وبمناسبة الحديث عن صلاة الضارب في الأرض ، الخائف من فتنة الذين كفروا ، يجيء حكم صلاة الخوف في أرض المعركة ؛ وتحتشد جنبات هذا الحكم الفقهي بلمسات نفسية وتربوية شتى :
( وإذا كنت فيهم ، فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم ؛ فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ؛ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة . ولا جناح عليكم - إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى - أن تضعوا أسلحتكم . وخذوا حذركم ، إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) . ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم . فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتًا ) . .
إن المتأمل في أسرار هذا القرآن ؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية ، المتمثل فيه ، يطلع على عجب من اللفتات النفسية ، النافذة إلى أعماق الروح البشرية . ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة . .
إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم " الفقهي " في صفة صلاة الخوف . ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة .
وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة ! ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني . إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة . بل أنها السلاح ! فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح ، بما يتناسب مع طبيعة المعركة ، وجو المعركة !
ولقد كان أولئك الرجال - الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني - يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح . لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة ؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة . متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله ؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعا . متفوقين أيضا في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني ، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشى ء من تفوق منهجهم الرباني . . وكانت الصلاة رمزا لهذا كله ، وتذكير بهذا كله . ومن ثم كانت سلاحا في المعركة . بل كانت هي السلاح !
والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو . وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ، ليميل عليهم ميلة واحدة ! ومع هذا التحذير والتخويف ، التطمين والتثبيت ؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوما كتب الله عليهم الهوان : ( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا ) . . وهذا التقابل بين التحذير والتطمين ؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة ؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم ، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم !
أما كيفية صلاة الخوف ؛ فتختلف فيها آراء الفقهاء ، أخذا من هذا النص ، ولكننا نكتفي بالصفة العامة ، دون دخول في تفصيل الكيفيات المتنوعة .
( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك . وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) . .
والمعنى : إذا كنت فيهم فأممتهم في الصلاة ، فلتقم طائفة منهم تصلي معك الركعة الأولى . على حين تقف طائفة أخرى بأسلحتها من ورائكم لحمايتكم . فإذا أتمت الطائفة الأولى الركعة الأولى رجعت فأخذت مكان الحراسة ، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة ولم تصل . فلتصل معك ركعة كذلك . [ وهنا يسلم الإمام إذ يكون قد أتم صلاته ركعتين ] .
عندئذ تجيء الطائفة الأولى فتقضي الركعة الثانية التي فاتتها مع الإمام . وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الثانية - ثم تجيء الثانية فتقضي الركعة الأولى التي فاتتها وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الأولى . .
وبذلك تكون الطائفتان قد صلتا بإمامة الرسول [ ص ] وكذلك مع خلفائه وأمرائه ، وأمراء المسلمين [ منهم ] في كل معركة .
( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة ) . .
وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة . والسنون تتوالى ، والقرون تمر ، فتؤكد هذه الحقيقة ، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى . وهو يضع لها الخطط العامة للمعركة . كما يضع لها الخطة الحركية أحيانا . على هذا النحو الذي رأينا في صلاة الخوف .
على أن هذا الحذر ، وهذه التعبئة النفسية ، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر ، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة . فهم يأخذون منه بقدر الطاقة :
( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى ، أن تضعوا أسلحتكم ) فحمل السلاح في هذه الحالة يشق ، ولا يفيد . ويكفي أخذ الحذر ؛ وتوقع عون الله ونصره : ( وخذوا حذركم . إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا ) . .
ولعل هذا الاحتياط ، وهذه اليقظة ، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين . فيكون المؤمنون هم ستار قدرته ؛ وأداة مشيئته . . وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر ؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذابا مهينا . .
صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صَوْبها ، والصلاة تارة تكون رباعية ، وتارة ثلاثية كالمغرب ، وتارة ثنائية ، كالصبح وصلاة السفر ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ورجالا وركبانا ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة .
ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة ؛ لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل . قال المنذري في الحواشي : وبه قال عطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد . وإليه ذهب طاوس والضحاك .
وقد حكى أبو عاصم العَبَّادي{[8216]} عن محمد بن نصر المروزي ؛ أنه يرى رَدَّ الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضًا .
وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة ، تومئ بها إيماء ، فإن لم تقدر فسجدة واحدة ؛ لأنها ذكر الله .
وقال آخرون : تكفي تكبيرة واحدة . فلعله أراد ركعة واحدة ، كما قاله أحمد بن حنبل وأصحابه ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة ، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه ، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بُخْت المكي ، حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة{[8217]} فلا يتركها في نفسه ، يعني بالنية ، رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عَيَّاش ، عن شعيب بن دينار ، عنه ، فالله أعلم .
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة ، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة العصر ، قيل : والظهر ، فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء . وكما قال
بعدها - يوم بني قريظة ، حين جهز إليهم الجيش - : " لا يصلينّ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة " ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيلَ المسير ، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق . وأخَّر آخرون منهم العصر ، فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يُعَنِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين{[8218]} وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة ، وبَيَّنا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر ، وإن كان الآخرون معذورين أيضًا ، والحجة هاهنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد{[8219]} من الطائفة الملعونة اليهود . وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف ، فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك ، وهذا بين في حديث أبي سعيد الخدري ، الذي رواه الشافعي وأهل السنن ، ولكن يشكل على هذا{[8220]} ما حكاه البخاري رحمه الله ، في صحيحه ، حيث قال :
" باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو " : قال الأوزاعي : إن كان تَهَيَّأ الفتحُ ولم يقدروا على الصلاة ، صَلُّوا إيماء ، كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء أخَّروا الصلاة حتى ينكشف القتال ، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين . فإن لم يقدروا صَلُّوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ، ويؤخرونها حتى يأمنوا . وبه قال مكحول ، وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة{[8221]} حصن تُسْتر عند إضاءة الفجر ، واشتد اشتعال القتال ، فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نُصَلِّ إلا بعد ارتفاع النهار ، فصليناها ونحن مع أبي موسى ، فَفُتح لنا ، قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها . {[8222]}
انتهى ما ذكره ، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ، ثم بحديث أمره إياهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، وكأنه كالمختار لذلك ، والله أعلم .
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج{[8223]} بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر{[8224]} غالبا ، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ، ولا أحد من الصحابة ، والله أعلم .
[ و ]{[8225]} قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق ؛ لأن ذات الرِّقَاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي . وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق ، وموسى بن عقبة ، والواقدي ، ومحمد بن سعد كاتبه ، وخليفة بن خَيَّاط وغيرهم{[8226]} وقال البخاري وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى وما قَدم إلا في خيبر ، والله أعلم . والعجب - كل العجب - أن المُزني ، وأبا يوسف القاضي ، وإبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره ، عليه السلام ، الصلاة يوم الخندق . وهذا غريب جدًّا ، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف ، وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب ، والله أعلم .
فقوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } أي : إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف ، وهذه حالة غير الأولى ، فإن تلك قصرها إلى ركعة ، كما دل عليه الحديث ، فرادى ورجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد . وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة ، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة ، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك ، وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ } فبعده تفوت هذه الصفة ، فإنه استدلال ضعيف ، ويُرَدُّ عليه مثل قول مانعي الزكاة ، الذين احتجوا بقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [ التوبة : 103 ] قالوا : فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، بل نخرجها نحن بأيدينا{[8227]} على من نراه ، ولا ندفعها إلى من صلاته ، أي : دعاؤه ، سكن لنا ، ومع هذا ردَّ عليهم الصحابة وأبَوْا عليهم هذا الاستدلال ، وأجبروهم على أداء الزكاة ، وقاتلوا من منعها منهم .
ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها :
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، أنبأنا سيف{[8228]} عن أبي رَوْق ، عن أبي أيوب ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظّهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها . قال : فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا . وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } إلى قوله : { أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } ]{[8229]} فنزلت صلاة الخوف .
وهذا سياق غريب جدا{[8230]} ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزُّرَقي ، واسمه زيد بن الصامت ، رضي الله عنه ، قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : لقد{[8231]} كانوا على حال لو أصبنا غُرَّتَهم . ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم . قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } قال : فحضرت ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح ، [ قال ]{[8232]} فصفنا{[8233]} خلفه صفين ، قال : ثم ركع فركعنا جميعا ، ثم رفع فرفعنا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ، ثم انصرف . قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة بعسفان ، ومرة بأرض بني سليم .
ثم رواه أحمد ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن منصور ، به نحوه . وهكذا رواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن جرير بن عبد الحميد ، والنسائي من حديث شعبة وعبد العزيز بن عبد الصمد ، كلهم عن منصور ، به{[8234]} .
وهذا إسناد صحيح ، وله شواهد كثيرة ، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال : حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح ، حدثنا محمد بن حرب ، عن الزُّبيدي ، عن الزُّهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه ، فكبر وكبروا معه ، وركع وركع ناس منهم ، ثم سجد وسجدوا معه ، ثم قام الثانية فقام الذين سجدوا ، وحرسوا إخوانهم ، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه ، والناس كلهم في الصلاة ، ولكن يحرس بعضهم بعضًا{[8235]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن سليمان اليَشْكُري : أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة : أي يوم أنزل ؟ أو : أي يوم هو ؟ فقال جابر : انطلقنا نتلقى عِيرَ قريش آتية من الشام ، حتى إذا كنا بنخل ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد . قال : " نعم " ، قال : هل تخافني ؟ قال : " لا " . قال : فما{[8236]} يمنعك مني ؟ قال : " الله يمنعني منك " . قال : فَسلَّ السيف ثم تهدده وأوعده ، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح ، ثم نودي بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم . فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم ، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم ، ثم سلم . فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، والقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج{[8237]} حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سليمان بن قيس اليَشْكُري ، عن جابر بن عبد الله قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خَصَفَة{[8238]} فجاء رجل منهم يقال له : " غورث بن الحارث " حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال : من يمنعك مني ؟ قال : " الله " ، فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ومن يمنعك مني " ؟ قال : كن خير آخذ . قال : " أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ " قال : لا ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك . فخلى سبيله ، فأتى قومه فقال : جئتكم{[8239]} من عند خير الناس . فلما حضرت الصلاة صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فكان الناس طائفتين : طائفة بإزاء العدو ، وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فصلى بالطائفة{[8240]} الذين معه ركعتين ، وانصرفوا ، فكانوا بمكان أولئك الذين بإزاء عدوهم . وانصرف الذين بإزاء عدوهم فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين .
