هذا الجزء كله - ومنه هذه السورة - ذو طابع غالب . . سوره مكية فيما عدا سورتي " البينة " و " النصر " وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر . والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحدة - على وجه التقريب - في موضوعها واتجاهها ، وإيقاعها ، وصورها وظلالها ، وأسلوبها العام .
إنها طرقات متوالية على الحس . طرقات عنيفة قوية عالية . وصيحات . صيحات بنوم غارقين في النوم ! نومهم ثقيل ! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخمار ! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء ! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد : اصحوا . استيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . . إن هنالك إلها . وإن هنالك تدبيرا . وإن هنالك تقديرا . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حسابا . وإن هنالك جزاء . وإن هنالك عذابا شديدا . ونعيما كبيرا . . اصحوا . استيقظوا . انظروا تلفتوا تفكروا تدبروا وهكذا مرة أخرى وثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزا عنيفا . . وهم كأنما يفتحون أعينهم ينظرون في خمار مرة ، ثم يعودون لما كانوا فيه ! فتعود اليد القوية تهزهم هزا عنيفا ؛ ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد ؛ وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب . . وأحيانا يتيقظ النوام ليقولوا : في إصرار وعناد : لا . . ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء . . ثم يعودون لما كانوا فيه . فيعود إلى هزهم من جديد .
هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء . وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد ، عظيمة القدر ، ثقيلة الوزن . وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب . وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس . وعلى أحداث معينة في يوم الفصل . وأرى تكرارها مع تنوعها . هذا التكرار الموحي بأمر وقصد !
وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه . . . ) . . ( فلينظر الإنسان مم خلق ? . . . ) . . ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ? وإلى السماء كيف رفعت ? وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ? ) .
وهو يقرأ : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ? رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها . متاعا لكم ولأنعامكم ) . . ( ألم نجعل الأرض مهادا ? والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا ? وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ? ) . . . . ( فلينظر الإنسان الي طعامه . أنا صببنا الماء صبا . ثم شققنا الأرض شقا . فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا . متاعا لكم ولأنعامكم ) . .
وهو يقرأ( يا أيها الإنسان . ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ? ) . .
( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى ) . . ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون . فما يكذبك بعد بالدين ? أليس الله بأحكم الحاكمين ? ) . .
وهو يقرأ : إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا البحار سجرت ، وإذا النفوس زوجت ، وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت ? ( وإذا الصحف نشرت ، وإذا السماء كشطت ، وإذا الجحيم سعرت ، وإذا الجنة أزلفت . علمت نفس ما أحضرت ) . . ( إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت ) . . ( إذا السماء انشقت . وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت . . . ) ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وأخرجت الأرض أثقالها ، وقال الإنسان مالها . . يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ) . .
وهو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها : ( فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس ) . . ( فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق . والقمر إذا اتسق ) . . ( والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر ) . . ( والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها . والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها . والأرض وما طحاها . ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها ) . . ( والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . وما خلق الذكر والأنثى ) . . ( والضحى . والليل إذا سجى ) . .
وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان . وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح . وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية . ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها . . واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة . مع التقريع بها والتخويف والتحذير . . وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين . والأمثلة على هذا هي الجزء كله . ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم :
هذه السورة - سورة النبأ - كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد . ومثلها سورة " النازعات " وسورة " عبس " تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة . . وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة : ( يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه ، وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ) . وسورة " التكوير " وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم ، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول . وسورة " الانفطار " كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب ، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . . . )الخ " وسورة " الانشقاق " وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب . . وسورة " البروج " وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار . وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار . وهو أشد وأنكى . .
وسورة " الطارق " . . وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع : ( إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل ) . . وسورة " الأعلى " وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، وإخراج المرعى وأطواره تمهيدا للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء . . وسورة " الغاشية " . . وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب . ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال . . وهكذا . . وهكذا . . إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان . كسورة الإخلاص . وسورة الكافرون . وسورة الماعون . وسورة العصر . وسورة القدر . وسورة النصر . أو تسري عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتواسيه وتوجهه إلى الإستعاذه بربه من كل شر ، كسور الضحى . والانشراح . والكوثر . والفلق . والناس . . وهي سور قليلة على كل حال . .
