وبمناسبة الحساب والجزاء قرر الله سبحانه ما كتبه على نفسه من الرحمة في حساب عباده . فجعل لمن جاء بالحسنة وهو مؤمن - فليس مع الكفر من حسنة ! - فله عشر أمثالها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ؛ لا يظلم ربك أحداً ولا يبخسه حقه :
( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها . وهم لا يظلمون )
ثم بين فضله يوم القيامة في حكمه وعدله فقال :
{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }
وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى ، وهي قوله : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } [ النمل : 89 ] ، وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله :
حدثنا عفان ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا الجعد أبو عثمان ، عن أبي رجاء العُطاردي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[11478]} ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما يروي عن ربه ، عز وجل{[11479]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ربكم [ عز وجل ]{[11480]} رحيم ، من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ، إلى أضعاف كثيرة . ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة ، أو يمحوها الله ، عَزَّ وجل ، ولا يهلك على الله إلا هالك " .
ورواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، من حديث الجعد بن أبي عثمان ، به{[11481]} .
وقال [ الإمام ]{[11482]} أحمد أيضًا : حدثنا معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سُوَيْد ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله ، عَزَّ وجل : من عَمِل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد . ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر . ومن عمل قُرَاب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة . ومن اقترب إليَّ شبرًا اقتربت إليه ذراعا ، ومن اقترب إليَّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا ، ومن أتاني يمشي أتيته هَرْوَلَة " .
ورواه مسلم عن أبي كريب ، عن أبي معاوية ، به . وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وَكِيع ، عن الأعمش ، به{[11483]} . ورواه ابن ماجه ، عن علي بن محمد الطنافسي ، عن وكيع ، به{[11484]} .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا شَيْبَان ، حدثنا حَمَّاد ، حدثنا ثابت ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا . ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء ، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة " {[11485]} .
واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام : تارة يتركها لله [ عَزَّ وجل ]{[11486]} فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى ، وهذا عمل ونِيَّة ؛ ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة ، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح : " فإنما تركها من جرائي " {[11487]} أي : من أجلي . وتارة يتركها نسيانًا وذُهولا عنها ، فهذا لا له ولا عليه ؛ لأنه لم ينو خيرًا ولا فعل{[11488]} شرًا . وتارة يتركها عجزا وكسلا بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها ، فهذا يتنزل منزلة فاعلها ، كما جاء في الحديث ، في الصحيحين : " إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " . قالوا : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصًا على قتل صاحبه " {[11489]} .
قال الإمام أبو يعلى الموصلي : حدثنا مجاهد بن موسى ، حدثنا علي - وحدثنا الحسن بن الصباح وأبو خَيْثَمَة - قالا حدثنا إسحاق بن سليمان ، كلاهما عن موسى بن عبيدة ، عن أبي بكر بن عبيد الله ابن أنس ، عن جده أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من هم بحسنة كتب الله له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا . ومن هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها ، فإن عملها كتبت عليه سيئة ، فإن تركها كتبت له حسنة . يقول الله تعالى : إنما تركها من مخافتي " .
هذا لفظ حديث مجاهد - يعني ابن موسى{[11490]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن الرُّكَيْن بن الربيع ، عن أبيه ، عن عمه فلان بن عَمِيلة ، عن خُرَيْم بن فاتك{[11491]} الأسدي ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الناس أربعة ، والأعمال ستة . فالناس مُوَسَّع له في الدنيا والآخرة ، وموسع له في الدنيا مَقْتور عليه في الآخرة ، ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة ، وشَقِيٌ في الدنيا والآخرة . والأعمال مُوجبتان ، ومثل بمثل ، وعشرة أضعاف ، وسبعمائة ضعف ؛ فالموجبتان{[11492]} من مات مُسْلِمًا مؤمنًا لا يشرك بالله شيئًا وَجَبَتْ له الجنة ، ومن مات كافرًا وجبت له النار . ومن هَمَّ بحسنة فلم يعملها ، فعلم الله أنه قد أشعَرَها قَلْبَه وحرص عليها ، كتبت له حسنة . ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ، ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه . ومن عمل حسنة كانت عليه{[11493]} بعشرة أمثالها . ومن أنفق نفقة في سبيل الله ، عَزَّ وجل ، كانت له بسبعمائة ضعف " {[11494]} .
ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث الرُّكَيْن بن الربيع ، عن أبيه ، عن بشير بن عَمِيلة ، عن خُرَيْم بن فاتك ، به ببعضه{[11495]} . والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا حبيب المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحضر الجمعة ثلاثةُ نَفَر : رجل حَضَرها بِلَغْوٍ فهو حَظُّه منها ، ورجل حضرها بدعاء ، فهو رجل دعا الله ، فإن شاء أعطاه ، وإن شاء مَنَعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يَتَخَطَّ رَقَبَة مسلم ولم يُؤْذ أحدًا ، فهي{[11496]} كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ؛ وذلك لأن الله يقول : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }{[11497]} .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن مَرْثَد ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زرعة ، عن شُرَيْح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها{[11498]} وزيادة ثلاثة أيام ؛ وذلك لأن الله تعالى قال : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }{[11499]} .
وعن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدَّهْرَ كله " .
