روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ٱسۡتُجِيبَ لَهُۥ حُجَّتُهُمۡ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ وَلَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٌ} (16)

{ والذين يُحَاجُّونَ في الله } أي يخاصمون في دينه ، قال ابن عباس . ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم فقالوا : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم ، وفي رواية بدل فديننا الخ فنحن أولى بالله تعالى منكم ، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : لما نزلت { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين : قد دخل الناس في دين الله أفواجاً فاخرجوا من بين أظهرنا أو اتركوا الإسلام ، والمحجة فيه غير ظاهرة ولعلهم مع هذا يذكرون ما فيه ذلك { مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } أي من بعدما استجاب الناس لله عز وجل أو لدينه ودخلوا فيه وأذعنوا له لظهور الحجة ووضح المحجة ، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ } زائلة باطلة لا تقبل عنده عز وجل بل لا حجة لهم أصلاً ، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة وهي الدليل ههنا مجاراة معهم على زعمهم الباطل .

وجوز كون ضمير { لَهُ } للرسول عليه الصلاة والسلام لكونه في حكم المذكور والمستجيب أهل الكتب واستجابتهم له صلى الله عليه وسلم إقرارهم بنعوته واستفتاحهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا هم المحاجين كان الكلام في قوة والذين يحاجون في دين الله من بعدما استجابوا لرسوله وأقروا بنعوته حجتهم في تكذيبه باطلة لما فيها من نفي ما أقروا به قبل وصدقه العيان ، وقيل : المستجيب هو الله عز وجل وضمير { لَهُ } لرسوله عليه الصلاة والسلام ، واستجابته تعالى له صلى الله عليه وسلم بإظهار المعجزات الدالة على صدقه ، وإلى نحوه ذهب الجبائي حيث قال : أي من بعدما استجاب الله تعالى دعاءه في كفار بدر حتى قتلهم بأيدي المؤمنين ودعاءه على أهل مكة حتى قحطوا ودعاءه لمستضعفين حتى خلصهم الله تعالى من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده ، وبطلان حجتهم لظهور خلاف ما تقتضيه بزعمهم بذلك ، وهذا ظاهر في أن هذه الآية مدنية لأن وقعة بدر بعد الهجرة وحمل { استجيب } على الوعد خلاف الظاهر جداً ، وكذا ما روى عن عكرمة ، وقيل : إن حمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب يقتضي ذلك أيضاً إذ لم يكن بمكة أحد منهم ، وقيل : لا يقتضيه لأن خبر استجابتهم وإقرارهم بنعوته صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام بمكة بلغ أهل مكة والمجادلون محمول عليهم فلا مانع من كونها مكية { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } لا يقادر قدره .

ومما قاله أرباب الإشارات في بعض الآيات : { والذين يُحَاجُّونَ في الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } [ الشورى : 16 ] يشير إلى الذين يحاجون في معرفة الله تعالى بشبه العقل الذي استجاب له تعالى حين دعاه فوصل إلى الحضرة فهو في كشف وعيان وأولئك من وراء ما يزعمون أنه برهان