛ وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى .

فهؤلاء ناس منا ، يقتلون ، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها ، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها . ولكن لأنهم : قتلوا في سبيل الله ؛ وتجردوا له من كل الاعراض والأغراض الجزئية الصغيرة ؛ واتصلت أرواحهم بالله ، فجادوا بأرواحهم في سبيله . . لأنهم قتلوا كذلك ، فإن الله - سبحانه - يخبرنا في الخبر الصادق ، أنهم ليسوا أمواتا . وينهانا أن نحسبهم كذلك ، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده ، وأنهم يرزقون . فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء . .

/خ179

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (169)

{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } نزلت في شهداء أحد . وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد . وقرئ بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول ، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا . والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة . وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين . { بل أحياء } أي بل هم أحياء . وقرئ بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء { عند ربهم } ذوو زلفى منه . { يرزقون } من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء .