ثم يقرر أصل القضية ، وحقيقة الوضع فيها :
( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم . إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم . وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، وإن الله لعفو غفور ) . .
فهو علاج للقضية من أساسها . إن هذا الظهار قائم على غير أصل . فالزوجة ليست أما حتى تكون محرمة كالأم . فالأم هي التي ولدت . ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أما بكلمة تقال . إنها كلمة منكرة ينكرها الواقع . وكلمة مزورة ينكرها الحق . والأمور في الحياة يجب أن تقوم على الحق والواقع ، في وضوح وتحديد ، فلا تختلط ذلك الاختلاط ، ولا تضطرب هذا الاضطراب . . ( وإن الله لعفو غفور )فيما سلف من هذه الأمور .
{ الذين يظاهرون منكم من نسائهم } : أي يحرمون نساءهم بقول أنت عليَّ كظهر أمي .
{ من هن أمهاتهم } : أي ليس هن بأمهاتهم .
{ إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } : ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، أو أرضعنهم .
{ وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً } : أي وإنهم بالظهار ليقولون منكراً من القول وزوراً أي كذباً .
{ وإن الله لعفو غفور } : أي على عباده أي ذو صفح عليهم غفور لذنوبهم إن تابوا منها .
أولاً : أن الظهار الذي هو قول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي لا يجعل المظاهر منها أمّاً له إذ أمه هي التي ولدته وخرج من بطنها ، والزوجة لا تكون أمّاً بحال من الأحوال .
ثانياً : هذا القول كذب وزور ومنكر من القول وقائله آثم فليتب إلى الله ويستغفره .
ثالثاً : لولا عفو الله وصفحه على عباده والمؤمنين ومغفرته للتائبين لعاقبهم على هذا القول الكذب الباطل .
- حرمة الظهار باعتباره منكراً وكذباً وزوراً فيجب التوبة منه .
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ }
المظاهرة من الزوجة : أن يقول الرجل لزوجته : " أنت علي كظهر أمي " أو غيرها من محارمه ، أو " أنت علي حرام " وكان المعتاد عندهم في هذا لفظ " الظهر " ولهذا سماه الله " ظهارا " فقال : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } أي : كيف يتكلمون بهذا الكلام الذي يعلم{[1002]} أنه لا حقيقة له ، فيشبهون أزواجهم بأمهاتهم اللاتي ولدنهم ؟ ولهذا عظم الله أمره وقبحه ، فقال : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } أي : قولا شنيعا ، { وزورا } أي : كذبا .
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } عمن صدر منه بعض المخالفات ، فتداركها بالتوبة النصوح .
ثم ذم الظهار فقال { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم } أي ما اللواتي يجعلن من الزوجات كالأمهات بأمهات { إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } ما أمهاتهم الا الوالدات { وإنهم ليقولون } بلفظ الظهار { منكرا من القول } لاتعرف صحته { وزورا } وكذبا فإن المرأة لا تكون كالأم { وإن الله لعفو غفور } عفا وغفر للمظاهر بجعل الكفارة عليه .
الأولى- قوله تعالى : " الذين يظاهرون{[14745]} " قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف " يظاهرون " بفتح الياء وتشديد الظاء وألف . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب " يظهرون " بحذف الألف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء . وقرأ أبو العالية وعاصم وزر بن حبيش " يظاهرون " بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء . وقد تقدم هذا في " الأحزاب{[14746]} " . وفي قراءة أبى " يتظاهرون " وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة . وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب ، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنى عنه بالظهر ؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره ، فكنى بالظهر عن الركوب . ويقال : نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب . ومعنى أنت علي كظهر أمي : أي أنت علي محرمة لا يحل لي ركوبك .
الثانية- حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر ، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم ، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته : أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر . وأكثرهم على أنه إن قال لها : أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر . وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما . واختلف فيه عن الشافعي رضي الله عنه ، فروي عنه نحو قول مالك ؛ لأنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالأم . وروى عنه أبو ثور : أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها . وهو مذهب قتادة والشعبي . والأول قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري .
الثالثة- أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا . فإن قال : أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر ، أو قال : أنت علي مثل أمي ، فإن أراد الظهار فله نيته ، وإن أراد الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك ، وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا . ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق ، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار ، وكناية الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت .