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء . هناك أناقة واضحة في التعبير ، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس ، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل ، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين ، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات . . يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز ، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلام ، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور : ( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ؛ والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس )وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر : ( فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق ) . أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري : ( والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر ) . ( والضحى . والليل إذا سجى ) . وفي خطابه الموحي للقلب البشري : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ? الذي خلقك فسواك فعدلك . . )وفي وصف الجنة : ( وجوه يومئذ ناعمة ، لسعيها راضية ، في جنة عالية ، لا تسمع فيها لاغية . . . )ووصف النار : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وما أدراك ما هيه ? نار حامية ! . . والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس .
والعدول أحيانا عن اللفظ المباشر إلى الكناية ، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد ، لتحقيق التنغيم المقصود ، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب . .
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس ، والدنيا والآخرة ؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثرا في الحس والضمير .
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها ، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ، ولا شبهة ؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته : ( عم يتساءلون ? عن النبأ العظيم ، الذي هم فيه مختلفون . كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون ! ) . .
ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه ، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم ، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم ، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه : ( ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ? ) .
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، والذي هددهم به يوم يعلمون ! ليقول لهم ما هو ? وكيف يكون : ( إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا ) . .
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه : ( إن جهنم كانت مرصادا ، للطاغين مآبا ، لابثين فيها أحقابا ، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا . إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا ، وكذبوا بآياتنا كذابا ، وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) . .
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقا : ( إن للمتقين مفازا : حدائق وأعنابا ، وكواعب أترابا ، وكأسا دهاقا ، لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا . جزاء من ربك عطاء حسابا ) .
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه . وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل : ( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . ذلك اليوم الحق . فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا . إنا أنذرناكم عذابا قريبا . يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) . .
ذلك هو النبأ العظيم . الذي يتساءلون عنه . وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم !
( عم يتساءلون ? عن النبأ العظيم . الذي هم فيه مختلفون . كلا ! سيعلمون . ثم كلا ! سيعلمون ) . . مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين ، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل . وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة . وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل ، ولا يكادون يتصورون وقوعه ، وهو أولى شيء بأن يكون !
( عم يتساءلون ? ) . . وعن أي شيء يتحدثون ? ثم يجيب . فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم . إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم ، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته :
يقول تعالى منكرًا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارًا لوقوعها : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } أي : عن أي شيء يتساءلون ؟ من أمر القيامة ، وهو النبأ العظيم ، يعني : الخبر الهائل المفظع الباهر .
قال قتادة ، وابن زيد : النبأ العظيم : البعث بعد الموت . وقال مجاهد : هو القرآن .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة النبأ وهي مكية بإجماع وليس فيها نسخ ولا حكم إلا ما قاله بعض الناس في قوله تعالى ‘ لابثين فيها أحقابا ‘ النبأ 23 من أنه منسوخ وهو قول خلف لأن الأخبار لا تنسخ وإنما ذكرنا هذا القول تنبيها على فساده
أصل { عم } «عن ما » ، ثم أدغمت النون بعد قلبها فبقي «عما » في الخبر والاستفهام ، ثم حذفوا الألف في الاستفهام فرقاً بينه وبين الخبر ، ثم من العرب من يخفف الميم تخفيفاً فيقول : «عم » ، وهذا الاستفهام ب { عم } هو استفهام توقيف وتعجب منهم ، وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود وعكرمة وعيسى : «عما » بالألف ، وقرأ الضحاك : «عمه » بهاء ، وهذا إنما يكون عند الوقف .
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة { سورة النبإ } لوقوع كلمة { النبأ } في أولها .
وسميت في بعض المصاحف وفي صحيح البخاري وفي تفسير ابن عطية والكشاف { سورة عم يتساءلون } . وفي تفسير القرطبي سماها { سورة عم } ، أي بدون زيادة { يتساءلون } تسمية لها بأول جملة فيها .
