اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (160)

إنما ذكّر العدد والمَعْدُود مذكَّر ، لأوجه :

منها : أن الإضافة لها تَأثِير كما تقدَّم غيْر مرَّة ؛ فاكتسب المُذَكَّر من المؤنَّث التَّأنيث ، فأعْطِي حُكْم المؤنَّث من سُقُوط التَّاء من عَدَدِه ، ولذلك يُؤنَّث فعله حالة إضافته لِمُؤنَّثٍ نحو : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] .

وقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنْ الدَّمِ{[15656]}

وقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَسَفَّهَتْ أعَالِيهَا مَرُّ الرِّبيعِ النَّواسِمِ{[15657]}

إلى غير ذلك مما تقدَّم تَحْقِيقه .

ومنها : أنَّ المذكر عِبَارة عن مُؤنَّثٍ ، فرُوعِي المُرَاد دُونَ اللَّفْظ ، وعليه قوله : [ الطويل ]

وإنَّ كِلاَباً هذه عَشْرُ أبْطُنٍ *** وأنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قِبَائِلِهَا العَشْرِ{[15658]}

لم يُلْحِق التَّاء في عدد أبطن ، وهي مُذَكَّرة ؛ لأنَّها عِبَارة عن مُؤنَّث ، وهي القبائل ؛ فكأنَّه قيل : وإن كِلاَباً هذه عَشْر قَبَائِل ؛ ومثله قول عُمَر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]

وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي *** ثلاثُ شُخُوصٍ كاعِبَانِ ومُعْصِرُ{[15659]}

لم تَلْحَق التاءُ في عدد " شخوص " وهي مُذَكَّرة ؛ لمَّا كانت عِبَارة عن النِّسْوة ، وهذا أحْسَن ممَّا قَبْلَه ؛ للتَّصْريح بالمُؤنّثِ في قوله : " كاعبانِ " و " مُعْصِرُ " ، وهذا كما أنَّه إذا أُرِيد بلَفْظٍ مؤنَّثٍ معنَى مُذَكَّر ؛ فإنَّهم يَنْظُرُون إلى المُراد دُونه اللَّفْظ ، فَيُلْحِقُون التَّاء في عددِ المُؤنَّث ، ومنه قوله الشاعر : [ الوافر ]

ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ *** لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ على عِيَالي{[15660]}

فألحَق التَّاء في عدد " أنْفُس " وهي مُؤنَّثةٌ ؛ لأنَّها يراد بها ذُكُور ، ومثله : { اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً } [ الأعراف : 160 ] في أحد الوَجْهَين ، وسيأتي إن شاء الله في موضعه .

ومنها : أنَّه راعى الموصُوف المَحْذُوف ، والتقدير : فله عَشْر حسنات أمْثَالها ، ثم حذف الموصُوف : وأقَامَ صِفَتَهُ مُقامه تاركاً العدد على حاله ، ومثله : " مَرَرْت بِثَلاثة نَسَّاباتٍ " ألْحِقَت التَّاء في عدد المؤنَّث مُرَاعاة للموصوف المَحْذُوف ، إذ الأصْل : بثلاثة رجالٍ نسَّاباتٍ ، ويؤيِّد هذا : قراءة يَعْقُوب{[15661]} ، والحسن ، وسعيد بن جُبَيْر ، والأعْمش ، وعيسى بن عُمَر : " عَشْرٌ " بالتَّنوين " أمثَالُها " بالرَّفْع صفة ل " عَشْر " أي : فله عشر حسنتٍ أمْثَال تِلْك الحسنة ، وهذه القراءة سَالِمَةٌ من تلك التَّآويل المَذْكُورة في القِرَاءة المَشْهُورة .

وقال أبو عليّ : اجْتَمَع هاهُنَا أمْرَان ، كلٌّ مِنْها يُوجِب التَّأنيث ، فلما اجْتَمَعا ، قوي التَّأنيث :

أحدهما : أن الأمْثَال في المعنى : " حَسَنات " فجاز التأنيث كقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ثلاثُ شُخُوصٍ كاعِبَانِ ومُعْصِرُ{[15662]}

أرد بالشُّخُوص : النِّسَاء .

والآخر : أنَّ المُضاف إلى المؤنَّثِ قد يُؤنَّث وإن كان مُذَكَّراً ؛ كقوله من قال : " قَطَعْت بَعْضَ أصابِعه " ، { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] .

فصل في هل المراد في العدد التحديد

قال بعضهم : التقدير بالعَشْرَة ليس المراد منه : التَّحْديدُ ، بل المُرَادُ منه : الإضْعَاف مُطْلقاً ؛ كقول القائل : " إذا أسديت إليَّ معروفاً لأكافِئَنَّكَ بعشر أمْثَالِهِ " وفي الوَعِيد : " لئن كَلَّمْتَنِي [ كلمة ]{[15663]} واحِدَة ، لأكَلِّمنَّك عَشْراً " ولا يريدُ التَّحْديد ، فكذلك هُنا ، ويدُلُّ على أنَّه ليس المراد التَّحْديد ، قوله -سبحانه وتعالى- :

{ مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ } [ البقرة : 261 ] .

وقال ابن عُمَر - رضي الله عنه - : " الآية في غير الصَّدَقَات " .

قوله : { وَمَن جَاءَ بالسيئة فَلاَ يُجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } .

أي : إلاّ جَزَاء يُسَاويها .

روى أبو ذرٍّ - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرَّم وبجّل ومَجّد وعظَّم قال : قال الله -تبارك وتعالى- : " الحسنة عشرة أو أزيد ، والسيئة واحدة ، أو عفو ، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره " {[15664]} .

