ويختم السورة بصورة الفريق الآخر . الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه ؛ ويتصلوا به . الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا . الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس . الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب . . أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم ، ولن ينسى جهادهم . إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم . وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم . وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم . وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء :
( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا . وإن الله لمع المحسنين ) . .
ثم قال { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } يعني : الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ، أي : لنُبَصرنهم سبلنا ، أي : طرقنا في الدنيا والآخرة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحَواري ، حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد - من أهل عكا - في قول الله{[22695]} : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } قال : الذين يعملون بما يعلمون ، يهديهم لما لا يعلمون . قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه ، وقال : ليس ينبغي لِمَنْ ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر ، فإذا سمعه في الأثر عمل به ، وحمد الله حين وافق ما في نفسه{[22696]} .
وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا عيسى بن جعفر - قاضي الري - حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن المغيرة ، عن{[22697]} الشعبي قال : قال عيسى بن مريم ، عليه السلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى مَنْ أساء إليك ، ليس{[22698]} الإحسان أن تحسن إلى مَنْ أحسن إليك . [ وفي حديث جبريل لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال : " أخبرني عن الإحسان " . قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
[ انتهى تفسير سورة العنكبوت ، ولله الحمد والمنة{[22699]}-{[22700]} ]
ثم ذكر تعالى حال أوليائه والمجاهدين فيه ، وقرر ذلك بذكر الكفرة والظلمة ليبين تباين الحالتين ، وقوله { فينا } ، معناه في مرضاتنا وبغية ثوابنا . قال السدي وغيره : نزلت هذه الآية قبل فرض القتال .
قال الفقيه الإمام القاضي : فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته ، قال الحسن بن أبي الحسن : الآية في العباد ، وقال عياش وإبراهيم بن أدهم : هي في الذين يعلمون ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم » ، ونزع بعض العلماء بقوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله }{[9276]} [ البقرة : 282 ] .
وقال عمر بن عبد العزيز : إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا ، وقال أبو سليمان الداراني : ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين ، وعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله عز وجل وهو الجهاد الأكبر ، قاله الحسن وغيره وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر » ، وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك : إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله يقول { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وقال الضحاك : معنى الآية { والذين جاهدوا } في الهجرة { لنهدينهم } سبل الثبوت على الإيمان{[9276]} ، و «السبل » ها هنا يحتمل أن تكون طرق الجنة ومسالكها ، ويحتمل أن تكون سبل الأعمال المؤدية إلى الجنة والعقائد النيرة ، قال يوسف بن أسباط : هي إصلاح النية في الأعمال وحب التزيد والتفهيم ، وهذا هو أن يجازى العبد على حسنة بازدياد حسنة وبعلم يقتدح من علم متقدم وهي حال من رضي الله عنه ، وباقي الآية وعد ، و «مع » تحتمل أن تكون هنا اسماً ولذلك دخلت عليها لام التأكيد ، ويحتمل أن تكون حرفاً ودخلت اللام لما فيها من معنى الاستقرار كما دخلت في «إن زيداً لفي الدار »{[9278]} .
كمل تفسير سورة العنكبوت والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
خُتم توبيخ المشركين وذمُّهم بالتنويه بالمؤمنين إظهاراً لمزيد العناية بهم فلا يخلو مقام ذم أعدائهم عن الثناء عليهم ، لأن ذلك يزيد الأعداء غيظاً وتحقيراً . و { الذين جاهدوا } في الله هم المؤمنون الأولون فالموصول بمنزلة المعرّف بلام العهد . وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة [ العنكبوت : 6 ] { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال كما علمت من قبل . وجيء بالموصول للإِيماء إلى أن الصلة سبب الخبر . ومعنى { جاهدوا فينا } جاهدوا في مرضاتنا ، والدِّين الذي اخترناه لهم . والظرفية مجازية ، يقال : هي ظرفية تعليل تفيد مبالغة في التعليل .
والهداية : الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي ، أي لنزيدنهم هُدى . وسُبُل الله : الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه ، شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف .
والمراد ب { المحسنين } جميع الذين كانوا محسنين ، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عامّ . وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين . وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل : فأولئك المحسنون لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريراً للمعاني ولذلك جاء في تعليم الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم قوله : « كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم » . والمعية : هنا مجاز في العناية والاهتمام بهم . والجملة في معنى التذييل بما فيها من معنى العموم . وإنما جيء بها معطوفة للدلالة على أن المهم من سَوقها هو ما تضمنته من أحوال المؤمنين ، فعطفت على حالتهم الأخرى وأفادت التذييل بعموم حكمها .
وفي قوله { لنهدينهم سبلنا } إيماء إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.