وتسمى { سورة التساؤل } لوقوع { يتساءلون } في أولها . وتسمى { سورة المعصرات } لقوله تعالى فيها { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا } . فهذه خمسة أسماء . واقتصر الإتقان على أربعة أسماء : عم ، والنبأ ، والتساؤل ، والمعصرات .
وعدت السورة الثمانين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة المعارج وقبل سورة النازعات .
وفي ما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث ، روي عن ابن عباس كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت { عم يتساءلون } .
وعن الحسن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } يعني الخبر العظيم .
وعد آيها أصحاب العدد من أهل المدينة والشام والبصرة أربعين . وعدها أهل مكة وأهل الكوفة إحدى وأربعين آية .
اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم ، ومع ذلك إثبات البعث ، وسؤال بعضهم بعضا عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه .
وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي من أعظم من خلق الإنسان بعد موته وبالخلق الأول للإنسان وأحواله .
ووصف الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين .
وصفة يوم الحشر إنذارا للذين جحدوا به والإيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث .
وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس .
افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم ، افتتاح تشويققٍ ثم تهويل لما سيذكر بعده ، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ومن تشويق بطريقة الإِجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن .
وإذ كان هذا الافتتاح مؤذناً بعظيم أمر كان مؤذناً بالتصدي لقول فصللٍ فيه ، ولمّا كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضُهم يومئذ يُجعل افتتاحَ الكلام به من براعة الاستهلال .
ولفظ { عم } مركب من كلمتين هما حرف ( عن ) الجار و ( مَا ) التي هي اسم استفهام بمعنى : أيّ شيء ، ويتَعلق { عم } بفعل { يتساءلون } فهذا مركب . وأصل ترتيبه : يتسَآءلون عَنْ ما ، فقدم اسم الاستفهام لأنه لا يقع إلا في صدر الكلام المستفهم به ، وإذ قد كان اسم الاستفهام مقترناً بحرف الجر الذي تعدى به الفعل إلى اسم الاستفهام وكان الحرف لا ينفصل عن مجروره قُدِّما معاً فصار { عَمَّا يتساءلون } .
وقد جرى الاستعمال الفصيح على أن ( ما ) الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر يحذف الألف المختومة هي به تفرقةً بينها وبين ( مَا ) الموصولة .
وعلى ذلك جرى استعمال نُطقهم ، فلما كتبوا المصاحف جروا على تلك التفرقة في النطق فكتبوا ( ما ) الاستفهامية بدون ألف حيثما وقعت مثل قوله تعالى : { فيم أنت من ذكراها } [ النازعات : 43 ] { فبم تبشرون } [ الحجر : 54 ] { لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] { عم يتساءلون } { مم خلق } [ الطارق : 5 ] فلذلك لم يقرأها أحد بإثبات الألف إلا في الشاذّ .
ولما بقيت كلمة ( ما ) بعد حذف ألفها على حرف واحد جَرَوْا في رسم المصحف على أن ميمها الباقية تكتب متصلة بحرف ( عن ) لأن ( مَا ) لما حذف ألفها بقيت على حرف واحد فأشبه حروف التهجّي ، فلما كان حرف الجر الذي قبل ( ما ) مختوماً بنون والتقتِ النون مع ميم ( مَا ) ، والعرب ينطقون بالنون الساكنة التي بعدها ميم ميماً ويدغمونها فيها ، فلما حذفت النون في النطق جرى رسمهم على كتابة الكلمة محذوفة النون تبعاً للنطق ، ونظيره قوله تعالى : { مِمَّ خلق } وهو اصطلاح حسن .
والتساؤل : تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل ، وتَرد كثيراً لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم : سَاءَلَ ، بمعنى : سأل ، قال النابغة :
أُسائل عن سُعدَى وقد مرَّ بعدنا *** على عَرصات الدار سبع كوامل
يَا أيُّها الراكب المزجي مطيته *** سَائِلْ بني أسد ما هذه الصوت
وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم : عافاك الله ، وذلك إما كناية أو مجاز ومَحملهُ في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح ، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه .
فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضاً سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ثم استقر أمرهم على الإِنكار .
ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه على طريقة استعمال فعل ( يحذر ) في قوله تعالى : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة } [ التوبة : 64 ] فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء .
وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين يُرجَّحُ كلُّ فريق ما ذهب إليه . والوجه حمل الآية على كلتيهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب ، فعن ابن عباس : « لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم فمنهم مصدق ومنهم مكذب » .
وعن الحسن وقتادة مثل قول ابن عباس ، وقيل : هو سؤال استهزاء أو تعجب وإنما هم موقنون بالتكذيب .
فأما التساؤل الحقيقي فأنْ يَسْأَل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ فيسأل المسؤولُ سائله سؤالاً عن حال آخرَ من أحوال النبأ ، إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غيرُ الذي خطر للآخر فيسأل سؤال مستثبت ، أو سؤال كشف عن معتقَده ، أو ما يُوصَف به المخبر بهذا النبأ كما قال بعضهم لبعض : { أفْتَرى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 8 ] وقال بعض آخر : { أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمُخرَجون } إلى قوله : { إنْ هذا إلا أساطير الأولين } [ النمل : 67 ، 68 ] .
وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضاً عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء فيقول أحدهم : هل بلغك خبر البعث ؟ ويقول له الآخر : هل سمعتَ ما قال ؟ فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة وقصدُهم منه غير حقيقي بل تهكمي .
والاستفهام بما في قوله : { عم يتساءلون } ليس استفهاماً حقيقياً بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى : { هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين } [ الشعراء : 221 ] .
والموجَّه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين .
وضمير { يتساءلون } يجوز أن يكون ضميرَ جماعة الغائبين مراداً به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره ، وإشاراته المبهمة ، كالضمير في قوله تعالى : { حتى توارتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] ( يعني الشمس ) { كلا إذا بلغتْ التراقيَ } [ القيامة : 26 ] ( يعني الروح ) ، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات فالضمير ضميرُ جماعة المخاطبين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الدلالة على أن يوم القيامة-الذي كانوا مجمعين على نفيه، وصاروا بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في خلاف فيه مع المؤمنين- ثابت ثباتا لا يحتمل شكا ولا خلافا بوجه، لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير، بنى لهم مسكنا وأتقنه، و جعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه، فكان ذلك أشد لألفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم، والحكيم لا يترك عبيده -وهو تام القدرة كامل السلطان- يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب، فكيف إذا كان حاكما فكيف إذا كان أحكم الحاكمين...
افتتح هذه بأن ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي لا يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان، فقال معجبا منهم غاية العجب زاجرا لهم ومنكرا عليهم ومتوعدا لهم ومفخما للأمر بصيغة الاستفهام منبها على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم، ولا يعرف محل نزاعهم، فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتى العالم به إعلاما بأن ما يختلفون فيه لوضوحه لا يصدق أن عاقلا يخالف أمره فيه وأنه لا ينبغي التساؤل إلا عما هو خفي...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الجزء كله -ومنه هذه السورة- ذو طابع غالب.. سوره مكية فيما عدا سورتي " البينة " و " النصر " وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر. والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحدة -على وجه التقريب- في موضوعها واتجاهها، وإيقاعها، وصورها وظلالها، وأسلوبها العام.
إنها طرقات متوالية على الحس. طرقات عنيفة قوية عالية. وصيحات. صيحات بنوم غارقين في النوم! نومهم ثقيل! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخمار! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد: اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا.. إن هنالك إلها. وإن هنالك تدبيرا. وإن هنالك تقديرا. وإن هنالك ابتلاء. وإن هنالك تبعة. وإن هنالك حسابا. وإن هنالك جزاء. وإن هنالك عذابا شديدا. ونعيما كبيرا.. اصحوا. استيقظوا. انظروا تلفتوا تفكروا تدبروا وهكذا مرة أخرى وثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزا عنيفا.. وهم كأنما يفتحون أعينهم ينظرون في خمار مرة، ثم يعودون لما كانوا فيه! فتعود اليد القوية تهزهم هزا عنيفا؛ ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد؛ وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب.. وأحيانا يتيقظ النوام ليقولوا: في إصرار وعناد: لا.. ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء.. ثم يعودون لما كانوا فيه. فيعود إلى هزهم من جديد.
هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء. وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد، عظيمة القدر، ثقيلة الوزن. وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب. وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس. وعلى أحداث معينة في يوم الفصل. وأرى تكرارها مع تنوعها. هذا التكرار الموحي بأمر وقصد!
وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ: (فلينظر الإنسان إلى طعامه...).. (فلينظر الإنسان مم خلق؟...).. (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السماء كيف رفعت؟ وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت؟).
وهو يقرأ: (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها؟ رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها. متاعا لكم ولأنعامكم).. (ألم نجعل الأرض مهادا؟ والجبال أوتادا؟ وخلقناكم أزواجا؟ وجعلنا نومكم سباتا؟ وجعلنا الليل لباسا؟ وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعا شدادا؟ وجعلنا سراجا وهاجا؟ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا؟ لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا؟)... (فلينظر الإنسان الي طعامه. أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا. متاعا لكم ولأنعامكم)..
وهو يقرأ (يا أيها الإنسان. ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك؟)..
(سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى. والذي أخرج المرعى. فجعله غثاء أحوى).. (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون. فما يكذبك بعد بالدين؟ أليس الله بأحكم الحاكمين؟)..
وهو يقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت؟ (وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت. علمت نفس ما أحضرت).. (إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت. علمت نفس ما قدمت وأخرت).. (إذا السماء انشقت. وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت...) (إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها.. يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها)..
وهو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها: (فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس).. (فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق).. (والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر).. (والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار إذا جلاها. والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها. والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها).. (والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. وما خلق الذكر والأنثى).. (والضحى. والليل إذا سجى)..
وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان. وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح. وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية. ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها.. واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة. مع التقريع بها والتخويف والتحذير.. وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين. والأمثلة على هذا هي الجزء كله. ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم:
هذه السورة -سورة النبأ- كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد. ومثلها سورة " النازعات " وسورة " عبس " تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة.. وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة: (يوم يفر المرء من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وجوه يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة). وسورة " التكوير " وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول. وسورة " الانفطار " كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم...) الخ " وسورة " الانشقاق " وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب.. وسورة " البروج " وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار. وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار. وهو أشد وأنكى..
وسورة " الطارق".. وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع: (إنه لقول فصل، وما هو بالهزل).. وسورة " الأعلى " وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية، وإخراج المرعى وأطواره تمهيدا للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء.. وسورة " الغاشية".. وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب. ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال.. وهكذا.. وهكذا.. إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان. كسورة الإخلاص. وسورة الكافرون. وسورة الماعون. وسورة العصر. وسورة القدر. وسورة النصر. أو تسري عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتواسيه وتوجهه إلى الاستعاذة بربه من كل شر، كسور الضحى. والانشراح. والكوثر. والفلق. والناس.. وهي سور قليلة على كل حال..
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء. هناك أناقة واضحة في التعبير، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات.. يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلام، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور: (فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس؛ والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس) وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر: (فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق). أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري: (والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر). (والضحى. والليل إذا سجى). وفي خطابه الموحي للقلب البشري: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ الذي خلقك فسواك فعدلك..) وفي وصف الجنة: (وجوه يومئذ ناعمة، لسعيها راضية، في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية...) ووصف النار: وأما من خفت موازينه فأمه هاوية. وما أدراك ما هيه؟ نار حامية!.. والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس.
والعدول أحيانا عن اللفظ المباشر إلى الكناية، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد، لتحقيق التنغيم المقصود، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب..
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس، والدنيا والآخرة؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثرا في الحس والضمير.
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه، ولا شبهة؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته: (عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون. كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون!)..
ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه: (ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا؟ وخلقناكم أزواجا؟ وجعلنا نومكم سباتا؟ وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعا شدادا؟ وجعلنا سراجا وهاجا؟ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا؟ لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا؟).