تفرد به من هذا الوجه{[8241]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنَان ، حدثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم ، حدثنا المسعودي ، عن يزيد الفقير قال : سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر : أقصرهما ؟ قال : الركعتان في السفر تمام ، إنما القصر واحدة عند القتال ، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال إذْ أقيمت الصلاة ، فقام رسول الله صلى فصف طائفة ، وطائفة وجهها قِبَل العدو ، فصلَّى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا ، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس وسلم ، وسلم الذين خلفه ، وسلم أولئك ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وللقوم ركعة ركعة ، ثم قرأ : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ }{[8242]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صفٌّ بين يديه ، وصفٌّ خلفه ، فصلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم ، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ، ثم سلم . فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة .
ورواه النسائي من حديث شعبة ، ولهذا الحديث طرق عن جابر{[8243]} وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر{[8244]} وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمساند .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نُعَيْم بن حمَّاد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } قال : هي صلاة الخوف ، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم ، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة . وقد روى هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طريق معمر ، به ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة ، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في سرد طُرُقه وألفاظه ، وكذا ابن جرير ، ولنحرره في كتاب " الأحكام الكبير " إن شاء الله ، وبه الثقة .
وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف ، فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية ، وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } أي : بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة : { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
الضمير في { سجدوا } للطائفة المصلية والمعنى : فإذا سجدوا معك الركعة الأولى فلينصرفوا ، هذا على بعض الهيئات المروية والمعنى : فإذا سجدوا ركعة القضاء وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة ، والضمير في قوله : { فليكونوا } يحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولاً بإزاء العدو ويجيء الكلام وصاة في حال الحذر والحرب ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «فلِتقم » بكسر اللام ، وقرأ الجمهور { ولتأت طائفة } بالتاء ، وقرأ أبو حيوة «وليأت » بالياء ، وقوله تعالى : { ود الذين كفروا } الآية إخبار عن معتقد القوم وتحذير من الغفلة ، لئلا ينال العدو أمله . وأسلحة جمع سلاح ، وفي قوله تعالى : { ميلة واحدة } بناء مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية ، وقوله تعالى : { ولا جناح عليكم } الآية ترخيص ، قال ابن عباس : نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف ، كان مريضاً فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب ، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين ، وينقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت ، ثم قوى الله تعالى نفوس المؤمنين بقوله { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } .
قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } هذه صفة صلاة الخوف في الجماعة لقوله : { فأقمت لهم الصلاة } .
واتّفق العلماء على أنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف . وأكثر الآثار تدلّ على أنّ مشروعيتها كانت في غزوة ذات الرّقَاع بموضع يقال له : نَخلة بين عسفان وضجنان من نجد ، حين لقوا جموع غطفان : محارب وأنمار وثعلبة . وكانت بين سنة ستّ وسنة سبع من الهجرة ، وأنّ أوّل صَلاة صلّيت بها هي صلاة العصر ، وأنّ سببها أنّ المشركين لما رأوا حرص المسلمين على الصلاة قالوا : هذه الصلاة فرصة لنا لو أغرنا عليهم لأصبناهم على غِرّة ، فأنبأ الله بذلك نبيّه صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية . غير أنّ الله تعالى صدّر حكم الصلاة بقوله : { وإذا كنت فيهم } فاقتضى ببادىء الرأي أنّ صلاة الخوف لا تقع على هذه الصفة إلاّ إذا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي خصوصية لإقامته . وبهذا قال إسماعيل بن عُلية ، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة في أحد أقواله ، وعلّلوا الخصوصية بأنّها لِحرص الناس على فضل الجماعة مع الرسول ، بخلاف غيره من الأيّمة ، فيمكن أن تأتمّ كلّ طائفة بإمام . وهذا قول ضعيف : لمخالفته فعل الصحابة ، ولأنّ مقصد شرع الجماعة هو اجتماع المسلمين في الموطن الواحد ، فيؤخذ بهذا المقصد بقدر الإمكان . على أنّ أبا يوسف لا يرى دلالة مفهوم المخالفة فلا تدلّ الآية على الاختصاص بإمامة الرسول ، ولذلك جزم جمهور العلماء بأنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف للمسلمين أبداً . ومحمل هذا الشرط عندهم جار على غالب أحوالهم يومئذٍ من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لغزواتهم وسراياهم إلاّ للضرورة ، كما في الحديث " لولا أنّ قوماً لا يتخلّفون بعدي ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة سارت في سبيل الله " فليس المراد الاحترازَ عن كون غيره فيهم ولكن التنويهَ بكون النبي فيهم . وإذ قد كان الأمراء قائمين مقامه في الغزوات فالذي رخّص الله للملسمين معه يرخّصه لهم مع أمرائه ، وهذا كقوله : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] .
وفي نظم الآية إيجاز بديع فإنّه لمّا قال : « فلتقم طائفة منهم معك » علم أنّ ثمة طائفة أخرى ، فالضمير في قوله : { وليأخذوا أسلحتهم } للطائفة باعتبار أفرادها ، وكذلك ضمير قوله : { فإذا سجدوا } للطائفة التي مع النبي ، لأن المعية معية الصلاة ، وقد قال : { فإذا سجدوا } . وضمير قوله : { فليكونوا } للطائفة الأخرى المفهومة من المقابلة ، لظهور أنّ الجواب وهو { فليكونوا من ورائكم } متعيّن لفعل الطائفة المواجهة العدوّ .
وقوله : { ولتأت طائفة أخرى } هذه هي المقابلة لقوله : { فلتقم طائفة منهم معك } .
وقد أجملت الآية ما تصنعه كلّ طائفة في بقية الصلاة . ولكنّها أشارت إلى أنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم واحدة لأنّه قال : { فليصلوا معك } . فجعلهم تابعين لصلاته ، وذلك مؤذن بأنّ صلاته واحدة ، ولو كان يصلّي بكل طائفة صلاة مستقلّة لقال تعالى فلتصلّ بهم .
وبهذا يبطل قول الحسن البصري : بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين بكلّ طائفة ، لأنّه يصير متمّا للصلاة غير مقصّر ، أو يكون صلّى بإحدى الطائفتين الصلاة المفروضة وبالطائفة الثانية صلاة : نافلة له ، فريضة للمؤمنين ، إلاّ أن يلتزم الحسن ذلك . ويرى جواز ائتمام المفترض بالمتنفّل . ويظهر أنّ ذلك الائتمام لا يصحّ ، وإن لم يكن في السنّة دليل على بطلانه .
وذهب جمهور العلماء إلى أنّ الإمام يصلّي بكلّ طائفة ركعة ، وإنّما اختلفوا في كيفية تقسيم الصلاة : بالنسبة للمأمومين . والقول الفصل في ذلك هو ما رواه مالك في « الموطأ » ، عن سهل بن أبي حثمة : إنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، فصفّت طائفة معه وطائفة وِجاه العدوّ ، فصلّى بالذين معه ركعة ثم قام ، وأتمّوا ركعة لأنفسهم ، ثم انصرفوا فوقفوا وِجاه العدوّ ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت له ، ثم سلّم ، ثم قضوا الركعة التي فاتتهم وسلُّموا وهذه الصفة أوفق بلفظ الآية ، والروايات غيرُ هذه كثيرة .
والطائفة : الجماعة من الناس ذات الكثرة . والحقّ أنّها لا تطلق على الواحد والاثنين ، وإن قال بذلك بعض المفسّرين من السلف . وقد تزيد على الألف كما في قوله تعالى : { على طائفتين مِن قبْلِنا } [ الأنعام : 156 ] . وأصلها منقولة من طائفة الشيء وهي الجزء منه .
وقوله : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } استُعمل الأخذ في حقيقته ومجازه : لأنّ أخذ الحِذر مجاز ، إذ حقيقة الأخذ التناول ، وهو مجاز في التلبّس بالشيء والثبات عليه . وأخذُ الأسلحة حقيقة ، ونظيره قوله تعالى : { والذين تبوّأوا الدار والإيمانَ من قبلهم } [ الحشر : 9 ] ، فإنّ تَبَوّأ الإيمانِ الدخول فيه والاتّصافُ به بعد الخروج من الكفر . وجاء بصيغة الأمر دون أن يقول : ولا جناح عليكم أن تأخذوا أسلحتكم ، لأنّ أخذ السلاح فيه مصلحة شرعية .
وقوله : { ود الذين كفروا } الخ ، ودّهم هذا معروف إذ هو شأن كلّ محارب ، فليس ذلك المعنى المعروف هو المقصود من الآية ، إنّما المقصود أنّهم ودّوا ودّا مستقرباً عندهم ، لظنّهم أنّ اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين مصالح دنياهم جهلاً من المشركين لحقيقة الدين ، فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم ، فنبه الله المؤمنين إلى ذلك كيلاً يكونوا عند ظنّ المشركين ، وليعوّدهم بالأخذ بالحزم في كلّ الأمور ، وليريهم أنّ صلاح الدين والدنيا صنوان .
والأسلحة جمع سلاح ، وهو اسم جنس لآلة الحرب كلّها من الحديد ، وهي السيف والرمح والنبل والحَرْبَة وليس الدرع ولا الخُوذَة ولا التُّرس بسلاح . وهو يذكّر ويؤنث . والتذكير أفصح ، ولذلك جمعوه على أسلحة وهو من زِنات جمع المذكّر .
