( وجعل فيها رواسي من فوقها ) . . وكثيراً ما يرد تسمية الجبال( رواسي )وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي ( أن تميد بكم )أي إنها هي راسية ، وهي ترسي الأرض ، وتحفظ توازنها فلا تميد . . ولقد غبر زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة ! ثم جاء زمان يقال لهم فيه الآن : إن أرضكم هذه إن هي إلا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق ، لا تستند إلى شيء . . ولعلهم يفزعون حين يقال لهم هذا الكلام أول مرة أو لعل منهم من ينظر بوجل عن يمينه وعن شماله خيفة أن تتأرجح به هذه الأرض أو تسقط في أعماق الفضاء ! فليطمئن . فإن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ! وليطمئن فإن النواميس التي تحكم هذا الكون متينة من صنع القوي العزيز !
ونعود إلى الجبال فنجد القرآن يقول إنها( رواسي )وإنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد . ولعلها - كما قلنا في موضع آخر من هذه الظلال - تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد .
" إن كل حدث يحدث في الأرض ، في سطحها أو فيما دون سطحها ، يكون من أثره انتقال مادة من مكان إلى مكان يؤثر في سرعة دورانها . فليس المد والجزر هو العامل الوحيد في ذلك . [ أي في بطء سرعة الأرض كما قال قبل هذه الفقرة ] حتى ما تنقله الأنهار من مائها من ناحية في الأرض إلى ناحية يؤثر في سرعة الدوران . وما ينتقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران . وسقوط في قاع البحار ، أو بروز في سطح الأرض هنا أو هنا يؤثر في سرعة الدوران . . ومما يؤثر في سرعة هذا الدوران أن تتمدد الأرض أو تنكمش بسبب ما . و لو انكماشاً أو تمدداً طفيفاً لا يزيد في قطرها أو ينقص منه إلا بضع أقدام "
فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد ، لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة : ( أن تميد بكم )كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً .
( وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ) . . وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها . . فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة ، فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا . .
وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء . وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع . وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار . . وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات .
وهناك هواء . ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا . . .
" إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر . وتلف أكثر الصخر طبقة من ماء . وتلف الصخر والماء جميعاً طبقة من هواء . وهي طبقة من غاز سميكة . كالبحر ، لها أعماق . ونحن - بني الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، نعيش في هذه الأعماق ، هانئين بالذي فيها .
" فمن الهواء نستمد أنفاسنا ، من أكسجينه . ومن الهواء يبني النبات جسمه ، من كربونه ، بل من أكسيد كربونه ، ذلك الذي يسميه الكيماويون ثاني أكسيد الكربون . يبني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا . ونحن نأكل النبات . ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات . ومن كليهما نبني أجسامنا . بقي من غازات الهواء النتروجين ، أي الأزوت ، فهذا لتخفيف الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا . وبقي بخار الماء وهذا لترطيب الهواء . وبقيت طائفة من غازات أخرى ، توجد فيه بمقادير قليلة هي - في غير ترتيب - الأرجون ، والهيليوم ، والنيون ، وغيرها . ثم الإدروجين ، وهذه تخلفت - على الأكثر - في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى ؛ .
والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا - والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون - كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو فى جوها سواء . وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو ? إنه مركب من الكربون والايدروجين والاكسجين . والماء علمنا تركيبه من الادروجين والاكسجين . . وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة . . إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعه فيها . .
فهذا كله يشير إلى شيء من البركة وشيء من تقدير الأقوات . . في أربعة أيام . . فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة . . هي أيام الله ، التي لا يعلم مقدارها إلا الله
{ وجعل فيها رواسي } : أي جبالاً ثوابت .
{ وبارك فيها } : أي في الأرض بكثرة المياه والزروع والضروع .
{ وقدر فيها أقواتها } : أي أقوات الناس والبهائم .
{ في أربعة أيام } : أي في تمام أربعة أيام وهي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء .
{ سواء للسائلين } : أي في أربعة أيام هي سواء لمن يسال فإنها لا زيادة فيها ولا نقصان .
وقوله تعالى في الآية الثانية ( 9 ) { وجعل فيها } أي في الأرض رواسي أي جبالا ثوابت ترسو في الأرض حتى لا تميد بأهلها ولا تميل فيخرب كل شيء عليها ، { وبارك فيها } بكثرة المياه والرزق والضروع والخيرات { وقد فيها أقواتها } تقديراً يعجز البيان عن وصفه ، والقلم عن رقمه والآلات الحاسبة عن عِدّة . وذلك كله من الخلق والتقدير { في أربعة أيام سواء } لمن يسأل عنها إنها الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء أي مقدرة بأيامنا هذه التي تكونت نتيجة الشمس والقمر والليل والنهار فلا تزيد يوماً ولا تنقص آخر .
