ولقد سبقتهم أقوام وأحزاب على شاكلتهم ، توحي عاقبتهم بعاقبه كل من يقف في وجه القوة الطاحنة العارمة التي يتعرض لها من يعرض نفسه لبأس الله :
( كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم . فكيف كان عقاب ? ) . .
فهي قصة قديمة من عهد نوح . ومعركة ذات مواقع متشابهة في كل زمان . وهذه الآية تصور هذه القصة . قصة الرسالة والتكذيب والطغيان على مدى القرون والأجيال كما تصور العاقبة في كل حال .
رسول يجيء . فيكذبه طغاة قومه . ولا يقفون عند مقارعة الحجة بالحجة ، إنما هم يلجأون إلى منطق الطغيان الغليظ ، فيهمون أن يبطشوا بالرسول ، ويموهون على الجماهير بالباطل ليغلبوا به الحق . . هنا تتدخل يد القدرة الباطشة ، فتأخذهم أخذاً يعجب ويدهش ، ويستحق التعجيب والاستعراض :
ولقد كان عقاباً مدمراً قاضياً عنيفاً شديداً ، تشهد به مصارع القوم الباقية آثارها ، وتنطق به الأحاديث والروايات .
{ والأحزاب من بعدهم } : أي وكذبت الأحزاب من بعد قوم نوح ، وهم عاد وثمود وقوم لوط .
{ وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } : أي ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل .
{ وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } : أي ليزيلوا به الحق ويبطلوه .
{ فكيف كان عقاب } : أي كان واقعاً موقعه حيث أهلكهم ولم يبق منهم أحداً .
والدليل فقد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون ، وقد همت كل أمة من تلك الأمم برسولها لتأخذه فتقتله أو تنكل به . وقد جادلوا بالباطل كما جادل . قومك من قريش ليدحضوا به الحق أي ليزيلوه ويبعدوه بباطلهم . فأخذتهم فكيف كان عقاب أي كان واقعاً موقعه والحمد لله إذ قطع الله دابرهم وأنهى وجودهم وخصومتهم .
فإن عاقبتهم كعاقبة من قبلهم من الكفار وهو قوله { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم } أي الذين تحزبوا على أنبيائهم بالمخالفة والعداوة كعاد وثمود { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } أي قصدت كل أمة رسولها ليتمكنوا منه فيقتلوه { وجادلوا } بباطلهم { ليدحضوا } ليدفعوا { به الحق فأخذتهم } فعاقبتهم { فكيف كان عقاب } استفهام تقرير
ولما نهى عن الاغترار بما لا قوة لاحد على صرفه من نفسه إلا بتأييد من الله ، علله بما يحقق معنى النهي من أن التقلب وما يثمره لا يصح أن يكون معتمداً ليزهد فيه كل من سمع هاتين الآيتين ، فقال مشيراً بتأنيث الفعل إلى ضعفهم عن المقاومة ، وتلاشيهم عند المصادمة ، وإن كانوا في غاية القوة بالنسبة إلى أبناء جنسهم : { كذبت } ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم ، جعل مستغرقاً بجميع الزمان ، فقال من غير خافض : { قبلهم } ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزباً واحداً مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع ، وحدهم فقال : { قوم نوح } أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء . ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان ، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال : { والأحزاب } أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً ، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله : { من بعدهم } .
ولما كان التكذيب وحده كافياً في الأذى ، دل على أنهم زادوا عليه بالمبالغة في المناصبة بالمعاندة ، وقدم قصد الإهلاك لأنه أول ما يريده العدو فإن عجز عنه نزل إلى ما دونه فقال : { وهمَّت كل أمة } أي من الأحزاب المذكورين { برسولهم } أي الذي أرسلناه إليهم . ولما كان الأخذ يعبر عنه عن الغلبة والقهر والاستصغار مع الغضب قال : { ليأخذوه } ولما كان سوق الكلام هكذا دالاً على أنهم عجزوا عن الأخذ ، ذكر أنهم بذلوا جهدهم في المغالبة بغيره ، فقال حاذفاً للمفعول تعميماً : { وجادلوا بالباطل } أي الأمر الذي لا حقيقة له ، وليس له من ذاته إلا الزوال ، كما تفعل قريش ومن انضوى إليهم من العرب ، ثم بين علة مجادلتهم فقال : { ليدحضوا } أي ليزلقوا فيزيلوا { به الحق } أي الثابت ثباتاً لا حيلة في إزالته .
ولما كان من المعلوم لكل ذي لب أن فاعل ذلك مغلوب ، وأن فعله مسبب لغضب المرسل عليه ، قال صارفاً القول إلى المتكلم دفعاً للالباس ، وإشارة إلى شدة الغضب وجرده عن مظهر العظمة استصغاراً لهم : { فأخذتهم } أي أهلكتهم وهم صاغرون غضباً عليهم وإهانة لهم . ولما كان أخذه عظيماً ، دل على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عن حاله لزيادة عظمتها في قوة بطشها وسرعة إهلاكها وخرقها للعوائد فقال : { فكيف كان عقاب * } ومن نظر ديارهم وتقرى آثارهم وقف على بعض ما أشرنا إليه ونبهنا عليه ، وحذف ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد وإن كان المعذب جميع العباد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.