والأمتعة جمع متاع وهو كلّ ما ينتفع به من عروض وأثاث ، ويدخل في ذلك ما له عون في الحرب كالسروج ولامة الحرب كالدروع والخُوذات . { فيميلون } مفرّع عن قوله : { لو تغفلون } » الخ ، وهو محلّ الودّ ، أي ودّوا غفلتكم ليميلوا عليكم .
والميل : العدول عن الوسط إلى الطرف ، ويطلق على العدول عن شيء كان معه إلى شيء آخر ، كما هنا ، أي فيعدلون عن مُعسكرهم إلى جيشكم . ولمّا كان المقصود من الميل هنا الكَرُّ والشدُّ ، عُدّي ب ( على ) ، أي فيشدّون عليكم في حال غفلتكم .
وانتصب ( مَيلةً ) على المفعولية المطلقة لبيان العدد ، أي شدّة مفردة . واستعملت صيغة المرّة هنا كناية عن القوّة والشدّة ، وذلك أنّ الفعل الشديد القويّ يأتي بالغرض منه سريعاً دون معاودة علاج ، فلا يتكرّر الفعل لتحصيل الغرض ، وأكّد معنى المرّة المستفاد من صيغة فعلة بقوله : { واحدة } تنبيهاً على قصد معنى الكناية لئلاّ يتوهّم أنّ المصدر لمجرّد التأكيد لقوله : { فيميلون } .
وقوله : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر } الخ رخصة لهم في وضع الأسلحة عند المشقّة ، وقد صار ما هو أكمل في أداء الصلاة رخصةً هنا ، لأنّ الأمور بمقاصدها وما يحصل عنها من المصالح والمفاسد ، ولذلك قيّد الرخصة مع أخذ الحذر . وسبب الرخصة أنّ في المطر شاغلاً للفريقين كليهما ، وأمّا المرض فموجب للرخصة لخصوص المريض .
وقوله : { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } تذييل لتشجيع المسلمين ؛ لأنّه لمّا كرّر الأمر بأخذ السلاح والحَذر ، خيف أن تثور في نفوس المسلمين مخافة من العدوّ من شدّة التحذير منه ، فعقّب ذلك بأنّ الله أعدّ لهم عذاباً مهيناً ، وهو عذاب الهزيمة والقتل والأسر ، كالذي في قوله : { قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم } [ التوبة : 14 ] ، فليس الأمر بأخذ الحذر والسلاح إلاّ لتحقيق أسباب ما أعدّ الله لهم ، لأنّ الله إذا أراد أمراً هيَّأ أسبابه . وفيه تعليم المسلمين أن يطلبوا المسبّبات من أسبابها ، أي إن أخذتم حِذركم أمِنتم من عدوّكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا كنت فيهم}: النبي صلى الله عليه وسلم،
{فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك}، وليأخذوا حذرهم من عدوهم، {وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون}: تذرون {عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون}: فيحملون {عليكم} جميعا {ميلة واحدة}: حملة واحدة، يعني كرجل واحد عند غفلتكم، ثم رخص لهم في وضع السلاح عند المطر أو المرض، فقال: {ولا جناح}: لا حرج
{عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم} من عدوكم عند وضع السلاح، {إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا}، يعني الهوان. وكان تقصير الصلاة بعسفان، بين مكة والمدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم بإزاء الذين خافوه وهم غطفان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك يا محمد الخائفين عدوّهم أن يفتنهم، {فأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}: فأقمت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي أبحت لهم أن يقصروها في حال تلاقيهم وعدوّهم وتزاحف بعضهم على بعض، من ترك إقامة حدودها وركوعها وسجودها وسائر فروضها، {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}: فلتقم فرقة من أصحابك الذين تكون أنت فيهم معك في صلاتك، وليكن سائرهم في وجوه العدوّ. وترك ذكر ما ينبغي لسائر الطوائف غير المصلية مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفعله لدلالة الكلام المذكور على المراد به والاستغناء بما ذكر عما ترك ذكره.
{وَلْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ}. واختلف أهل التأويل في الطائفة المأمورة بأخذ السلاح، فقال بعضهم: هي الطائفة التي كانت تصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ومعنى الكلام:
{ولَيْأْخُذُوا}: ولتأخذ الطائفة المصلية معك من طوائفهم {أسْلِحَتَهُمْ}، والسلاح الذي أمروا بأخذه عندهم في صلاتهم كالسيف يتقلده أحدهم والسكين والخنجر يشدّه إلى درعه وثيابه التي هي عليه ونحو ذلك من سلاحه.
وقال آخرون: بل الطائفة المأمورة بأخذ السلاح منهم، الطائفة التي كانت بإزاء العدوّ ودون المصلية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم¹ وذلك قول ابن عباس.
{فلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مصافي العدوّ في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصلّ معك ولم تدخل معك في صلاتك.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}؛ فقال بعضهم: تأويله: فإذا صلوا ففرغوا من صلاتهم فليكونوا من ورائكم.
ثم اختلف أهل هذه المقالة؛ فقال بعضهم: إذا صلت هذه الطائفة مع الإمام ركعة، سلمت وانصرفت من صلاتها حتى تأتي مقام أصحابها بإزاء العدوّ ولا قضاء عليها، وهم الذين قالوا: عنى الله بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ}: أن تجعلوها إذا خفتم الذين كفروا أن يفتنوكم ركعة. ورووا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى بطائفة صلاة الخوف ركعة ولم يقضوا، وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا.
وقال آخرون منهم: بل الواجب كان على هذه الطائفة التي أمرها الله بالقيام مع نبيها إذا أراد إقامة الصلاة بهم في حال خوف العدوّ إذا فرغت من ركعتها التي أمرها الله أن تصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما أمرها به في كتابه أن تقوم في مقامها الذي صلت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصلى لأنفسها بقية صلاتها وتسلم، وتأتي مصافّ أصحابها، وكان على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يثبت قائما في مقامه حتى تفرغ الطائفة التي صلت معه الركعة الأولى من بقية صلاتها، إذا كانت صلاتها التي صلت معه مما يجوز قصر عددها عن الواجب الذي على المقيمين في أمن، وتذهب إلى مصافّ أصحابها، وتأتي الطائفة الأخرى التي كانت مصافة عدوّها، فيصلي بها ركعة أخرى من صلاتها.
ثم هم في حكم هذه الطائفة الثانية مختلفون؛ فقالت فرقة من أهل هذه المقالة: كان على النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من ركعتيه ورفع رأسه من سجوده من ركعته الثانية أن يقعد للتشهد، وعلى الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ولم تدرك معه الركعة الأولى لاشتغالها بعدوّها أن تقوم فتقضى ركعتها الفائتة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى النبيّ صلى الله عليه وسلم انتظارها قاعدا في تشهده حتى تفرغ هذه الطائفة من ركعتها الفائتة وتتشهد، ثم يسلم بهم.
وقالت فرقة أخرى منهم: بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعد النبيّ صلى الله عليه وسلم للتشهد أن تقعد معه للتشهد فتتشهد بتشهده، فإذا فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم، ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية حينئذ، فقضت ركعتها الفائتة. وكلّ قائل من الذين ذكرنا قولهم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبارا كما قال فعل.
وقال آخرون: بل تأويل قوله: {فإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}: فإذا سجدت الطائفة التي قامت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حين دخل في صلاته، فدخلت معه في صلاته السجدة الثانية من ركعتها الأولى فليكونوا من ورائكم، يعني: من ورائك يا محمد ووراء أصحابك الذين لم يصلوا بإزاء العدوّ. قالوا: وكانت هذه الطائفة لا تسلم من ركعتها إذا هي فرغت من سجدتي ركعتها التي صلت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنها تمضي إلى موقف أصحابها بإزاء العدوّ وعليها بقية صلاتها. قالوا: وكانت تأتي الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدوّ حتى تدخل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بقية صلاته، فيصلي بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الركعة التي كانت قد بقيت عليه. قالوا: وذلك معنى قول الله عزّ ذكره: {وَلْتَأْتِ طائفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلّوا فَلْيُصَلّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وأسْلِحَتَهُمْ}.
ثم اختلف أهل هذه المقالة في صفة قضاء ما كان يبقى على كل طائفة من هاتين الطائفتين من صلاتها بعد فراغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من صلاته وسلامه من صلاته على قول قائلي هذه المقالة ومتأوّلي هذا التأويل¹؛
فقال بعضهم: كانت الطائفة الثانية التي صلت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من صلاتها إذا سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم من صلاته فقامت فقضت ما فاتها من صلاتها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مقامها بعد فراغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من صلاته، والطائفة التي صلت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى بإزاء العدوّ بعد لم تتم صلاتها، فإذا هي فرغت من بقية صلاتها التي فاتتها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم مضت إلى مصافّ أصحابها بإزاء العدوّ، وجاءت الطائفة الأولى التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى إلى مقامها التي كانت صلت فيه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضت بقية صلاتها...
وقال آخرون: بل كانت الطائفة الثانية التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية لا تقضي بقية صلاتها بعد ما يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، ولكنها كانت تمضي قبل أن تقضي بقية صلاتها، فتقف موقف أصحابها الذين صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى، وتجيء الطائفة الأولى إلى موقفها الذي صلت فيه ركعتها الأولى مع رسول الله فتقضي ركعتها التي كانت بقيت عليها من صلاتها، فقال بعضهم: كانت تقضي تلك الركعة بغير قراءة.