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، والذي هددهم به يوم يعلمون! ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون: (إن يوم الفصل كان ميقاتا. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا. وفتحت السماء فكانت أبوابا. وسيرت الجبال فكانت سرابا)..
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه: (إن جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا، لابثين فيها أحقابا، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. إلا حميما وغساقا. جزاء وفاقا. إنهم كانوا لا يرجون حسابا، وكذبوا بآياتنا كذابا، وكل شيء أحصيناه كتابا. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا)..
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقا: (إن للمتقين مفازا: حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، وكأسا دهاقا، لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا. جزاء من ربك عطاء حسابا).
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه. وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل: (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا. يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا. ذلك اليوم الحق. فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا. إنا أنذرناكم عذابا قريبا. يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا)..
ذلك هو النبأ العظيم. الذي يتساءلون عنه. وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة {سورة النبإ} لوقوع كلمة {النبأ} في أولها.
وسميت في بعض المصاحف وفي صحيح البخاري وفي تفسير ابن عطية والكشاف {سورة عم يتساءلون}. وفي تفسير القرطبي سماها {سورة عم}، أي بدون زيادة {يتساءلون} تسمية لها بأول جملة فيها.
وتسمى {سورة التساؤل} لوقوع {يتساءلون} في أولها. وتسمى {سورة المعصرات} لقوله تعالى فيها {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا}. فهذه خمسة أسماء. واقتصر الإتقان على أربعة أسماء: عم، والنبأ، والتساؤل، والمعصرات...
وفي ما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث، روي عن ابن عباس كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت {عم يتساءلون}.
وعن الحسن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله {عم يتساءلون عن النبأ العظيم} يعني الخبر العظيم...
اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم، ومع ذلك إثبات البعث، وسؤال بعضهم بعضا عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه.
وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي من أعظم من خلق الإنسان بعد موته وبالخلق الأول للإنسان وأحواله.
ووصف الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين.
وصفة يوم الحشر إنذارا للذين جحدوا به والإيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث.
وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تمتاز أغلب السور القرآنية في الجزء الأخير من القرآن بأنّها نزلت في مكّة، وتؤكّد في مواضيعها على مسألة:
المبدأ، المعاد، البشارة والإنذار، وتتّبع أُسلوب الإثارة في الحديث، وتتعامل مع الأوتار الموقظة للضمير الإنساني، وتمتاز معظم آياتها بقصر العبارة المتضمنة لإشارات جمة، حيث تبث الحياة في الأجساد الخالية من الروح، وتنقلها من عالم الغفلة واللامبالاة إلى عالم الشعور بعظم المسؤولية الملقاة على العواتق، وإلى البناء الجاد الملتزم للشخصية الإنسانية الحقة.
ومع كل ذلك.. فلآياتها عالماً خاصّاً مليء بالتفاعلات والحركية.
وسورة النبأ لا تشذُّ عن الإطار العام لطبيعة السور المكيّة، حيث تستهل السورة بسؤال يستوقف الإنسان، وتختتم بجملة زاخرة بالعبرة...
ويمكننا تلخيص محتوى السورة بما يلي:
السؤال عن «النبأ العظيم» وهو يوم القيامة كحدث بالغ الخطورة.
الاستدلال على أمكانية المعاد والقيامة، من خلال الاستدلال بمظاهر القدرة الإلهية في: السماء، الأرض، الحياة الإِنسانية والنعم الرّبانية.
تصوير جوانب من عذاب الطغاة الأليم.
التشويق للجنّة، بوصف أجوائها الفياضة بالنعم.
وتختم السورة بالإنذار الشديد من عذاب قريب، بالإضافة لتصوير حال الذين كفروا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء المشركون بالله ورسوله من قريش يا محمد؟
وقيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشا جعلت فيما ذُكر عنها تختصم وتتجادل، في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوّته، والتصديق بما جاء به من عند الله، والإيمان بالبعث، فقال الله لنبيه: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟ و «في» و «عن» في هذا الموضع بمعنى واحد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف في التساؤل: فمنهم من ذكر أن التساؤل كان عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سألوا عن حاله: أهو نبي أم ليس بنبي؟ ومنهم من ذكر أن التساؤل كان عن القرآن أنه من الله تعالى؟ ويتساءلون في ما بينهم: هل تقدرون على إتيان مثله أم لا؟ وجائز أن يكون التساؤل عن أمر البعث وعن التوحيد كما قال الله تعالى خبرا عنهم: {أجعل الآلهة إلها واحدا}؟ [ص: 5]. ثم جائز أن يكون هذا السؤال من أهل الكفر؛ سأل بعضهم بعضا، واختلفوا فيه، ولم يحصلوا من اختلافهم على إصابة الحق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{عَمَّ} أصله عما، على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية...
