وبعد وضوح القضية على هذا النحو ، واستجابة العصبة المؤمنة لله هذه الاستجابة ، يبدو جدل المجادلين في الله مستنكراً لا يستحق الالتفات ، وتبدو حجتهم باطلة فاشلة ليس لها وزن ولا حساب . فتنتهي هذه الفقرة بالفصل في أمرهم ، وتركهم لوعيد الله الشديد :
( والذين يحاجون في الله . من بعد ما استجيب له . حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد ) . .
ومن تكون حجته باطلة مغلوبة عند ربه فلا حجة له ولا سلطان . ووراء الهزيمة والبطلان في الأرض ، الغضب والعذاب الشديد في الآخرة . وهو الجزاء المناسب على اللجاج بالباطل بعد استجابة القلوب الخالصة ؛ والجدل المغرض بعد وضوح الحق الصريح .
{ والذين يحاجون في الله } : أي جادلون في دين الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ من بعد ما أستجيب له } : أي بالإِيمان لظهور معجزته وهم اليهود .
{ حجتهم داحضة } : أي باطلة عند ربهم .
{ وعليهم غضب } : أي من الله ولهم عذاب شديد يوم القيامة .
وقوله تعالى : { والذين يحاجون في الله } أي في دين الله النبي والمؤمنين يريدون أن يردوهم إلى باطلهم من بعد ما استجيب للرسول ودخل الناس في دين الله أفواجا ، هؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم أي باطلة ، وعليهم غضب أي من ربهم ولهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة هذه الآية نزلت في يهود بالمدينة نصبوا أنفسهم خصوماً لصحاب رسول الله يجادلونهم يريدون تشكيكهم في الإِسلام والعودة بهم إلى وثنية الجاهلية وكان هذا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فرد تعالى عليهم وأسكتهم بهذه الآية متوعداً إياهم بالغضب والعذاب الشديد .
- تعين ترك الحجاج والمخاصمة مع أهل الكتاب وكذا أهل الأهواء والبدع لأنا على الحق وهم على الباطل ، فكيف نحاجهم إذ الواجب أن يسلموا وكفى .
{ 16 } { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }
وهذا تقرير لقوله : لا حجة بيننا وبينكم ، فأخبر هنا أن { الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ } بالحجج الباطلة ، والشبه المتناقضة { مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } أي : من بعد ما استجاب للّه أولو الألباب والعقول ، لما بين لهم من الآيات القاطعة ، والبراهين الساطعة ، فهؤلاء المجادلون للحق من بعد ما تبين { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } أي : باطلة مدفوعة { عِنْدَ رَبِّهِمْ } لأنها مشتملة على رد الحق وكل ما خالف الحق ، فهو باطل .
{ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } لعصيانهم وإعراضهم عن حجج اللّه وبيناته وتكذيبها . { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } هو أثر غضب اللّه عليهم ، فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل .
قوله تعالى : " والذين يحاجون في الله " رجع إلى المشركين . " من بعد ما استجيب له " قال مجاهد : من بعد ما أسلم الناس . قال : وهؤلاء قد توهموا أن الجاهلية تعود . وقال قتادة : الذين يحاجون في الله اليهود والنصارى ، ومحاجتهم قولهم نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل الكتاب وأنهم أولاد الأنبياء . وكان المشركون يقولون : " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " {[13482]} [ مريم : 73 ] فقال الله تعالى : " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم " أي لا ثبات لها كالشيء الذي يزل عن موضعه . والهاء في " له " يجوز أن يكون لله عز وجل ، أي من بعد ما وحدوا الله وشهدوا له بالوحدانية . ويجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي من بعد ما استجيب محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته من أهل بدر ونصر الله المؤمنين . يقال : دحضت حجته دُحُوضا بطلت . وأدحضها الله . والإدحاض : الإزلاق . ومكان دَحْضَ ودَحَض أيضا ( بالتحريك ) أي زلق . ودحضت رجله تدحض دحضا زلقت . ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت . " وعليهم غضب " يريد في الدنيا . " ولهم عذاب شديد " يريد في الآخرة عذاب دائم .