وقال آخرون: بل كانت تقضي بقراءة، فإذا قضت ركعتها الباقية عليها هنالك وسلمت مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدوّ، وأقبلت الطائفة التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية إلى مقامها الذي صلت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضت الركعة الثانية من صلاتها بقراءة، فإذا فرغت وسلمت انصرفت إلى أصحابها. وقال آخرون: بل كلّ طائفة من الطائفتين تقضي صلاتها على ما أمكنها من غير تضييع منهم بعضها.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في صلاة الخوف، والعدوّ يومئذ في ظهر القبلة بين المسلمين وبين القبلة، فكانت الصلاة التي صلى بهم يومئذ النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، إذ كان العدوّ بين الإمام والقبلة...
فتأويل الآية على قول هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، ورووا هذه الرواية: وإذا كنت يا محمد فيهم، يعني في أصحابك خائفا، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك¹ يعني ممن دخل معك في صلاتك، {فإذَا سَجَدُوا}، يقول: فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك، ورفعت رؤوسها من سجودها {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}: فليصر من خلفك، خلف الطائفة التي حرستك وإياهم إذا سجدت بهم وسجدوا معك. {ولْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلّوا} يعني الطائفة الحارسة التي صلت معه غير أنها لم تسجد بسجوده، فمعنى قوله: {لَم يُصَلّوا} على مذهب هؤلاء: لم يسجدوا بسجودك: {فَلْيُصَلّوا مَعَكَ}: فليسجدوا بسجودك إذا سجدت، ويحرسك وإياهم الذين سجدوا بسجودك في الركعة الأولى. {وَلْيأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وأسْلِحَتَهُمْ} يعني الحارسة.
وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال معنى ذلك: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتها،
{فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} يعني من خلفك وخلف من يدخل في صلاتك ممن لم يصلّ معك الركعة الأولى بإزاء العدوّ بعد فراغها من بقية صلاتها، {ولْتَأْتِ طَائِفةٌ أُخْرَى} وهي الطائفة التي كانت بإزاء العدوّ لم يصلوا، يقول: لم يصلوا معك الركعة الأولى {فلْيُصَلّوا مَعَكَ}: فليصلوا معك الركعة التي بقيت عليك. {ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وأَسْلِحَتَهُمْ} لقتال عدوّهم بعد ما يفرغون من صلاتهم.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله عزّ ذكره قال:
{وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ} وقد دللنا على أن إقامتها إتمامها بركوعها وسجودها، ودللنا مع ذلك على أن قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} إنما هو إذن بالقصر من ركوعها وسجودها في حال شدة الخوف. فإذا صحّ ذلك كان بينا أن لا وجه لتأويل من تأوّل ذلك أن الطائفة الأولى إذا سجدت مع الإمام فقد انقضت صلاتها، لقوله: {فإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} لاحتمال ذلك من المعاني ما ذكرت قبل، ولأنه لا دلالة في الآية على أن القصر الذي ذكر في الآية قبلها عنى به القصر من عدد الركعات. وإذ كان لا وجه لذلك، فقول من قال: أريد بذلك التقدم والتأخر في الصلاة على نحو صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسعفان أبعد، وذلك أن الله جلّ ثناؤه يقول: {وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلّوا فَلْيُصَلّوا مَعَكَ} وكلتا الطائفتين قد كانت صلت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ركعته الأولى في صلاته بعسفان، ومحال أن تكون التي صلت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم هي التي لم تصل معه.
فإن ظنّ ظانّ أنه أريد بقوله: {لَمْ يُصَلّوا}: لم يسجدوا، فإن ذلك غير الظاهر المفهوم من معاني الصلاة، وإنما توجه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأظهر والأشهر من وجوههما ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له. وإذ كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية أمر من الله عزّ ذكره للطائفة الأولى بتأخير قضاء ما بقي عليها من صلاتها إلى فراغ الإمام من بقية صلاته، ولا على المسلمين الذين بإزاء العدوّ في اشتغالها بقضاء ذلك ضرر، لم يكن لأمرها بتأخير ذلك وانصرافها قبل قضاء باقي صلاتها عن موضعها معنى. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإنا نرى أن من صلاها من الأئمة فوافقت صلاته بعض الوجوه التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلاها، فصلاته مجزئة عنه تامة لصحة الأخبار بكلّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من الأمور التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ثم أباح لهم العمل بأيّ ذلك شاءوا.
{وَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكُمْ وأمْتِعَتِكُمْ}: تمنى الذين كفروا بالله، لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، يقول: لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم بها، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها. {فَيَمِيُلونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}: فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم جملة واحدة، فيصيبون منكم غرّة بذلك فيقتلونكم، ويستبيحون عسكركم. يقول جلّ ثناؤه: فلا تفعلوا ذلك بعد هذا، فتشتغلوا جميعكم بصلاتكم إذا حضرتكم صلاتكم وأنتم مواقفو العدوّ، فتمكنوا عدوّكم من أنفسكم وأسلحتكم وأمتعتكم ولكن أقيموا الصلاة على ما بينت لكم، وخذوا من عدوّكم حذركم وأسلحتكم.
{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ}: وَلا حرج عليكم ولا إثم، {إنْ كانَ بِكُمْ أذًى مِنْ مَطَرٍ}: إن نالكم من مطر تمطرونه وأنتم مواقفو عدوّكم. {أوْ كُنْتُمْ مَرْضَى}: جرحى أوْ أَعِلاّء {أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ}: إن ضعفتم عن حملها، ولكن إن وضعتم أسلحتكم من أذى مطر أو مرض، فخذوا من عدوّكم حذركم، يقول: احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم عنهم غافلون غارّون.
{إنّ اللّهَ أعَدّ للكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا}: أعدّ لهم عذابا مذلاً يبقون فيه أبدا لا يخرجون منه، وذلك هو عذاب جهنم. وقد ذكر أن قوله: {أوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} نزل في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} يحتمل قوله: {حذرهم} أي يأخذون ما يستترون به، ويحترسون من العدو من نحو الترس والدرع ونحوهما. ويحتمل قوله: {وأسلحتهم} ما يقاتل به من السلاح ويحارب. ويحتمل ما يحصن به من نحو الجبال وغيرها. وفيه الأمر بتعلم آداب الحرب والقتال وأخذ الأهبة والإعداد ودون أن يكلوا الأمر إلى ذلك، ولكن يكلون الأمر إلى ما وعد الله لهم من النصر بقوله تعالى: {وما النصر إلى من عند الله} (آل عمران: 126والأنفال: 10)...
وقوله تعالى: { {إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا} أي أعد لهم من العذاب ما يهونون فيه: نصروا، أو غلبوا. وأعد لكم من الثواب ما تشرفون وتعتزون به: نصرتم، أو غلبتم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تدل هذه الآية على أن الصلاة لا ترتفع عن العبد ما دام فيه نَفَسٌ من الاختيار لا في الخوف ولا في الأمن...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وإذا كنت فيهم} أي إذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم {فأقمت لهم الصلاة} أي ابتدأت بها إماما لهم {فلتقم طائفة منهم معك} نصفهم يصلون معك {وليأخذوا} أي وليأخذ الباقون أسلحتهم {فإذا سجدوا} فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك {فليكونوا من ورائكم} أي الذين أمروا بأخذ السلاح {ولتأت طائفة أخرى} أي الذين كانوا من ورائهم يحرسونهم {لم يصلوا} معك الركعة الأولى {فليصلوا معك} الركعة الثانية {وليأخذوا حذرهم} من عدوهم {وأسلحتهم} أسلحتهم معهم يعني الذين صلوا أول مرة. {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم} في صلاتكم {فيميلون عليكم ميلة واحدة} بالقتال. {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} ترخيص لهم في ترك حمل السلاح في الصلاة وحمله فرض عند بعضهم وسنة مؤكدة عند بعضهم فرخص الله لهم في تركه لعذر المطر والمرض لأن السلاح يثقل على المريض ويفسد في المطر {وخذوا حذركم} أي كونوا على حذر في الصلاة كيلا يتغفلكم العدو...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله: (وإذا كنت فيهم) ليس على سبيل الشرط، وإنما خرج الكلام على وفق الحال...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
صلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت في السنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} يتعلق بظاهره من لا يرى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث شرط كونه فيهم: وقال من رآها بعده: إن الأئمة نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عصر، قوّام بما كان يقوم به فكان الخطاب له متناولاً لكل إمام يكون حاضر الجماعة في حال الخوف، عليه أن يؤمّهم كما أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعات التي كان يحضرها...
فإن قلت: كيف طابق الأمر بالحذر قوله: {إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً}؟ قلت: الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبته واعتزازه. فنفي عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ الله يهين عدوهم ويخذله وينصرهم عليه، لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من الله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {ود الذين كفروا} الآية إخبار عن معتقد القوم وتحذير من الغفلة، لئلا ينال العدو أمله...
وفي قوله تعالى: {ميلة واحدة} بناء مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية،...
وقوله تعالى: {ولا جناح عليكم} الآية ترخيص... قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين، وينقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت...
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة حال قصر الصلاة بحسب الكمية في العدد، بين في هذه الآية حالها في الكيفية،...
قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم} أي وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم {فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} والمعنى فاجعلهم طائفتين، فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم وليأخذوا أسلحتهم...
ثم قال: {فإذا سجدوا فليكونوا} يعني غير المصلين {من ورائكم} يحرسونكم... قال: {ولياخذوا حذرهم وأسلحتهم} والمعنى أنه تعالى جعل الحذر وهو التحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ وجعلا مأخوذين. قال الواحدي رحمه الله: وفيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة...
فإن قيل: لم ذكر في الآية الأولى {أسلحتهم} فقط، وذكر في هذه الآية حذرهم وأسلحتهم. قلنا: لأن في أول الصلاة قلما يتنبه العدو لكون المسلمين في الصلاة، بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة. أما في الركعة الثانية فقد ظهر للكفار كونهم في الصلاة، فهاهنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير فقال: {وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم}...
قال: {وخذوا حذركم} والمعنى أنه لما رخص لهم في وضع السلاح حال المطر وحال المرض أمرهم مرة أخرى بالتيقظ والتحفظ والمبالغة في الحذر، لئلا يجترئ العدو عليهم احتيالا في الميل عليهم واستغناما منهم لوضع المسلمين أسلحتهم...