الرابعة- ألفاظ الظهار ضربان : صريح وكناية ، فالصريح أنت علي كظهر أمي ، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي . وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه ، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر ، مثل قوله : يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه . وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يكون ظهارا . وهذا ضعيف منه ؛ لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافا لأبي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه . ومتى شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف . وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت ، والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء ، وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا . والكناية أن يقول : أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية . فإن أراد الظهار كان ظهارا ، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة . وقد تقدم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك ، والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا . أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فإن معنى اللفظ فيه موجود - واللفظ بمعناه - ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم ، قاله ابن العربي .
الخامسة- إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان مظاهرا ، خلافا لأبي حنيفة في قوله : إنه إن شبهها بعضو يحل له النظر إليه لم يكن مظاهرا . وهذا لا يصح ؛ لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له ، وفيه وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر ، وقد قال الإمام الشافعي في قوله : إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده . وهذا فاسد ؛ لأن كل عضو منها محرم ، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر ، ولأن المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى .
السادسة- إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الأول ، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا ، فمنهم من قال : يكون ظهارا . ومنهم من قال : يكون طلاقا . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يكون شيئا . قال ابن العربي : وهذا فاسد ؛ لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر ، والأسماء بمعانيها عندنا ، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم .
قلت : الخلاف في الظهار بالأجنبية قوي عند مالك . وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن . ومنهم من لا يجعله شيئا . ومنهم من يجعله في الأجنبية طلاقا . وهو عند مالك إذا قال : كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه . وقد روي عنه أيضا : أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء ، كما قال الكوفي والشافعي . وقال الأوزاعي : لو قال لها أنت علي كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها . والله أعلم .
السابعة- إذا قال : أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا ؛ لأن قوله : أنت حرام علي يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة ، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لأحد الاحتمالين يقضي به فيه .
الثامنة- الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه . وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه ، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يلزم . قال القاضي أبو بكر بن العربي : وهي مسألة عسيرة جدا علينا ؛ لأن مالكا يقول : إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم . فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته . ولكن تدخل الأمة في عموم قوله : " من نسائهم " لأنه أراد من محللاتهم . والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فصح في الأمة ، أصله الحلف بالله تعالى .
التاسعة- ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك . ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة ، لقوله تعالى : " من نسائهم " وهذه ليست من نسائه . وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة " التوبة " عند قوله تعالى " ومنهم من عاهد الله{[14747]} " [ التوبة : 75 ] الآية .
العاشرة- الذمي لا يلزم ظهاره . وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : يصح ظهار الذمي ، ودليلنا قوله تعالى : " منكم " يعني من المسلمين . وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب . فإن قيل : هذا استدلال بدليل الخطاب . قلنا : هو استدلال بالاشتقاق والمعنى ، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار ، وذلك كقوله تعالى : " وأشهدوا ذوي عدل منكم{[14748]} " [ الطلاق : 2 ] وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة ، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال .
الحادية عشرة- قوله تعالى : " منكم " يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه . وحكاه الثعلبي عن مالك ، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام .
وقال مالك رضي الله عنه : ليس على النساء تظاهر ، وإنما قال الله تعالى : الثانية عشرة- " والذين يظهرون منكم من نسائهم " ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن ، إنما الظهار على الرجال . قال ابن العربي : هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد . وهو صحيح معنى ؛ لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم{[14749]} في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شيء وهذا إجماع . قال أبو عمر : ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء . وقال الحسن بن زياد : هي مظاهرة . وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد : ليس ظهار المرأة من الرجل بشيء قبل النكاح كان أو بعده . وقال الشافعي : لا ظهار للمرأة من الرجل . وقال الأوزاعي إذا قالت المرأة لزوجها ، أنت علي كظهر أمي{[14750]} فلانة فهي يمين تكفرها . وكذلك قال إسحاق ، قال : لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها . وقال الزهري : أرى أن تكفر الظهار ، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها ، رواه عنه معمر . وابن جريج عن عطاء قال : حرمت ما أحل الله عليها كفارة يمين . وهو قول أبي يوسف . وقال محمد بن الحسن : لا شيء عليها .
الثالثة عشرة- من به لَمَمٌ وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره ، لما روي في الحديث : أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لَمَم فأصابه بعض لَمَمِه فظاهر من امرأته .
الرابعة عشرة- من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه . وفي بعض طرق هذا الحديث ، قال يوسف بن عبدالله بن سلام : حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت ، قالت : كان بيني وبينه شيء ، فقال : أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه . فقولها : كان بيني وبينه شيء ، دليل على منازعة أحرجته{[14751]} فظاهر منها . والغضب لغو لا يرفع حكما ولا يغير شرعا وكذلك السكران وهي :
الخامسة عشرة : يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظَم قوله ونظَم كلامه ، لقوله تعالى : { حتى تعلموا ما تقولون } [ النساء : 43 ] على ما تقدم في " النساء{[14752]} " بيانه ، والله أعلم .