- لا تعارض بين قوله تعالى في هذه الآية ثم استوى إلى السماء المشْعِر بأن خلق السموات كان بعد خلق الأرض ، وبين قوله ، والأرض بعد ذلك دحاها من سورة والنازعات المفهم أن دَحْوَ الأرض كان بعد خلق السماء ، إذ فسر تعالى دَحْوَ الأرض بإخراج مائها ومرعاها وهو ما ترعاه الحيوانات التي سيخلقها عليها ، ثم قوله خلق الأرض في يومين على صورة يعلمها هو ولا نعلمها نحن ، وتقدير الأقوات في قوله وقدر فيها أقواتها لا يستلزم أن يكون فعلا أظهر ما قدره إلى حيز الوجود ، وحينئذ لا تعارض بين ما يدل من الآيات على خلق الأرض أولا ثم خلق السموات وهو الذي صرحت به الأحاديث إذ خلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين وبعد أن خلق السموات دحا الأرض فأخرج منها ما قدره فيها من أقوات وأرزاق الحيوانات حسب سنته في ذلك .
{ وبارك فيها } بما خلق فيها من المنافع { وقدر فيها أقواتها } أرزاق أهلها وما يصلح لمعاشهم من البحار والأنهار والأشجار والدواب { في أربعة أيام } في تتمة أربعة أيام وهو يوم الثلاثاء والأربعاء فصارت الجملة أربعة أيام خلق الله الأرض وما فيها من سبب الأقوات والمنافع والتجارات فتم أمرها في أربعة أيام { سواء } أي استوت استواء وسواء { للسائلين } عن ذلك أي لمن سأل في كم خلقت السموات والأرض فيقال في أربعة أيام
" وجعل فيها " أي في الأرض " رواسي من فوقها " يعني الجبال . وقال وهب : لما خلق الله الأرض مادت على وجه الماء ، فقال لجبريل ثبتها يا جبريل . فنزل فأمسكها فغلبته الرياح ، قال : يا رب أنت أعلم لقد غلبت فيها فثبتها بالجبال وأرساها " وبارك فيها " بما خلق فيها من المنافع . قال السدي : أنبت فيها شجرها . " وقدر فيها أقواتها " قال السدي والحسن : أرزاق أهلها ومصالحهم . وقال قتادة ومجاهد : خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها في يوم الثلاثاء والأربعاء . وقال عكرمة والضحاك : معنى " قدر فيها أقواتها " أي أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد . قال عكرمة : حتى إنه في بعض البلاد ليتبايعون الذهب بالملح مثلا بمثل . وقال مجاهد والضحاك : السابري من سابور ، والطيالسة من الري ، والحبر اليمانية من اليمن . " في أربعة أيام " يعني في تتمة أربعة أيام . ومثاله قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما ، أي في تتمة خمسة عشر يوما . قال معناه ابن الأنباري وغيره . " سواء للسائلين " قال الحسن : المعنى في أربعة أيام مستوية تامة . الفراء : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين . واختاره الطبري . وقرأ الحسن البصري ويعقوب الحضرمي " سواء للسائلين " بالجر وعن ابن القعقاع " سواء " بالرفع ، فالنصب على المصدر و " سواء " بمعنى استواء أي استوت استواء . وقيل : على الحال والقطع ، والجر على النعت لأيام أو لأربعة أي " في أربعة أيام " مستوية تامة . والرفع على الابتداء والخبر " للسائلين " أو على تقدير هذه " سواء للسائلين " . وقال أهل المعاني : معنى " سواء للسائلين " ولغير السائلين ، أي خلق الأرض وما فيها لمن سأل ولمن لم يسأل ، ويعطي من سأل ومن لا يسأل .