قوله في أول الآية {وليأخذوا أسلحتهم} أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فيقتضي أن يكون أخذ السلاح واجبا ثم تأكد هذا بدليل آخر، وهو أنه قال: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} فخص رفع الجناح في وضع السلاح بهاتين الحالتين، وذلك يوجب أن فيما وراء هاتين الحالتين يكون الإثم والجناح حاصلا بسبب وضع السلاح...
ثم الشرط أن لا يحمل سلاحا نجسا إن أمكنه، ولا يحمل الرمح إلا في طرف الصف، وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد...
قال أبو علي الجرجاني صاحب النظم: قوله تعالى: {وخذوا حذركم} يدل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا غير غافل عن كيد العدو. والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر، لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم، فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين: طائفة في وجه العدو، وطائفة مع النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل القبلة، وأما حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة، والمسلمون كانوا مستقبلين لها، فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود، فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم، فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى: {خذوا حذركم} يدل على جواز كل هذه الوجوه؛ والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن وإنه غير جائز،... دلت الآية على وجوب الحذر عن العدو، فيدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد. وبيَّن الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو، ولكن فيها رخص على ما تقدم في "البقرة "وهذه السورة، بيانه من اختلاف العلماء...
وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة" [التوبة: 103] هذا قول كافة العلماء. وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا: لا نصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الخطاب كان خاصا له بقوله تعالى: "وإذا كنت فيهم" وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في ذلك، وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه، والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب؛ فلذلك يصلي الإمام بفريق ويأمر من يصلي بالفريق الآخر، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا. وقال الجمهور: إنا قد أمرنا باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث، فقال تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة..." [النور: 63] وقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي). فلزم اتباعه مطلقا حتى يدل دليل واضح على الخصوص، ولو كان ما ذكروه دليلا على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ كان يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها، ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد قال تعالى: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره" [الأنعام: 68] وهذا خطاب له، وأمته داخلة فيه، ومثله كثير. وقال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة" [التوبة: 103] وذلك لا يوجب الاقتصار عليه وحده، وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه؛ فكذلك في قوله: "وإذا كنت فيهم"...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صَوْبها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة ثلاثية كالمغرب، وتارة ثنائية، كالصبح وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ورجالا وركبانا، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة. ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتم سبحانه وتعالى بيان القصر في الكمية مقروناً بالخوف لما ذكر، وكان حضور النبي صلى الله عليه وسلم مظنة الأمن بالتأييد بالملائكة ووعد العصمة من الناس، وما شهر به من الشجاعة ونصر به من الرعب وغير ذلك من الأمور القاضية بأن له العاقبة؛ بيَّن سبحانه وتعالى حال الصلاة في الكيفية عند الخوف، وأن صلاة الخوف تفعل عند الأنس بحضرته كما تفعل عند الاستيحاش بغيبته صلى الله عليه وسلم، فجوازها لقوم ليس هو صلى الله عليه وسلم فيهم مفهوم موافقة، فقال سبحانه وتعالى: {وإذا كنت} حال الخوف الذي تقدم فرضه {فيهم} أي في أصحابك سواء كان ذلك في السفر أو في الحضر {فأقمت} أي ابتدأت وأوجدت {لهم الصلاة} أي الكاملة وهي المفروضة {فلتقم طائفة منهم معك} أي في الصلاة ولتقم الطائفة الأخرى وجاه العدو، ويطوفون في كل موضع يمكن أن يأتي منه العدو {وليأخذوا} أي المصلون لأنهم المحتاجون إلى هذا الأمر لدخولهم في حالة هي بترك السلاح أجدر {أسلحتهم} كما يأخذها من هو خارج الصلاة، وسبب الأمر بصلاة الخوف -كما في صحيح مسلم وغيره عن جابر رضي الله تعالى عنه "أنهم غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقاتلوا قوماً من جهينة فقاتلوا قتالاً شديداً، قال جابر رضي الله تعالى عنه: فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبرئيل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم، قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد فلما حضرت العصر صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة "الحديث {فإذا سجدوا} يمكن أن يكون المراد بالسجود ظاهره، فيكون الضمير في {فليكونوا} للجمع الذين منهم هذه الطائفة- المذكورين بطريق الإضمار في قوله {وإذا كنت فيهم} وفي {فلتقم طائفة منهم} أي فإذا سجد الذين قاموا معك في الصلاة فليكن المحدث عنهم وهم الباقون الذين أنت فيهم وهذه الطائفة منهم {من ورائكم} فإذا أتمت هذه الطائفة صلاتها فلتذهب إلى الحراسة {ولتأت طائفة أخرى} أي من الجماعة {لم يصلوا فليصلوا معك} كما صلت الطائفة الأولى، فإن كانت الصلاة ثنائية ولم تصل بكل طائفة جميع الصلاة فلتسلم بالطائفة الثانية، وإن كانت رباعية ولم تصل بكل فرقة جميع الصلاة فلتتم صلاتها، ولتذهب إلى وجاه العدو ولتأت طائفة أخرى -هكذا حتى تتم الصلاة؛ ويمكن أن يكون المراد بالسجود الصلاة- من إطلاق اسم الجزء على الكل، فكأنه قال: فإذا صلوا، أي أتموا صلاتهم -على ما مضت الإشارة إليه، والضمير حينئذ في "فليكونوا" للطائفة الساجدة، وقوله: {وليأخذوا} يمكن أن يكون ضميره للكل، لئلا يتوهم أن الأمر بذلك يختص بالمصلي، لأن غيره لا عائق له عن الأخذ متى شاء، أو ولتأخذ جميع الطوائف الحارسون والمصلون {حذرهم وأسلحتهم} في حال صلاتهم وحراستهم وإتيانهم إلى الصلاة وانصرافهم منها، فجعل الحذر الذي هو التيقظ والتحرز بإقبال الفكر على ما يمنع كيد العدو كالآلة المحسوسة، وخص في استعماله في الصلاة في شأن العدو وخص آخر الصلاة بزيادة لاحذر إشارة إلى أن العدو في أول الصلاة قلما يفطنون لكونهم في الصلاة بخلاف الآخر، فلهذا خص بمزيد الحذر، وهذا الكلام على وجازته محتمل- كما ترى -لجميع الكيفيات المذكورة في الفقه لصلاة الخوف إذا لم يكن العدو في وجه القبلة على أنها تحتمل التنزيل على ما إذا كان في وجه القبلة بأن يحمل الواء على ما واراه السجود عنكم وإتيان الطائفة الأخرى على الإقبال على المتابعة للامام في الأفعال {ولم يصلوا} أي بقيد المتابعة له فيها- والله سبحانه وتعالى الهادي.
وما أحسن اتصال ذلك بأول آيات الجهاد في هذه السورة
{يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} [النساء: 71] فهو من رد المقطع على المطلع، ثم علل أمره بهذه الكيفية على هذا الاحتياط والحزم بقوله مقوياً لترغيبهم في ذلك بإقبال الخطاب عليهم: {ودَّ} أي تمنى تمنياً عظيماً {الذين كفروا} أي باشروا الكفر وقتاً ما، فكيف بمن هو غريق فيه {لو تغفلون} أي تقع لكم غفلة في وقت ما {عن أسلحتكم}.
ولما كانت القوة بالآلات مرهبة للعدو ومنكبة قال: {وأمتعتكم} ولما كانت الغفلة ضعفاً ظاهراً، تسبب عنها قوله: {فيميلون} وأشار إلى العلو والغلبة بقوله: {عليكم} وأشار إلى سرعة الأخذن بقوله: {ميلة} وأكده بقوله: {واحدة}.
ولما كان الله -وله المنّ- قد رفع عن هذه الأمة الحرج، وكان المطر والمرض شاقين قال: {ولا جناح} أي حرج {عليكم إن كان بكم أذى} أي وإن كان يسيراً {من مطر} أي لأن حمل السلاح حينئذ يكون سبباً لبلّه {أو كنتم مرضى} أي متصفين بالمرض وكأن التعبير بالوصف إشارة إلى أن أدنى شيء منه لا يرخص {أن تضعوا أسلحتكم} أي لأن حملها يزيد المريض وهنا.
ولما خفف ما أوجبه أولاً من أخذ السلاح برفع الجناح في حال العذر، فكان التقدير: فضعوه إن شئتم؛ عطف عليه بصيغة الأمر إشارة إلى وجوب الحذر منهم في كل حال قوله: {وخذوا حذركم} أي في كل حالة، فإن ذلك نفع لا يتوقع منه ضرر؛ ثم علل ذلك بما بشر فيه بالنصر تشجيعاً للمؤمنين، وإعلاماً بأن الأمر بالحزم إنما هو للجري على ما رسمه من الحكمة في قوله -ربط المسببات بالأسباب، فهو من باب "اعقلها وتوكل" فقال: {إن الله} المحيط علماً وقدرة {أعدَّ} أي في الأزل {للكافرين} أي الدائمين على الكفر، لا من اتصف به وقتاً ما وتاب منه {عذاباً مهيناً} أي يهينهم به، من أعظمه حذركم الذي لا يدع لهم عليكم مقدماً، ولا تمكنهم معه منكم فرصة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال عز وجل بعد ما تقدم من الإذن بالقصر من الصلاة: {وإذا كنت فيهم} أي وإذا كنت أيها الرسول في جماعتك من المؤمنين ومثله في هذا كل إمام في كل جماعة {فأقمت لهم الصلاة} إقامة الصلاة تطلق على الذكر الذي يدعى به إلى الدخول فيها وهو نصف ذكر الأذان وزيادة "قد قامت الصلاة "مرتين بعد كلمة "حي على الفلاح" كما ثبت في السنة الصحيحة، وقيل هو كالأذان مع زيادة ما ذكر، وتطلق على الإتيان بها مقومة تامة الأركان والشرائط والآداب، والظاهر هنا المعنى الأول، لتعديته باللام ولأن الصلاة المبينة في الآية ليست تامة بل هي مقصور منها، وتقابل صلاة الخوف هنا صلاة الاطمئنان المأمور بها في الآية التالية، فمعنى أقمت لهم الصلاة دعوتهم إلى أدائها جماعة، أي والزمن زمن الحرب وفتنة الكفار مخوفة.