السادسة عشرة- ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر ، خلافا للشافعي في أحد قوليه ؛ لأن قوله : أنت علي كظهر أمي يقتضي تحريم كل استمتاع بلفظه ومعناه ، فإن وطئها قبل أن يكفر وهي :
السابعة عشرة : استغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة . وقال مجاهد وغيره : عليه كفارتان . روى سعيد عن قتادة ، ومطرف عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر : إذا وطئ قبل أن يكفر عليه كفارتان . ومعمر عن قتادة قال : قال قبيصة بن ذؤيب : عليه كفارتان . وروى جماعة من الأئمة منهم ابن ماجه والنسائي عن ابن عباس : أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال : ( ما حملك على ذلك ) فقال : يا رسول الله ! رأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمره ألا يقربها حتى يكفر . وروى ابن ماجه والدارقطني عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر أنه ظاهر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا .
الثامنة عشرة- إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة ، كقوله : أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا من كل واحدة منهن ، ولم يجز له وطء إحداهن وأجزأته كفارة واحدة . وقال الشافعي : تلزمه أربع كفارات . وليس في الآية دليل على شيء من ذلك ؛ لأن لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعول على المعنى . وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة ، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة . وهذا إجماع .
التاسعة عشرة- فإن قال لأربع نسوة : إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفر ، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن . وقد قيل : لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر . والأول هو المذهب .
الموفية العشرون- وإن قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة{[14753]} ، لزمه الطلاق والظهار معا ، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفر ، فإن قال لها : أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار ؛ لأن المبتوتة لا يلحقها طلاق .
الحادية والعشرون- قال بعض العلماء : لا يصح ظهار غير المدخول بها . وقال المزني : لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة ، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياسا ونظرا . والله أعلم .
الثانية والعشرون- قوله تعالى : " ما هن أمهاتهم " أي ما نساؤهم بأمهاتهم . وقراءة العامة " أمهاتهم " بخفض التاء على لغة أهل الحجاز ، كقوله تعالى : { ما هذا بشرا } [ يوسف : 31 ] . وقرأ أبو معمر والسلمي وغيرهما " أمهاتهم " بالرفع على لغة تميم . قال الفراء : أهل نجد وبنو تميم يقولون " ما هذا بشر " ، و " ما هن أمهاتهم " بالرفع . " إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم " أي ما أمهاتهم إلا الوالدات . وفي المثل : ولدك من دَمَّى عَقِبَيْكِ . وقد تقدم القول في اللائي في " الأحزاب{[14754]} " .
الثالثة والعشرون- " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " أي فظيعا من القول لا يعرف في الشرع . والزور الكذب " وإن الله لعفو غفور " إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر .
{ الذين يظاهرون منكم من نسائهم } قرئ يظاهرون بألف بعد الظاء وبحذفها وبالتشديد والتخفيف والمعنى واحد وهو إيقاع الظهار ، والظهار المجمع عليه هو أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ويجري مجرى ذلك عند مالك تشبيه الزوجة بكل امرأة محرمة على التأبيد كالبنت والأخت وسائر المحرمات بالنسب والمحرمات بالرضاع والمصاهرة سواء ذكر لفظ الظهر أو لم يذكره كقوله : أنت علي كأمي أو كبطن أمي أو يدها أو رجلها خلافا للشافعي فإن ذلك كله عنده ليس بظهار لأنه وقف عند لفظ الآية ، وقاس مالك عليها لأنه رأى أن المقصد تشبيه بحرام .
{ ما هن أمهاتهم } رد الله بهذا على من كان يوقع الظهار ويعتقده حقيقة وأخبر تعالى أن تصير الزوجة أما باطل فإن الأم في الحقيقة إنما هي الوالدة .
{ وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور ، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة والزور هو الكذب وإنما جعله كذبا لأن المظاهر يصير امرأته كأمه وهي لا تصير كذلك أبدا والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء :
أحدها : قوله تعالى : { ما هن أمهاتهم } فإن ذلك تكذيب للمظاهر .
والرابع : قوله : { وإن الله لعفو غفور } فإن العفو والمغفرة لا تقع إلا عن ذنب وهو مع ذلك لازم للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة .
ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم ، استأنف الإخبار عن حكم{[63017]} الأمر المجادل بسببه ، فقال ذاماً للظهار ، وكاسياً له ثوب العار : { الذين } ولما كان الظهار منكراً لكونه كذباً ، عبر بصيغة التفعل الدالة عليه فقال : { يظهرون } أي يوجدون الظهار في أي رمضان كان{[63018]} وكأنه أدغم تاء التفعل والمفاعلة لأن حقيقته أنه يذهب ما أحل الله له من مجامعة زوجته . ولما كان الظهار خاصاً بالعرب دون سائر الأمم ، نبه على ذلك تهجيناً{[63019]} له عليهم وتقبيحاً لعادتهم فيه ، تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس من{[63020]} هذا الكلام لأن الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية ، ثم ما{[63021]} زاده الإسلام إلا{[63022]} استهجاناً فقال : { منكم } أي أيها العرب المسلمون الذين يستقبحون الكذب ما لا يستقبحه غيرهم وكذا من دان دينهم { من نسائهم } أي يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم بأن{[63023]} يقول أحدهم{[63024]} لزوجته شيئاً من صرائحه مثل {[63025]}أنت عليّ كظهر{[63026]} أمي أوكناياته{[63027]} كأنت أمي ، وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره من حر أو عبد مسلم أو ذمي دخل بالزوجة أو لا قادراً كان على الجماع أو عاجزاً{[63028]} ، صغيرة كانت الزوجة أو كبيرة ، عاقلة كانت{[63029]} أو مجنونة ، سليمة كانت أو رتقاء ، مسلمة كانت أو ذمية ، ولو كانت رجعية .
ولما كان{[63030]} وجه الشبه التحريم ، وكان للتحريم رتبتان{[63031]} : عليا موصوفة بالتأبيد والاحترام ، ودنيا خالية عن كل من الوصفين ، وكان التقدير خبراً للمبتدأ : مخطئون في ذلك لأنه كذب ، لأن التشبيه إن أسقطت أداته{[63032]} لم يكن حمله على الحقيقة ليكون من الرتبة العليا ولو على أدنى أحوالها من أنه طلاق لا رجعة فيه ، كما كانوا يعتقدونه ، وإن أثبتت ليكون{[63033]} من الدنيا لم يكن صحيحاً لأنه ممنوع منه لأن التشريع إنما هو لله ، والله لم يكن يشرع ذلك ، وكان تعليل شقي التشبيه يفيد معنى الخبر بزيادة{[63034]} التعليل ، حذف الخبر ، واكتفى بالتعليل فقال معللاً له مهجناً للظهار الذي تعوده العرب من غير أن يشاركهم فيه أحد من الأمم : { ما هن } أي نساؤهم{[63035]} { أمهاتهم } على تقدير إرادة أحدهم أعلى{[63036]} رتبتي التحريم ، والحاصل أنهم لما كانوا يعتقدون أنه طلاق لا رجعة فيه جعلوا معتقدين أن المرأة أم لأن الحرمة المؤبدة{[63037]} من خصائص الأم فخوطبوا بذلك تقريعاً لهم لأنه أردع ، وفي سورة الأحزاب ما يوضح هذا .
ولما كانوا قد مرنوا على هذا الحكم في الجاهلية ، واستقر{[63038]} في أنفسهم استقراراً لا يزول إلا بغاية التأكيد ، ساق الكلام كذلك في الشقين فقال : { إن } أي ما { أمهاتهم } أي{[63039]} حقيقة { إلا اللاَّئي ولدنهم } ونساؤهم لم تلدهم ، فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام ، ولا هن ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح وكأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن أمهات لما{[63040]} لهن من حق الإكرام والاحترام والإعظام {[63041]}ما لم يكن لغيرهن{[63042]} لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم في أبوة الدين من أب النسب و{[63043]}كذلك المرضعات لما لهن من الإرضاع الذي هو وظيفة الأم بالأصالة ، وأما الزوجة فمباينة{[63044]} لجميع ذلك .
