في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (33)

ويختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى الله ، ووصف روحه ولفظه ، وحديثه وأدبه . ويوجه إليها رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وكل داعية من أمته . وكان قد بدأ السورة بوصف جفوة المدعوين وسوء أدبهم ، وتبجحهم النكير . ليقول للداعية : هذا هو منهجك مهما كانت الأمور :

( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال : إنني من المسلمين ! ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه هو السميع العليم ) .

إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله ، في مواجهة التواءات النفس البشرية ، وجهلها ، واعتزازها بما ألفت ، واستكبارها أن يقال : إنها كانت على ضلالة ، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها ، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد ، كل البشر أمامه سواء .

إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق . ولكنه شأن عظيم :

( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ، وعمل صالحاً ، وقال : إنني من المسلمين ) .

إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض ، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء . ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ؛ ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات . فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ .

ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض ، أو بسوء الأدب ، أو بالتبجح في الإنكار . فهو إنما يتقدم بالحسنة . فهو في المقام الرفيع ؛ وغيره يتقدم بالسيئة . فهو في المكان الدون :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (33)

يقول تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } أي : دعا عباد الله إليه ، { وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : وهو في نفسه مهتد بما يقوله ، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومُتَعَدٍ ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ، وينهون عن المنكر ويأتونه ، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى . وهذه عامة في كل من دعا إلى خير ، وهو في نفسه مهتد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك ، كما قال محمد بن سيرين ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

وقيل : المراد بها المؤذنون الصلحاء ، كما ثبت في صحيح مسلم : " المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة " {[25723]} وفي السنن مرفوعا : " الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، فأرشد الله الأئمة ، وغفر للمؤذنين " {[25724]} .

وقال{[25725]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن عَرُوبَة الهروي ، حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن مطر ، عن الحسن ، عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : " سهام المؤذنين عند الله يوم القيامة كسهام المجاهدين ، وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله في دمه " .

قال : وقال ابن مسعود : " لو كنت مؤذنا ما باليت ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد " .

قال : وقال عمر بن الخطاب : لو كنت مؤذنا لكمل أمري ، وما باليت ألا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم اغفر للمؤذنين " ثلاثا ، قال : فقلت : يا رسول الله ، تركتنا ، ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف . قال : " كلا يا عمر ، إنه يأتي {[25726]} على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم ، وتلك لحوم حرمها الله على النار ، لحوم المؤذنين " {[25727]} .

قال : وقالت عائشة : ولهم هذه الآية : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قالت : فهو المؤذن إذا قال : " حي على الصلاة " فقد دعا إلى الله .

وهكذا قال ابن عمر ، وعكرمة : إنها نزلت في المؤذنين .

وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي ، رضي الله عنه ، أنه قال في قوله : { وَعَمِلَ صَالِحًا } قال : يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة .

ثم أورد البغوي حديث " عبد الله بن المغفل " قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بين كل أذانين صلاة " . ثم قال في الثالثة : " لمن شاء " {[25728]} وقد أخرجه الجماعة في كتبهم ، من حديث عبد الله بن بريدة ، عنه{[25729]} وحديث الثوري ، عن زيد العمي ، عن أبي إياس معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال الثوري : لا أراه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة " .

ورواه أبو داود والترمذي ، والنسائي في " اليوم والليلة " كلهم من حديث الثوري ، به{[25730]} . وقال الترمذي : هذا حديث حسن .

ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن أنس ، به{[25731]} .

والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم ، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية ؛ لأنها مكية ، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة ، حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه ، فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتا ، كما هو مقرر في موضعه ، فالصحيح إذًا أنها عامة ، كما قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن البصري : أنه تلا هذه الآية : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فقال : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خِيَرَة الله ، هذا أحب أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال : إنني من المسلمين ، هذا خليفة الله .


[25723]:- (5) صحيح مسلم برقم (387) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
[25724]:- (6) رواه أحمد في مسنده (2/232) وأبو داود في السنن برقم (8/5) والترمذي في السنن برقم (207).
[25725]:- (7) في ت: "وروى".
[25726]:- (1) في ت، س: "سيأتي".
[25727]:- (2) ورواه الإسماعيلي في مسنده كما في مسند عمر لابن كثير (1/144) من طريق إبراهيم بن طهمان عن مطر عن الحسن البصري عن عمر به والحسن لم يسمع من عمر.
[25728]:- (3) معالم التنزيل للبغوي (7/174).
[25729]:- (4) صحيح البخاري برقم (627) وصحيح مسلم برقم (838) وسنن أبي داود برقم (2283) وسنن الترمذي برقم (185) وسنن النسائي (2/28) وسنن ابن ماجه برقم (1162).
[25730]:- (5) سنن أبي داود برقم (521) وسنن الترمذي برقم (212) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9896).
[25731]:– (6) النسائي في السنن الكبرى برقم (9899).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (33)