{فلتقم طائفة منهم معك} في الصلاة يقتدون بك ويبقى الآخرون مراقبين للعدو يحرسون المصلين خوفا من اعتدائه: {وليأخذوا أسلحتهم} أي وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها، وعن ابن عباس أن الأمر بأخذ السلاح أي حمله هو للطائفة الأخرى لقيامها بالحراسة، ويجوز الزجاج والنحاس أن يكون للطائفتين جميعا أي وليكن المؤمنون حين انقسامهم إلى طائفتين واحدة تصلي وواحدة تراقب وتحرس حاملين للسلاح لا يتركه منهم أحد، ووجه تقديم الأول أن من شأن الجميع في مثل تلك الحال أن يحملوا أسلحتهم إلا في وقت الصلاة التي لا يكون فيها قتال ولا نزال فاحتيج إلى الأمر بحمل السلاح في الصلاة لأنه مظنة المنع والامتناع. والأسلحة جمع سلاح وهو كل ما يقاتل به وإنما يحل منه في حال إقامة الصلاة التامة الأركان ما يسهل حمله فيها كالسيف والخنجر والنبال من أسلحة الزمن الماضي، ومثل البندقية على الظهر والمسدس في الحزام أو الجيب من أسلحة هذا العصر.
{فإذا سجدوا} أي فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة: {فليكونوا من ورائكم} أي فليكن الآخرون الذين يحرسونكم من خلفكم، وأحوج ما يكون المصلي للحراسة ساجدا لأنه لا يرى حينئذ من يهم به، أو عبر بالسجود عن الصلاة أي إتمامها لأنه آخر صلاة الطائفة الأولى، ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم، والصلاة مع النبي (صلى الله عليه وسلم) كما صلوا، و هو قوله: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك} أي ولتأت الطائفة الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا معك كما صلت الطائفة الأولى: {وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} في الصلاة كما فعل الذين من قبلهم، وزاد هنا الأمر بأخذ الحذر وهو التيقظ والاحتراس من المخاوف، وتقدم تحقيق القول فيه في تفسير قوله تعالى من هذه السورة بل من هذا السياق فيها: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} [النساء:71] قيل إن حكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية هو أن العدو قلّما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين فيها بل يظن إذا رآهم صفا أنهم قد اصطفوا للقتال، واستعدوا للحرب والنزال، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم في صلاة، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها في الصلاة، كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة، وقد بين تعالى لنا هذا معللا به الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة فقال:
{ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} أي تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم في سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم أي يحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح، تاركون حماية المتاع والزاد، فيصيبون منكم غرة فيقتلون من استطاعوا قتله، وينتهبون ما استطاعوا أخذه، فلا تغفلوا عنهم، ولا تجعلوا لهم سبيلا عليكم، وهذا الخطاب عام لجميع المؤمنين لا يختص الطائفة الحارسة دون المصلية، وهو استئناف بياني على سنة القرآن في قرن الأحكام بعللها وحكمها.
ولما كان الخطاب عاما لجميع المحاربين، وكان يعرض لبعض الناس من العذر ما يشق معه حمل السلاح، عقب على العزيمة بالرخصة لصاحب العذر فقال: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم} أي ولا تضييق عليكم ولا إثم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم، وربما أفسد الماء السلاح لأنه سبب الصدأ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل، ولكن يجب عليكم حتى في هذه الحال أن تأخذوا حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم، ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم، والضرورة تتقدر بقدرها: {إن الله أعدّ للكافرين عذابا مهينا} بما هداكم إليه من أسباب النصر، كإعداد كل ما يستطاع من القوة وأخذ الحذر، والاعتصام بالصلاة والصبر، ورجاء ما عند الله من الرضوان والأجر، فالظاهر أن العذاب ذا الإهانة هو عذاب الغلب وانتصار المسلمين عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به من الأسباب النفسية والعملية، وسيأتي قريبا ما يؤيد هذا المعنى في هذا السياق كالأمر بذكر الله كثيرا، وقوله: {إنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}. ويؤيده قوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيدكم ويخزهم وينصركم عليهم} [التوبة:15] وقال جمهور المفسرين إن المراد به عذاب الآخرة، وإنه مع ذلك ينفي ما ربما يخطر في البال من أن الأمر بأخذ السلاح والحذر يشعر بتوقع النصر للأعداء.
روى البخاري أن الرخصة في الآية للمرضى نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا، والمعنى عندي أن الآية قد انطبق حكمها عليه وإلا فهي قد نزلت في سياق الآيات بأحكام أعم وأشمل...
ورد في أداء النبي (صلى الله عليه وسلم) لصلاة الخوف جماعة كيفيات متعددة أوصلها بعضهم إلى سبعة عشر. والتحقيق ما قاله ابن القيم من أن أصولها ست وأن ما زاد على ذلك فإنما هو من اختلاف الرواة في وقائعها واعتمده الحافظ ابن حجر. والحق أن كل كيفية منها صحت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فهي جائزة، وهاك أصولها المشهورة:
-روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة (وفي لفظ عمن صلى مع النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم ذات الرقاع) أن طائفة صفت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وطائفة وجاه العدو (أي تجاهه مراقبة له) فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته فأتموا لأنفسهم فسلم بهم "وغزوة ذات الرقاع هذه هي غزوة نجد لقي بها النبي (صلى الله عليه وسلم) جمعا من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال ولكن القتال كان منتظرا فلذلك صلى بأصحابه صلاة الخوف، وسميت ذات الرقاع لأنها نقبت أقدامهم فلفوا على أرجلهم الرقاع أي الخرق وقيل لأن حجارة تلك الأرض مختلفة الألوان كالرقاع المختلفة وقيل غير ذلك.
هذه الكيفية في حالة كون العدو في غير جهة القبلة وهي منطبقة على الآية الكريمة فليس في الآية ذكر السجود إلا مرة واحدة فظاهرها أن كل طائفة تصلي ركعة واحدة هي فرضها لا تتم ركعتين لا مع الإمام ولا وحدها، وهو الذي يصلي ركعتين، وقد قال بهذه الصلاة أفقه فقهاء الصحابة عليهم الرضوان علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وكذا أبو هريرة وأبو موسى وسهل بن أبي حثمة راوي الحديث المتفق عليه، وعليها من فقهاء آل البيت عليهم السلام القاسم والمؤيد بالله وأبو العباس، ومن فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم.
- روى أحمد والشيخان عن ابن عمر (قال صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة للعدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو. وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي (صلى الله عليه وسلم) ركعة ثم سلم. ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة).
هذه الكيفية تنطبق على الآية أيضا وهي كالتي قبلها في حال كون العدو في غير جهة القبلة، ولا فرق بينها وبين الأولى إلا في قضاء كل فرقة ركعة بعد سلام الإمام ليتم لها ركعتان والظاهر أنهما تأتيان بالركعتين على التعاقب لأجل الحراسة، وأما فرض كل منهما في الكيفية الأولى فركعة واحدة. والظاهر أن الطائفة الثانية تتم بعد سلام الإمام من غير أن تقطع صلاتها بالحراسة، فتكون ركعتاها متصلتين، وأن الأولى لا تصلي الركعة الثانية إلا بعد أن تنصرف الطائفة الثانية من صلاتها إلى مواجهة العدو. وهو ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود فإنه قال: (ثم سلم وقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا) وقد أخذ بهذه الكيفية الحنفية والأوزاعي وأشهب ورجحها ابن عبد البر على غيرها بقوة الإسناد وموافقتها للأصول في كون المأموم يتم صلاته بعد سلام إمامه.
-روى أحمد والشيخان عن جابر قال: (كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) بذات الرقاع وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكان للنبي (صلى الله عليه وسلم) أربع وللقوم ركعتان).
هذه الكيفية منطبقة على الآية أيضا وكانت كاللتين ذكرتا قبلها في حال وجود العدو في غير جهة القبلة، إلا أنه ليس فيها تفصيل كأن جابرا قال ما قاله لمن كان يعرف القصة وكون كل طائفة كانت تراقب العدو في جهته عند صلاة الأخرى، أو أن الراوي عنه ذكر من معنى حديثه ما احتيج إليه، والفرق بين هذه وما قبلها أن الصلاة كانت فيها ركعتين للجماعة وأربعا للإمام، وفي رواية ابن عمر ركعتين لكل من الجماعة والإمام، وفي رواية سهل ركعة واحدة للجماعة وركعة للإمام، فلا فرق إلا في عدد الركعات، وقد صرح بأن هذه كانت في ذات الرقاع وكذلك الأولى، والظاهر أن الثانية كانت فيها أيضا أو في غزوة مثلها كان العدو فيها في غير جهة القبلة.
وفي رواية للشافعي والنسائي عن الحسن عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلّى بآخرين ركعتين ثم سلم. وفي رواية أخرى للحسن عن أبي بكرة عند أحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم قال: (صلّى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصلّى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم تأخروا وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم فصلّى بهم ركعتين ثم سلم، فصار للنبي (صلى الله عليه وسلم) أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان) وقد أعلّوا هذا الرواية بأن أبا بكرة أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة وأجاب الحافظ ابن حجر بجواز أن يكون رواه عمن صلاها فيكون مرسل صحابي. ويؤيد هذه الرواية وكونها تفسيرا لما قبلها موافقتها للآية فضل موافقة بتصريحها بما يدل على قيام الطائفة الأخرى بالحراسة، فهي تفسير للروايتين عن جابر، وقد صرح شراح الحديث بأن الركعتين اللتين صلاهما النبي (صلى الله عليه وسلم) بالطائفة الثانية كانتا له نفلا ولها فرضا.