ولما فرغ من تعليل الشق الأول على أتم وجه ، أتبعه تعليل الآخر كذلك ، فقال عاطفاً عليه مؤكداً لأنهم كانوا قد ألفوا قوله فأشربته قلوبهم : { وإنهم } أي المظهرون{[63045]} { ليقولون } أي في هذا التظهر على كل حالة { منكراً من القول } ينكره{[63046]} الحقيقة{[63047]} والأحكام ، قال ابن الملقن في عمدة{[63048]} المحتاج : وهو حرام اتفاقاً كما ذكره الرافعي في الشهادات . { وزوراً } أي قولاً مائلاً عن السداد ، منحرفاً عن القصد ، لأن الزوجة معدة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان ، والأم في غاية البعد عن ذلك لأنها أهل لكل احترام ، فلا هي أم حقيقة ولا شبيهة بها بأمر نصبه الشارع للاحترام كالإرضاع ، وكونها فراشاً لعظيم كالنبي أو للأب أو للحرمة كاللعان ، {[63049]}فقد علم{[63050]} أن ذلك الكلام ليس بصدق ولا جاء به مسوغ ، فهو زور محض ، وأخصر من هذا أن يقال : ولما كان ظهارهم هذا يشتمل على {[63051]}فعل وقول{[63052]} ، وكان الفعل هو التحريم الذي هو موضع وجه الشبه ، وكانت العادة في وجه الشبه{[63053]} أن يقنع منه بأدنى ما ينطلق عليه الاسم ، وكانوا قد خالفوا ذلك فجعلوه في أعلى طبقاته وهو الحرمة المؤبدة التي{[63054]} يلزم منها أن تكون المشابهة من كل وجه في الحرمة مع أن ذلك بغير مستند من الله تعالى الذي لا حكم لغيره ، ألزمهم أن يكون الشبه من كل وجه{[63055]} مطلقاً فيكونوا جاعلين الزوجة إما حقيقة لا دعوى كما جعلوا الحرمتين كذلك من غير فرق بل أولى لأن الشبه إنما وقع بين الحيثيتين لا بين الحرمتين{[63056]} - ثم وقفهم على جهلهم فيه فقال { ما هن } إلى آخره ، ولما وقفهم على جهلهم في الفعل وقفهم على جهلهم في القول : فقال : و{[63057]}أنهم إلى آخره ، قال النووي في الروضة : قال الأصحاب : الظهار حرام ، وله حكمان : أحدهما تحريم الوطء إذا وجبت الكفارة إلى أن يكفر ، والثاني وجوب الكفارة بالعود - انتهى ، وهذا القول وإن أفاد التحريم فإنه{[63058]} يفيد لكونه ممنوعاً منه على وجه ضيق{[63059]} حرج المورد عسر المخرج ليكون عسره زاجراً عن الوقوع فيه ، قال أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع : وظاهر الرجل امرأته{[63060]} وظاهر من امرأته{[63061]} إذا قال : أنت عليّ كظهر أمي أو كذات محرم ، وإنما استخصوا الظهر في الظهار لأن الظهر موضع الركوب ، والمرأة {[63062]}مركب الرجل{[63063]} في النكاح فكني به عن ذلك ، فكأنه قال : ركوبك عليّ للنكاح كركوب أمي ، وكان الظهار في الجاهلية طلاقاً ، ولذلك أشكل معنى قوله تعالى { ثم يعودون لما قالوا } وقال ابن الأثير في النهاية{[63064]} : ظاهر الرجل من{[63065]} امرأته ظهاراً وتظهر وتظاهر إذا قال لها : أنت عليّ كظهر أمي ، وكان في الجاهلية طلاقاً{[63066]} ، وقيل : إنهم أرادوا أنت عليّ كبطن أمي أي كجماعها ، فكنوا بالظهر عن البطن للمجاورة ، وقيل إن إتيان المرأة وظهرها {[63067]}إلى السماء{[63068]} كان حراماً عندهم ، وكان أهل المدينة يقولون : إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول ، فلقصد الرجل المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك{[63069]} حتى جعلها كظهر أمه ، وإنما عدى الظهار ب { من } لأنهم كانوا إذا ظاهروا المرأة تجنبوها كما يتجنبون المطلقة ويحترزون منها ، فكأن قوله : ظاهر من امرأته ، أي بعد واحترز منها كما قيل : آلى من امرأته ، لما ضمن معنى التباعد عدى ب { من } - انتهى{[63070]} ، قال : وقال ابن الملقن في العمدة شرح المنهاج : وكان طلاقاً في الجاهلية ، ونقل عن صاحب الحاوي أنه عندهم لا رجعة فيه ، قال : فنقل الشارع حكمه إلى تحريم بعد العود ووجوب الكفارة - انتهى وقال أبو حيان{[63071]} : قال أبو قلابة وغيره{[63072]} : كان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة .
ولما كان التقدير : فإن الله حرمه ، عطف عليه مرغباً في التوبة وداعياً إليها قوله مؤكداً لأجل ما يعتقدون من غلظه وأنه لا{[63073]} مثنوية فيه { وإن الله } أي الملك الأعظم الذي{[63074]} لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره { لعفو } من صفاته أن يترك عقاب من شاء { غفور * } من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره حتى أنه كما{[63075]} لا يعاقب عليه لا يعاتب{[63076]} ، فهل من تائب طلباً للعفو عن زلله ، والإصلاح لما كان من خلله .