ليس هذا من حكاية خطاب الملائكة للمؤمنين في الآخرة وإنما هو موجه من الله فالأظهر أنه تكملة للثناء على { الذين قالوا : ربنا الله } [ فصلت : 30 ] ، واستقاموا ، وتوجيه لاستحقاقهم تلك المعاملة الشريفة ، وقمع للمشركين إذ تقرع أسماعَهم ، أي كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل . وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمة المشركين ووعيدُهم على سوء قولهم : { لا تسمعوا لهذا القرآن } [ فصلت : 26 ] ، مشعر لا محالة بأن بين الفريقين بوناً بعيداً ، طَرَفَاه : الأحسنُ المصرحُ به ، والأسوأُ المفهوم بالمقابلة ، أي فلا يستوي الذين قالوا أحسنَ القول وعملوا أصلح العمل مع الذين قالوا أسوأ القول وعملوا أسوأَ العمل ، ولهذا عقب بقوله : { وَلا تَسْتَوي الحَسَنة ولاَ السَّيِئَة } [ فصلت : 34 ] .

والواو إما عاطفة على جملة { إنَّ الذين قالوا ربُّنا الله } [ فصلت : 30 ] ، أو حاليَّة من { الذينَ قالُوا . والمعنى : أنهم نالوا ذلك إذْ لا أحسن منهم قولاً وعملاً . ومَنْ } استفهام مستعمل في النفي ، أي لا أحد أحسن قولاً من هذا الفريق كقوله : { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للَّه } الآية في سورة النساء ( 125 ) .

و{ ممن دعا إلى اللَّه } : كل أحد ثبت له مضمون هذه الصلة . والدعاء إلى شيء : أمر غيرك بالإقبال على شيء ، ومنه قولهم : الدعوة العباسية والدعوة العَلوية ، وتسمية الواعظ عند بني عبيد بالداعي لأنه يدعو إلى التشيُّع لآل علي بن أبي طالب . فالدعاء إلى الله : تمثيل لحال الآمِرِ بإفراد الله بالعبادة ونبذ الشرك بحال من يدعو أحداً بالإِقبال إلى شخص ، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد وهو ما وُصفوا به آنفاً في قوله : { إنَّ الَّذِين قالوا ربُّنا } [ فصلت : 30 ] كما علمتَ وقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله ، وسيّدُ الداعين إلى الله هو محمد . وقوله : مِمَّن دعا إلى الله } ( مِنْ ) فيه تفضيلية لاسْم { أَحْسَنُ } ، والكلام على حذف مضاف تقديره : من قول من دعا إلى الله . وهذا الحذف كالذي في قول النابغة :

وقد خِفت حتى ما تَزيد مخافتي *** على وَعِللٍ في ذي المَطارة عاقل

أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل ، ومنه قوله تعالى : { ولكن البر من آمن باللَّه } الآية في سورة البقرة ( 177 ) .

والعمل الصالح : هو العمل الذي يصلُح عامِلُه في دينه ودنياه صلاحاً لا يشوبه فساد ، وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين ، فالعمل الصالح : هو ما وصف به المؤمنون آنفاً في قوله : { ثمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] .

وأما { وَقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمِينَ } فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام .

والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين . ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صَاح أبو سفيان : اعْلُ هُبَلْ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا : « الله أعلى وأجلّ »

فقال أبو سفيان : لنا العُزى ولا عُزى لكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " . وإنما لم يذكر نظير هذا القول في الصلة المشيرة إلى سبب تنزّل الملائكة على المؤمنين بالكرامة وهي { الذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] لأن المقصود من ذكرها هنا الثناء عليهم بتفاخرهم على المشركين بعزة الإِسلام ، وذلك من آثار تلك الصلة فلا حاجة إلى ذكره هنالك بخلاف موقعه هنا .

وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله تعالى من دينه ومن خَلْقه . وفيها أيضاً منزع لطيف لتأييد قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم مُحمد بن سُحنون : أن المسلم يقول : أَنا مؤمن ولا يقول إن شاء الله خلافاً لقول الأشعري وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن عَبدوس فنُقل أنه كان يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . وقد تطاير شرر هذا الخلاف بين علماء القيروان مدة قرن . والحق إنه خلاف لفظي كما بينه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ونقله عياض في « المدارك » ووافقه . وذكرنا المسألة مفصلة عند قوله تعالى : { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللَّه ربنا } في سورة الأعراف ( 89 ) وبذلك فلا حجة في هذه الآية لأحد الفريقين وإنما الحجة في آية سورة الأعراف على الماتريدي ومحمد بن سحنون . والقول في قوله : { وقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمين } كالقول في { إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله } [ فصلت : 30 ] .