واقتداء المفترض بالمتنفل ثابت في السنة، قال النووي في شرح مسلم وبهذا قال الشافعي وحكوه عن الحسن البصري وادعى الطحاوي أنه منسوخ ولا تقبل دعواه إذ لا دليل لنسخه اه.
أقول: وقد قال الشافعية باستحباب إعادة الفريضة مع الجماعة وقالوا إنه ينوي بها الفرض ولم يجزموا بأن الثانية هي النفل بل قال بعضهم بجواز أن تحسب الثانية هي الفريضة. وجملة القول إن هذه الكيفية من صلاة الخوف داخلة في مفهوم الآية، وموافقة للأحاديث المتفق عليها في عدم زيادة النبي (صلى الله عليه وسلم) على ركعتين في سفره حتى أن الشافعية الذين يجيزون أداء الرباعية تامة في السفر قالوا إن الركعتين الأخريين كانتا نفلا له (صلى الله عليه وسلم) ولو صلّى الأربع موصولة لكان لمدع أن يدعي عدم اطراد ذلك النفي.
- روى النسائي بإسناد رجاله ثقات احتج به الحافظ ابن حجر في التلخيص وابن حبان وصححه عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلّى بذي قرد (بالتحريك وهو ماء على مسافة ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر) فصفّ الناس خلفه صفين صفا خلفه وصفا موازي العدو فصلّى بالذين خلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة، ولم يقضوا ركعة. وروى أبو داود والنسائي بإسناد رجاله رجال الصحيح عن ثعلبة بن زهدم (رضي الله عنه) قال كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال أيكم صلّى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فصلّى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا. ورويا مثل صلاة حذيفة عن زيد بن ثابت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ويؤيد ذلك حديث ابن عباس الذي تقدم نقله عن زاد المعاد وهو (فرض الله الصلاة على نبيكم (صلى الله عليه وسلم) في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. والقول بهذا قد روي عن أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وغير واحد من التابعين وهو مذهب الثوري وإسحاق ومن تبعهما.
هذه الكيفية داخلة في مفهوم الآية الكريمة أيضا إذ ظاهر الآية أن كل طائفة صلّت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) ركعة واحدة وليس فيها أن أحدا أتم ركعتين ويجمع بين هذا وبين ما تقدم من روايات الإتمام بأن أقلّ الواجب في الخوف مع السفر ركعة ويجوز جعلها ركعتين كسائر صلاة السفر، وجمع بعضهم بأن صلاة الركعة الواحدة إنما يكون عند شدة الخوف، ولا يتجه هذا إلا بنقل يعلم به ذلك ولو ببيان أن الخوف كان شديدا في الغزوات التي صلى فيها ركعة واحدة بكل طائفة ولم تقض واحدة منهما أي لم تتم، وإن كانت الأحوال التي تقع فيها الأعمال لا تعد شروطا لها إلا بدليل.
-روى أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: صليت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الخوف عام غزوة نجد فقام إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابل العدو، ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلي العدو، ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما هو، ثم قاموا فركع أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاعد ومن معه، ثم كان السلام فسلّم وسلّموا جميعا، فكان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ركعتان ولكل طائفة ركعتان.
هذه الكيفية تشارك ما قبلها بكونها من الكيفيات التي كان العدو فيها في غير جهة القبلة وكونها كانت في غزوة نجد وهي غزوة ذات الرقاع وكانت بأرض غطفان، وهناك مكان يسمى بطن نخل وهو الذي صلّى فيه بكل طائفة ركعتين كما تقدم. وتخالفها كلها كما تخالف ما أرشدت إليه الآية التي نزلت في تلك الغزوة فيما تدل عليه من ترك الطائفتين معا للقيام تجاه العدو في آخر الصلاة، وتخالف الأصل المجمع عليه في وجوب استقبال القبلة وقت تكبيرة الإحرام، وقد روى أبو داود عن عائشة كيفية هذه الصلاة في هذه الغزوة فصرحت بأنه كبر معه الذين صفوا معه قالت: كبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكبرت الطائفة الذين صفوا معه ثم ركع فركعوا ثم سجد فسجدوا ثم رفع فرفعوا، ثم مكث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم سجدوا هم لأنفسهم الثانية ثم قاموا فنكسوا على أعقابهم يمشون القهقرى حتى قاموا من ورائهم وجاءت الطائفة الأخرى فقاموا فكبروا ثم ركعوا لأنفسهم ثم سجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فسجدوا معه ثم قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسجدوا ونفسهم الثانية ثم قامت الطائفتان جميعا فصلّوا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فركع فركعوا ثم سجد فسجدوا جميعا ثم عاد فسجد الثانية وسجدوا معه سريعا كأسرع الإسراع ثم سلّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسلّموا. فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد شاركه الناس في الصلاة كلها. وفي إسناد هذا الحديث محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث وإنما وقع الخلاف في عنعنته لا في سماعه. وهذه كيفية أخرى أجدر من رواية أبي هريرة بأن يعتمد عليها لخلوّها من ذكر الإحرام مع عدم استقبال القبلة وكأن عائشة أجابت عن ترك الحراسة بالإسراع في السجود، وفي النفس منها شيء، وما أرى أن الشيخين تركا ذكر هذين الحديثين في صحيحهما لأجل أسانيدهما فقط.
- روى أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن جابر قال: شهدت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الخوف فصفنا خلفه والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي (صلى الله عليه وسلم) فكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف الآخر في نحر العدو، فلما قضى النبي (صلى الله عليه وسلم) السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا. ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي (صلى الله عليه وسلم) وركعنا جميعا ثم رفع رأسه ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو. فلما قضى النبي (صلى الله عليه وسلم) السجود بالصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلّم النبي (صلى الله عليه وسلم) وسلّمنا جميعا. (قال في المنتقى بعد إيراد هذا الحديث) وروى أحمد وأبو داود والنسائي هذه الصفة من حديث ابن عياش الزرقي وقال: فصلاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم. والبخاري لم يخرج هذا الحديث وقال أن جابرا صلّى مع النبي (صلى الله عليه وسلم) صلاة الخوف بذات الرقاع، وأجيب بتعدد الصلاة وحضور جابر في كل منها. وعسفان بضم أوله قرية بينها وبين مكة أربعة برد.
وهذه الكيفية لا تنطبق على نص الآية لأن الآية نزلت في واقعة كان فيها العدو في غير ناحية القبلة فاحتيج إلى وقوف طائفة تجاهه لحراسة المصلين ولهذا استنكرنا حديث أبي هريرة وعائشة في الكيفية الخامسة، وفي هذه الواقعة كان العدو في جهة القبلة فاكتفى فيها من العمل بهدي الآية أن لا يسجد الصفان معا بل على التعاقب لأن حال العدو لا تخفى عليهم إلا في وقت السجود.
-روى الشافعي في الأم والبخاري في تفسير قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} عن ابن عمر أنه ذكر صلاة الخوف وقال:"فإن كان خوف أشد من ذلك صلّوا رجالا (جمع راجل وهو ما يقابل الراكب) قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال مالك قال نافع لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اه وهو مسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك. ورواه ابن ماجة عنه مرفوعا قال: عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وصف صلاة الخوف وقال: (فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا وركبانا) أي يصلي كيفما كانت حاله ويومئ بالركوع والسجود إيماء، والظاهر أن هذه هي صلاة الناس فرادى عند التحام القتال أو الفرار من الخوف (لا من الزحف) أو خوف فوات العدو عند طلبه. وفرق بعضهم بين من يطلب العدو ومن يطلبه العدو. قال الحافظ ابن المنذر: كل من أحفظ عنه العلم يقول أن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماء وإن كان طالبا نزل فصلّى بالأرض، وفصل الشافعي فقال إلا أن يقطع عن أصحابه فيخاف عود المطلوب عليه فيجزئه ذلك. وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن ما قاله ابن المنذر متعقب بكلام الأوزاعي فإنه قيده بشدة الخوف ولم يستثن طالبا من مطلوب، وبه قال ابن حبيب من المالكية. أقول ويؤيده عمل عبد الله بن أنيس عندما أرسله النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله إذ كان يجمع الجموع لقتال المسلمين قال: "فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء" رواه أحمد وأبو داود وحسن إسناده الحافظ في الفتح. وأخذ الزمخشري هذه الكيفية من الآية التالية كما يأتي.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى. والثاني: أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة. وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة! ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني. إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة. بل أنها السلاح! فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح، بما يتناسب مع طبيعة المعركة، وجو المعركة!... والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو. وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم، ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف، التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوما كتب الله عليهم الهوان: (إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا).. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!...[...] (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، فيميلون عليكم ميلة واحدة).. وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة. والسنون تتوالى، والقرون تمر، فتؤكد هذه الحقيقة، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى... على أن هذا الحذر، وهذه التعبئة النفسية، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة. فهم يأخذون منه بقدر الطاقة: (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر، أو كنتم مرضى، أن تضعوا أسلحتكم)... ولعل هذا الاحتياط، وهذه اليقظة، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين. فيكون المؤمنون هم ستار قدرته؛ وأداة مشيئته.. وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذابا مهينا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {ود الذين كفروا} الخ، ودّهم هذا معروف إذ هو شأن كلّ محارب، فليس ذلك المعنى المعروف هو المقصود من الآية، إنّما المقصود أنّهم ودّوا ودّا مستقرباً عندهم، لظنّهم أنّ اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين مصالح دنياهم جهلاً من المشركين لحقيقة الدين، فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم، فنبه الله المؤمنين إلى ذلك كيلاً يكونوا عند ظنّ المشركين، وليعوّدهم بالأخذ بالحزم في كلّ الأمور، وليريهم أنّ صلاح الدين والدنيا صنوان...