والاستعمال الكثير على الحذف، والأصل: قليل ومعنى هذا الاستفهام: تفخيم الشأن، كأنه قال عن أي شأن يتساءلون... {يَتَسَآءَلُونَ} يسأل بعضهم بعضاً. أو يتساءلون غيرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نحو: يتداعونهم ويتراءونهم. والضمير لأهل مكة: كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث، ويتساءلون غيرهم عنه على طريق الاستهزاء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{عمَّ} أي عن أي شيء -خفف لفظاً وكناية بالإدغام، وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أن يحذف، فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف {يتساءلون} أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم، ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم وعنادهم- إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته -مطلق سؤال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون. كلا! سيعلمون. ثم كلا! سيعلمون).. مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل. وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة. وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل، ولا يكادون يتصورون وقوعه، وهو أولى شيء بأن يكون!
(عم يتساءلون؟).. وعن أي شيء يتحدثون؟ ثم يجيب. فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم. إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم، افتتاح تشويق ثم تهويل لما سيذكر بعده، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ومن تشويق بطريقة الإِجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن.
وإذ كان هذا الافتتاح مؤذناً بعظيم أمر كان مؤذناً بالتصدي لقول فصلٍ فيه، ولمّا كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضُهم يومئذ يُجعل افتتاحَ الكلام به من براعة الاستهلال...
والتساؤل: تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل، وتَرد كثيراً لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم: سَاءَلَ، بمعنى: سأل...
وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم: عافاك الله، وذلك إما كناية أو مجاز، ومَحملهُ في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه.
فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضاً سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ثم استقر أمرهم على الإِنكار.
ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه على طريقة استعمال فعل (يحذر) في قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة} [التوبة: 64] فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء.
وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين يُرجَّحُ كلُّ فريق ما ذهب إليه. والوجه حمل الآية على كلتيهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب، فعن ابن عباس: « لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم فمنهم مصدق ومنهم مكذب».
وعن الحسن وقتادة مثل قول ابن عباس، وقيل: هو سؤال استهزاء أو تعجب وإنما هم موقنون بالتكذيب.
فأما التساؤل الحقيقي فأنْ يَسْأَل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ فيسأل المسؤولُ سائله سؤالاً عن حال آخرَ من أحوال النبأ، إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غيرُ الذي خطر للآخر فيسأل سؤال مستثبت، أو سؤال كشف عن معتقَده، أو ما يُوصَف به المخبر بهذا النبأ كما قال بعضهم لبعض: {أفْتَرى على الله كذباً أم به جنة} [سبأ: 8] وقال بعض آخر: {أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمُخرَجون} إلى قوله: {إنْ هذا إلا أساطير الأولين} [النمل: 67، 68].
وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضاً عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء فيقول أحدهم: هل بلغك خبر البعث؟ ويقول له الآخر: هل سمعتَ ما قال؟ فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة وقصدُهم منه غير حقيقي بل تهكمي.
والاستفهام بما في قوله: {عم يتساءلون} ليس استفهاماً حقيقياً بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين} [الشعراء: 221].
والموجَّه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين.
وضمير {يتساءلون} يجوز أن يكون ضميرَ جماعة الغائبين مراداً به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره، وإشاراته المبهمة، كالضمير في قوله تعالى: {حتى توارتْ بالحجاب} [ص: 32] (يعني الشمس) {كلا إذا بلغتْ التراقيَ} [القيامة: 26] (يعني الروح)، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات فالضمير ضميرُ جماعة المخاطبين.