رواه الإمام أحمد - وهذا لفظه - والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي{[11500]} وزاد : " فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } اليوم بعشرة أيام " ، ثم قال : هذا حديث حسن .
وقال ابن مسعود : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } من جاء ب " لا إله إلا الله " ، { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ } يقول : بالشرك .
وقد ورد فيه حديث مرفوع - الله أعلم بصحته ، لكني لم أره{[11501]} من وجه يثبت - والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا ، وفيما ذكر كفاية ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
من عادة القرآن أنَّه إذا أنذر أعقب الإنذار ببشارة لمن لا يحقّ عليه ذلك الإنذار ، وإذا بَشَّر أعقب البشارة بنذارة لمن يتَّصف بضدّ ما بشر عليه ، وقد جرى على ذلك ههنا : فإنَّه لمّا أنذر المؤمنين وحذرهم من التريُّثثِ في اكتساب الخير ، قبل أن يأتي بعض آياتتِ الله القاهرة ، بقوله : { لاَ يَنْفَع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [ الأنعام : 158 ] فحَدّ لَهم بذلك حدّاً هو من مظهر عدله ، أعقب ذلك ببشرى من مظاهر فضله وعَدله . وهي الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها والجزاء على السيّئة بمثلها ، فقوله : { من جاء بالحسنة } إلى آخره استئناف ابتدائي جرى على عرف القرآن في الانتقال بين الأغراض .
فالكلام تذييل جامع لأحوال الفريقين اللذين اقتضاهما قوله : { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [ الأنعام : 158 ] . وهذا بيان لبعض الإجمال الذي في قوله : { لا ينفع نفساً إيمانها } الآية ، كما تقدّم آنفاً .
و { جاء بالحسنة } معناه عمل الحسنة : شبه عمله الحسنة بحال المكتسب ، إذ يخرج يطلب رزقاً من وجوهه أو احتطاب أو صيد فيجيء أهله بشيء . وهذا كما استعير له اسم التِّجارة في قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] .
فالباء للمصاحبة ، والكلام تمثيل ، ويجوز حمل المجيء على حقيقته ، أي مجيء إلى الحساب على أن يكون المراد بالحسنة أن يجيء بكتابتها في صحيفة أعماله .
وأمْثال الحسنة ثواب أمثالها ، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله : { فلا يجزي إلا مثلها } ، أو معناه تحسب له عشرُ حسنات مثل التي جاء بها كما في الحديث : « كتبها الله عنده عشر حسنات » ويعرف من ذلك أنّ الثّواب على نحو ذلك الحساب كما دلّ عليه قوله : { فلا يجزي إلا مثلها } .
والأمثال : جمع مِثْل وهو المماثل المساوي ، وجيء له باسم عدد المؤنّث وهو عشر اعتباراً بأنّ الأمثال صفة لموصوف محذوف دلّ عليه الحسنة أي فله عشر حسنات أمثالها ، فروعي في اسم العدد معنى مميّزه دون لفظه وهو أمثال . والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضلٌ من الله ، وهو جزاء غالب الحسنات ، وقد زاد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها سبعمائة ضِعْف كما في قوله تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } [ البقرة : 261 ] فذلك خاصّ بالإنفاق في الجهاد . وفي الحديث : « من هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة » .
وقرأ الجمهور : { عَشرُ أمثالِها } بإضافة { عشر } إلى { أمثالها } . وهو من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، وقرأه يعقوب بتنوين { عشر } ورفع { أمثالها } ، على أنّه صفة ل { عشر } ، أي فله عشر حسنات مماثلة للحسنة التي جاء بها .
ومماثلة الجزاء للحسنة موكول إلى علم الله تعالى وفضله .
وإنَّما قال في جانب السيّئة فلا يُجزى إلاّ مثلها بصيغة الحصر لأجل ما في صيغته من تقديم جانب النّفي ، اهتماماً به ، لإظهار العدل الإلهي ، فالحصر حقيقي ، وليس في الحصر الحقيقي ردّ اعتقاد بل هو إخبار عمّا في نفس الأمر ، ولذلك كان يساويه أن يقال : ومن جاء بالسيّئة فيُجزى مثلها ، لولا الاهتمام بجانب نفي الزّيادة على المماثلة . ونظيره قول النّبيء صلى الله عليه وسلم حين سألتْه هند بنت عتبة فقالت : إنّ أبا سفيان رجل مِسِّيك فهل عليّ حرج أن أُطعم من الذي له عيالَنا ، فقال لها : " لا إلاّ بالمعروف " ولم يقل لها : أطعميهم بالمعروف . وقد جاء على هذا المعنى قول النّبيء صلى الله عليه وسلم ومن همّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيّئة واحدة » ؛ فأكَّدها بواحدة تحقيقاً لعدم الزّيادة في جزاء السيّئة .
ولذلك أعقبه بقوله : { وهم لا يظلمون } والضّمير يعود إلى { من جاء بالسيّئة } ، إظهار للعدل ، فلذلك سجل الله عليهم بأنّ هذا لا ظلم فيه ليُنصِفوا من أنفسهم . وأمَّا عدّ عود الضّميرين إلى الفريقين فلا يناسب فريق أصحاب الحسنات ، لأنَّه لا يحسن أن يقال للذي أُكرم وأفيض عليه الخير إنَّه غير مظلوم .