ولما ذكر ما هم به مقرون من إبداعها ، أتبعه ما جعل فيها من الغرائب ، فقال عاطفاً على ما تقديره : أبدع الأرض على ما ذكر : { وجعل } ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بأجنبي { فيها رواسي } هي أشدها وهي الجبال ، ونبه على أنها مخالفة للرواسي في كونها تحت ما يراد إرساؤه فقال : { من فوقها } فمنعتها من الميد ، فعل ذلك لكونه أدل على القدرة ، فإنها لو كانت من تحت لظن أنها ، أساطين حاملة ، ولتظهر منافع الجبال بها أنفسها وبما فيها ، ويشاهد أنها أثقال مفتقرة إلى حامل . ولما هيأها لما يراد منها ، ذكر ما أودعها فقال : { وبارك فيها } أي جعلها قابلة ميسرة صالحة بالأقوات والنافع من الذوات والمعاني المعينة على محاسن الأعمال الميسرة للسير إليه والإقبال عليه ، ودالة على جميع صفاته الحسنى وأسمائه العلى وغير ذلك من المعارف والقدر والقوى { وقدر فيها أقواتها } أي جعلها مع البركة على مقدار لا تتعداه ، ومنهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه ، وقدره فأمضاه ، ومن ذلك أنه خص بعض البلاد بشيء لا يوجد في غيرها لتنظيم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض ، فكان جميع ما تقدم من إيداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها ، دفعة واحدة لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً ، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه ، وفي الأرض أضعاف كفايته ، ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها فقال : { في أربعة أيام } وهذا العدد عند ضم اليومين الماضيين إلى يومي الأقوات وهما الثلاثاء والأربعاء ، أو يكون المعنى في تتمته أربعة أيام ، ولا يحمل على الظاهر ليكون ستة لأنه سيأتي للسماوات يومان فكانت تكون ثمانية ، فتعارض آية { الم السجدة } { لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } وفصل مقدار ما خلقها فيه ومقدار ما خص الأقوات والمنافع لإحاطة العلم بأنه يخص كل أمر من الأمرين يومان ، ونص على الأولين ليكون ذلك أدل على القدرة فيحسن موقع النعي عليهم بما فصل به الآيتين من اتخاذ الأنداد ، وإنما كان أدل على القدرة ، لأنه إيجاد ذوات محسوسة من العدم قائمة بأنفسها بخلاف البركة ، وتقدير الأقوات فإنه أمر لا يقوم بنفسه ، فلم يفرد يوميه بالذكر ، بل جعلهما تابعين كما أن ما قدر فيهما تابع ، ولم يفعل ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه ، لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختيار ، ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ، فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم ، وجعل مدة خلقها ضعف مدة السماء مع كونها أصغر من السماء دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين ، فزادت بما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها ، والاعتناء بشأنهم وشأنها ، وزادت أيضاً بما فيها من الابتلاء بالتهيئة للمعاصي والمجاهدات والمعالجات التي يتنافس فيها الملأ الأعلى ويتخاصم - كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في المقدر من المقدور وعجائب الأمور ، وليعلم أيضاً بخلق السماء التي هي أكبر جرماً وأتقن جسماً وأعظم زينة وأكثر منافع بما لا يقايس في أقل من مدة خلق الأرض أن خلقها في تلك المدة ليس للعجز عن إيجادها في أقل من اللمح ، بل لحكم تعجز عن حملها العقول ، ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً على السكينة والبعد من العجلة .
ولما كان لفظ { سواء } الذي هو بمعنى العدل الذي لا يزيد عن النصف ولا ينقص يطلب اثنين ، تقول : سواء زيد وعمرو { إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } قال تعالى مزيلاً لما أوهمه قوله : { أربعة أيام } من أنها للأقوات والبركة ليكون مع يومين من الأرض ستة ، ناصباً على المصدر : { سواء } أي التوزيع إلى يومين ويومين على السواء { للسائلين * } أي لمن سأل أو كان بحيث يسأل ويشتد بحثه بسؤال أو نظر عن التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين غيرها ، ولا يتأتى السواء إلا بين يومين ويومين لا بين يومين وأربعة ، لا يزيد أحد الشقين من اليومين على اليومين الآخرين ذرة بعلم محيط وقدرة شاملة ، وليس ذلك كأيام الدنيا لا بد في كل يوم منها من زيادة عن الذي قبله أو نقص ، ومجموع الأربعة كأربعة من أيام الدنيا لا تزيد عليها ولا تنقص ، وقراءة يعقوب بجر " سواء " معينة لأن تكون نعتاً ل " أربعة " وقراءة أبي جعفر بالرفع خبر لمبتدأ محذوف ، وعن خلقها وتتميمها في أربعة أيام كانت فصولها أربعة ، قال ابن برجان : ألا ترى الأمرينزل إلى السماء أولاً في إنزال الماء فيخلقه فيما هنالك ثم ينزله إلى الأرض والنبات والحيوان عن الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض بمنزلة النسل بين الذكر والأنثى وبمنزلة تسخير السماء والأرض وما بينهما لما وجدنا له فافهم - أمر قويم وحكمة شائعة آية ذلك قضاؤه بركات الأرض في أربعة أيام بواسطة ما قدر في السماء من أمر وهي الأربعة الفصول من السنة . الشتاء والربيع والصيف والخريف ، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة ، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فؤائد وعجائب ، قال : وقوله " للسائلين " تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب ، وقد يكون معنى السواء زائداً إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها باحكام ذلك كله وتوابعه - انتهى .