وقال - عليه أفضل الصلاة والسلام- وأتم حكاية عن الله - تبارك وتعالى سبحانه - : " إذا هَمّ عَبدِي بِحسنَةٍ ، فاكتُبُوهَا وإنْ لَم يَعْلَمَلْها ، فإن عَمِلها ، فعَشرْ أمْثَالها ، وإن هَمّ بسَيِّئَة ، فلا تَكْتُبُوها ، فإن عَمِلَها ، فَسَيِّئَة وَاحِدة{[15665]} .

وروى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أحْسَن أحدُكُم إسلامه ، فكُلُّ حَسَنَة يَعْمَلُها تُكْتَبُ بعْشر أمْثَالها إلى سبعمائة ، وكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُها ، تكْتَبُ بِمثْلِها ، حتَّى يَلْقى اللَّه - عزَّ وجلَّ - " {[15666]} .

ثم قال -تبارك وتعالى- : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .

أي : لا يَنْتَقِصُ من ثواب طاعتهم ، ولا يُزَاد على عِقاب سيِّئاتهم ، وهاهُنا سؤالان{[15667]} :

السؤال الأول : كُفْر ساعة كَيْف يُوجِبُ عقاب الأبد عل نهاية التَّغْلِيظ فما وجه المُمَاثَلَة ؟

فالجواب : أن الكافر كان على عَزْم أنَّه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعْتِقَاد فلما كان ذلك العَزْم مؤبَّداً عُوقِب بعقابِ الأبد ؛ بخلاف المُسْلم المُذْنِب ؛ فإنَّه يكُون على عَزْمِ الإقْلاع من ذلك الذَّنْب ، فلا جَرَم كانت عُقُوبتُه مُنْقطعة .

السؤال الثَّاني : اعتاق الرَّقبة الواجة تارةً جعلها بدلاً عن صِيَام سِتِّين يَوْماً في كفَّارة الظِّهَار ، والجِمَاع في نهارِ رمضان ، وتارة جعلها بدلاً من صيام ثلاثة أيَّام ، فدلَّ على أنَّ المُساوَاة غير مُعْتَبَرة ؟ .

وجوابُه : أنَّ المُسَاوَاة إنَّما تَحْصُل بوَضع الشِّرْع وحُكْمه .

السؤال الثالث : إذا أوْضَح الإنْسان مُوَضِّحَتَيْن{[15668]} ، وجب فيهما أرشان فإن رُفِعَ الحاجزُ بينهُمَا ، صار الواجب أرْشَ مُوضِّحة واحدة ؛ فههُنا ازْدَادَت الجِنايَة وقلّ العقاب ، فالمُسَاوَاة غير مُعْتَبَرة .

وجوابُه أنَّ ذلك من قَصْد الشَّرْع وتحكُّمَاتِه .

السؤال الرابع : أنه يَجِب في مُقابَلة تفويت أكثر كُلِّ واحدٍ من الأعضاء دية كاملة ثم إذا قتله وفوّت كل الأعضاء وجب دِيَة واحِدَة ، وذلك يَمْنع القول من رِعَاية المُمَاثلة .

وجوابُه : أن ذلك من باب تحكُّمَاتِ الشَّريعة .


[15656]:تقدم.
[15657]:تقدم.
[15658]:البيت للنّواح الكلابي ينظر: الدرر 6/196، المقاصد النحوية 4/484، الأشباه والنظائر 2/105، 5/49، وأمالي الزجاجي ص 118، وشرح عمدة الحافظ 520، الكتاب 3/565، عمه الهوامع 2/149، 2/417، شرح الأشموني 3/620، خزانة الأدب 7/395 الإنصاف 2/769، الدر المصون 3/226.
[15659]:ينظر: الكتاب 2/566، شرح أبيات سيبويه 2/366، شرح التصريح 2/271، شرح شواهد الإيضاح ص 313، المقاصد النحوية 4/483، الخصائص 2/417 أمالي الزجاجي 118، الإنصاف 2/770، الأغاني 1/90، الأشباه والنظائر 5/48، 129، خزانة الأدب 5/320، 321، 7/394، 396، 398، وأوضح المسالك 4/251، شرح الأشموني 3/620، شرح عمدة الحافظ ص 519، المقرب 1/307، المقتضب 2/148، عيون الأخبار 2/174، الدر المصون 3/226.
[15660]:البيت للحطيئة. ينظر: ديوانه (119)، الكتاب 3/565، الخصائص 2/412، الإنصاف 2/771، التصريح 2/27، الخزانة 7/367، الدر المصون 3/226.
[15661]:ينظر: الدر المصون 3/227، النشر 2/226.
[15662]:تقدم.
[15663]:سقط في ب.
[15664]:تقدم.
[15665]:أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب والترمذي (5/247) كتاب التفسير باب سورة الأنعام حديث (3073) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
[15666]:أخرجه أحمد (2/317) من حديث أبي هريرة.
[15667]:ينظر: الفخر الرازي 14/9.
[15668]:الموضحة لغة: هي الشجة التي توضح العظم، أي: تظهره. انظر: الصحاح 1/416. اصطلاحا: عرفها الحنفية بأنها: هي التي توضّح العظم، أي: تبينه. عرفها الشافعية بأنها: التي توضح العظم، وإن لم يشاهد من أجل الدم الذي يستره. عرفها المالكية بأنها: ما أوضحت عظم الرأس، والجبهة، والخدين. وعند الحنابلة: تطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس. انظر: تبيين الحقائق 6/132، مغني المحتاج 4/26، مواهب الجليل 6/246، المبدع 9/5.