وانتصب (مَيلةً) على المفعولية المطلقة لبيان العدد، أي شدّة مفردة. واستعملت صيغة المرّة هنا كناية عن القوّة والشدّة، وذلك أنّ الفعل الشديد القويّ يأتي بالغرض منه سريعاً دون معاودة علاج، فلا يتكرّر الفعل لتحصيل الغرض، وأكّد معنى المرّة المستفاد من صيغة فعلة بقوله: {واحدة} تنبيهاً على قصد معنى الكناية لئلاّ يتوهّم أنّ المصدر لمجرّد التأكيد لقوله: {فيميلون}...
وقوله: {إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً} تذييل لتشجيع المسلمين... فليس الأمر بأخذ الحذر والسلاح إلاّ لتحقيق أسباب ما أعدّ الله لهم، لأنّ الله إذا أراد أمراً هيَّأ أسبابه. وفيه تعليم المسلمين أن يطلبوا المسبّبات من أسبابها، أي إن أخذتم حِذركم أمِنتم من عدوّكم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى وجوب الهجرة على المؤمن للجهاد في سبيل الله تعالى، ولطلب الرزق، إن ضاقت أرضه التي نشأ فيها، ثم ذكر سبحانه وتعالى ما سهل به على المسافر من قصر الصلاة، وفي هذا النص الكريم بين سبحانه حال الصلاة إذا كان المسافر في حال جهاد، وهو ما يسمى في عرف الفقهاء بصلاة الخوف، أي الصلاة التي تكون في حال الخوف من العدو، بأن يكونوا في حال حرب معه. فالمراد بالخوف هو الحذر من مباغتة العدو. ولذا قال سبحانه: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم}
{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} هذا النص الكريم فيه بيان الصلاة حال القتال، بأن يجمع المؤمنون بين الصلاة التي بها تطهير القلوب من كل الأدناس والأرجاس وبين الاستعداد للقاء العدو، والحذر منه.
ومعنى النص السامي: إذا كنت أيها الرسول في المؤمنين فأردت إقامة الصلاة على وجهها في هذا المقام، فلتقم طائفة منهم معك، بأن تبتدئ بالصلاة معها، على أن يكون معها السلاح، وهي في حال الصلاة، حتى يكونوا على أهبة القتال دائما، وحمل السلاح في الصلاة لا يبطلها، ولا يؤثر في حال الخشوع، وخصوصا إذا كان حمل السلاح لإعلاء كلمة الله تعالى وخفض الباطل، فهو عبادة من أعظم العبادات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم المؤمنين المجاهدين صفين، صفا يبتدئ بالصلاة معه، فإذا سجدوا للصلاة وقد ألقوا وجوههم على الأرض، لا يرون شيئا ولا يستحضرون إلا عظمة الله تعالى، فإن الصف الثاني يكون من وراء هؤلاء، يدفع عنهم أذى الكفار، والاعتداء على أهل الحق والإيمان، وهذا معنى قوله تعالى: {إذا سجدوا فليكونوا من ورائكم}، أي فليكن الصف الآخر، أو الطائفة الأخرى من ورائكم، حامية لظهوركم، مانعة نزول الأذى بكم، ومن بعد ذلك تجيء الطائفة الحارسة، وتكون من بعد ذلك في محل المصلية، وتذهب الأخرى حارسة، وهذا قوله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم}.
أي إذا صلت الطائفة الأولى، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه صلاته، جاءت الأخرى فصلى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمر بأن تكون معها أسلحتها، وشدد في الأمر بأن أمرها مع ذلك بأخذ الحذر والاحتراس، وقدم الأمر بأخذ الحذر على أخذ الأسلحة، لأن أخذ الأسلحة من الحذر، ولأن الحذر عند انتقال الصفوف واجب، خشية أن يباغتهم العدو، وهو يغيرون صفوفهم، لأن هذا يشبه التغيير في الخطط وقت القتال، وهو لا يخلو من خطورة يجب معها الحذر، ولأن الطائفة الأولى عند سجودها، عسى أن ينتبه العدو لحالها فيطمع، وخصوصا إذا رأى الصفوف تتغير، وتتحرك في داخل الجيش نفسه.
اتفق الفقهاء على أن صلاة الخوف تقتضي أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم بطائفة، ثم يصلي بالأخرى التي تكون أمام العدو ابتداءً، وتحل الأولى محلها، ولكن اختلفوا بعد ذلك في كيفية صلاة الخوف تبعا لما فهموا من اختلاف الروايات في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم،
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 101]
وينتقل كتاب الله من الحث على الهجرة وتبيين فوائدها وفضائلها إلى تبيين الكيفية التي يؤدي بها المسلمون صلواتهم عندما يكونون مشتبكين في حالة حرب مع أعدائهم، حيث إن الإسلام لا يعفيهم من الصلاة ولو في هذه الحالة، نظرا إلى أن الصلاة عماد الدين وعموده الفقري، لا غنى عنها في حضر أو سفر، ولا في صحة أو مرض، ولا في حال أمن أو خوف، وأرشدهم الحق سبحانه وتعالى إلى نوع التخفيف الذي خففه عنهم بالنسبة للحالة التي يخشون فيها فتنة العدو وهم في مواجهته، وذلك بالإذن لهم في قصر الصلاة، والاقتصار فيها على ركعة واحدة أو ركعتين اثنتين، على أن يقسموا أنفسهم بالتناوب إلى طائفتين: طائفة تقوم بالصلاة، وأخرى بالحراسة، فتصطف الطائفة الأولى وراء الإمام وتصلي معه ركعة واحدة، ثم تتم ركعتها الثانية وحدها وتسلم، في الوقت الذي تكون فيه الطائفة الثانية قائمة بحراستها من مفاجآت العدو لها أثناء الصلاة. وعند انتهاء الطائفة الأولى من صلاتها تبادر فتأخذ مراكز الطائفة الأخرى التي حرستها من قبل وتحل محلها في الحراسة، وتأتي الطائفة الثانية لتلتحق بدورها في الصلاة وراء الإمام، الذي يثبت قائما في انتظارها بركعته الثانية، فتأتم به فيها، ثم تضيف إلى الركعة التي أدركتها معه ركعة أخرى وحدها تتم بها ركعتين وتسلم، وفي الحين تعود إلى مراكزها في صف القتال. وهكذا يحافظ المؤمنون على صلواتهم التي هي صلتهم بالله في كل الظروف، يستمدون عن طريقها المدد الإلهي والعون الروحي لمواجهة مسؤولياتهم بقلب ثابت، وعزم صادق، ويقين في الله لا يداخله أدنى شك أو وهن،... ومما تجدر ملاحظته في هذا الصدد ما قرره الشارع في كيفية هذه الصلاة من الجمع بين مقتضيات العبادة ومقتضيات الدفاع على أكمل وجه من التوفيق والتنسيق، فأعطى لواجب العبادة حقه من جهة، وأعطى لضرورة الدفاع حقها من جهة أخرى، وهكذا لم يكتف الإسلام من جنوده بالعبادة وحدها مع التفريط في مقتضيات الدفاع والتعرض للخطر، كما لم يكتف منهم بالواجب العسكري وحده والتحرز من العدو، مع نسيان الله وإهمال الصلاة. وتلك هي خطة الإسلام المرسومة دائما في مختلف مجالات الحياة، بالنسبة للجوانب الروحية والجوانب المادية، لا يضحي بجانب منها في سبيل الجانب الآخر، وإنما يعمل على إعطاء كل جانب من الجانبين حظه من العناية والاهتمام، ويسعى للتوفيق بينهما حفظا للتوازن وحرصا على الانسجام...
وطبقا لما هو متعارف في تشريع الكتاب والسنة من تنبيه الشارع إلى حكمة التشريع في عدة مناسبات جاء التعقيب على الكيفية التي شرعها الله لصلاة المسلمين وهم في مواجهة العدو، بما يبين السر فيها وفي تقسيمهم إلى طائفتين: طائفة تصلي وطائفة تحرس المصلين، ألا وهو اتخاذ الاحتياط والتزام الحذر، إزاء مباغتات العدو وهجومه المنتظر، وذلك قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً}...
ثم رخص الله سبحانه وتعالى لجنود الإسلام أن يضعوا أسلحتهم لعذر المرض والمطر، لكن مع ترك الاستسلام ووجوب الاحتياط وأخذ الحذر، وذلك قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102)}...
قد يقول قائل: صحيح إن الأسلحة تؤخذ، ولكن كيف يؤخذ الحذر وهو عملية معنوية؟ ونقول: إنه سبحانه يصور المعنويات ويجسمها تجسيم الماديات حتى لا يغفل الإنسان عنها، فكأن الحذر آلة من آلات القتال وإياك أيها المقاتل أن تغفل عنها...
قال الحق:"فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة". وهذا ما يوضح لنا لماذا أمر الله أن يأخذ المسلمون الحذر والأسلحة لأن المقاتل يجب أن يخاف على سلاحه ومتاعه فلو فقدها المقاتل لفقد أداة القتال ولصارت أدوات قتاله قوة لعدوه، فحين يأخذ المقاتل السلاح من عدوه يتحول السلاح إلى قوة ضد العدو. لذلك كان التحذير من فقد الأسلحة والأمتعة حتى لا تضاف قوة السلاح والمتاع إلى قوة العدو، لأن في ذلك إضعافا للمؤمن وقوة لخصمه، وعدو الإسلام يود أن يغفل المسلمون عن الأسلحة والمتاع، والمؤمن ساعة الصلاة يستغرق بيقظته مع الله، ولكن على الإنسان ألا يفقد يقظته إن كان يصلي أثناء الحرب، فلا يصح أن ينسى الإنسان سلاحه أثناء القتال حتى وهو يصلي، فالقتال موقف لله، فلا تفصل القتال في سبيل الله عن الصلاة لله...