ولما كان التقدير : فالذين رجعوا إليه طوعاً في هذه الدار بعد هذا البيان والإظهار ، وتركوا الجدال حجتهم ثابتة ولهم الرضا والنعيم المقيم ، عطف عليه قوله مبتدئاً بالموصول ليصله بما يفهم التجدد والاستمرار : { والذين يحاجّون } أي يوردون تشكيكاً على دينه الحق من الشبه ما يسمونه حججاً ، ولعل الإدغام يشير إلى أن أهل هذا الضرب منافقون يلقون شبههم في خفاء فتشربها قلوب أمثالهم فتصير أهوية فيضعف أمرها ويؤيده تقييد الدحوض بما عند الرب { في الله } أي في دين الملك الأعظم ليعيدوا الناس بعدما دخلوا في نور الهدى إلى ظلام الضلال .
ولما كانت إقامة الحجة وإظهار المعجزة أمراً ملزماً لجميع من بلغه الاستجابة لوصول الأمر إلى حد من البيان سقط معه الجدال ، قال معلماً إن ما كان في قوة الوجود يصح أن يطلق عليه أنه موجود ، ومنبهاً بالجار على ذم هذا الجدال ولو قل زمنه : { من بعدما } ولما كان المقصود مطلق الاستجابة لا من مجيب معين قال : { استجيب له } أي استجاب له الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصار الناس كلهم بما يبين لهم مستجيبين بالقوة وإن لم يستجيبوا بالفعل ، فإن الأمر قد ظهر غاية الظهور ، ولم يبق إلا العناد ، فهذه الجملة هي المراد والثمرة من قوله { لا حجة بيننا وبينكم } .
ولما كان من خالف ظاهره باطنه ضعيف الحجة هلهل النسج ، قال معبراً بمبتدأ ثان مفرداً للحجة إشارة إلى ضعفها : { حجتهم } أي التي زعموها حجة ، وأخبر عن هذا المبتدأ الثاني ليكون هو وخبره خبراً عن الأول فقال : { داحضة } أي زالقة فهي ذاهبة غير ثابتة لأجل أنها في معارضة ما ظهوره كالشمس بل أجلى ، والعبارة لفتٌ إلى صفة الإحسان والعندية إشارة إلى شدة ظهور ما في حجتهم من الدحوض لأن { عند } للأمور الظاهرة المألوفة ، وصفة التربية للعطف والرفق ، والإضافة إلى ضميرهم تقتضي مزيد لطف وعطف ، فهو إشارة إلى أنها هباء منثور عند تدقيق النظر ولا سيما إذا كان بصفة عزة وقهر وغضب ، فالمعنى أن دحوضها ظاهر جداً ولو عوملوا بصفة الإحسان ولو خصوا بمزيد عطف وبر ، فأين هذا مما لو قيل " لدى عليم قدير " فإنه يفهم أن دحوضها لا يدركه إلا بليغ العلم تام القدرة ، وهو مع ذلك غريب فيصير فيه نوع مدح لحجتهم في الجملة : { عند ربهم } أي المحسن إليهم بإفاضة العقل الذي جعلهم به في أحسن تقويم ، فمهما جردوه عن الهوى ، دلهم على أن جميع ما كانوا فيه باطل ، وفيه إشارة إلى أن أدنى ما يعذبهم به قطع إحسانه عنهم ، وأنه يظهر بطلان ما سموه حجة لكل عاقل فيورثهم الخزي في الدنيا والعذاب في الأخرى على أن قطع إحسانه هو عند التأمل أعلى العذاب { وعليهم } زيادة على قطع الإحسان { غضب } أي عقوبة تليق بحالهم المذموم ووصفهم المذؤوم ومنه الطرد ، فهم مطرودون عن بابه ، مبعودون عن جنابه ، مهانون بحجابه . ولما أفهم التعبير ب " على " ذمهم باستعلاء النقم عليهم لم يشكل التعبير باللام ، بل كان مفهماً التهكم والملام فقال : { ولهم } أي مع ذلك { عذاب شديد * } لا تصلون إلى إدراك حقيقة وصفه ، والآية مشيرة إلى الانتصار على أهل الردة وضربهم بكل شدة لسوء منزلتهم عنده كما كشف عنه الحال عند ندب الصديق إليهم بالقتال رضي الله عنه وأرضاه .