والاستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه ، وشعوره بالإثم ورغبته في التوبة . والتوبة بعد ذلك هي الإقلاع الفعلي عن الذنب ، والأخذ في مقابله في أعمال الطاعة . ولا توبة بغير هذين الدليلين ، فهما الترجمة العملية للتوبة ، وبهما يتحقق وجودها الفعلي ، الذي ترجى معه المغفرة والقبول . . فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في الإسلام ، بينما هو لا يدين لله وحده ، ولا يتلقى منه وحده عن طريق نبيه ؛ فلا قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير الله . .
والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة ، وقوام التبليغ . وهما عنصرا الترغيب والترهيب ، اللذان علم الله من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق !
والاعتقاد باليوم الآخر ضروري لاكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة ، وأن الخير الذي تدعو إليه الرسالات هو غاية الحياة ؛ ومن ثم لا بد أن يلقى جزاءه ؛ فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون في العالم الآخر ، الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها . أما الذين يزيغون عن نهج الله وحكمته في الحياة فهؤلاء يرتكسون وينتكسون إلى درك العذاب . . وفي هذا ضمان للفطرة السليمة ألا تنحرف . فإن غلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة ، ولم تلج في العصيان . ومن ثم تصلح هذه الأرض لحياة البشر . وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير . فالاعتقاد باليوم الآخر ليس طريقا للثواب في الآخرة فحسب - كما يعتقد بعض الناس - إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا . والحافز على إصلاحها وإنمائها . على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفا في ذاته ، إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه ، وكرمه على كثير من خلقه ، ورفعه عن درك الحيوان ؛ لتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان ؛ ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته .
ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة ، بعد توحيد الدينونة لله ، وإثبات الرسالة من عنده . . الدعوة إلى الاستغفار من الشرك والتوبة . . وهما بدء الطريق للعمل الصالح . والعمل الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام . إنما هو الإصلاح في الأرض بكل معاني الإصلاح ، من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج . والجزاء المشروط :
( يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ) . .
والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا . أما في الآخرة فهو بالنوع والكم وبما لم يخطر على قلب بشر . فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة .
إننا نشاهد كثيرا من الطيبين الصالحين ، المستغفرين التائبين ، العاملين في الحياة . . وضيقا عليهم في الرزق . فأين إذن هو المتاع الحسن ؟
وهو سؤال نعتقد أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين !
ولا بد لإدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع ، وننظر إليها في محيطها الشامل العام ، ولا نقتصر منها على مظهر عابر .
إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح ، قائم على الإيمان بالله ، والدينونة له وحده ، وإفراده بالربوبية والقوامة ، وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة . . إلا كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة كجماعة ؛ وإلا ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الأفراد بصفة خاصة . فإذا شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب ، فذلك شاهد على أن هذه الجماعة لا يسودها النظام المستمد من الإيمان بالله ، القائم على العدل بين الجهد والجزاء .
على أن الأفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعا حسنا ، حتى لو ضيق عليهم في الرزق ، وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم ، كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة ، وكما تؤذي الجاهليات القلة الداعية إلى الله . وليس هذا خيالا وليس ادعاء . فطمأنينة القلب إلى العاقبة ، والاتصال بالله ، والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله . . عوض عن كثير ؛ ومتاع حسن للإنسان الذي يرتفع درجة عن الحس المادي الغليظ .
ولا نقول هذا لندعو المظلومين الذين لا يجدون جزاء عادلا على جهدهم إلى الرضى بالأوضاع المنافية للعدالة . فالإسلام لا يرضى بهذا ، والإيمان لا يسكت على مثل تلك الأوضاع . والجماعة المؤمنة مطالبة بإزالتها وكذلك الأفراد ، ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين . إنما نقوله لأنه حق يحس به المؤمنون المتصلون بالله ، المضيق عليهم في الرزق ، وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الأوضاع التي تكفل المتاع الحسن لعباد الله المستغفرين التائبين العاملين بهدى الله .
خصصها بعض المفسرين بجزاء الآخرة . وأرى أنها عامة في الدنيا والآخرة ، على النحو الذي فسرنا به المتاع الحسن في الدنيا ؛ وهو متحقق في جميع الأحوال . وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها الفضل . يجده رضى نفسيا وارتياحا شعوريا ، واتصالا بالله وهو يبذل الفضل عملا أو مالا متجها به إلى الله . أما جزاء الله له بعد ذلك فهو فضل من الله وسماحة فوق الجزاء .
( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) . .
هو عذاب يوم القيامة . لا عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين . فاليوم الكبير حين يطلق هكذا ينصرف إلى اليوم الموعود . ويقوي هذا ما بعده :
وقوله : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : وآمركم{[14469]} بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه ، وأن تستمروا{[14470]} على ذلك ، { يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } أي : في الدنيا { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : في الدار الآخرة ، قاله قتادة ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، {[14471]}-{[14472]}
وقد جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد : " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله ، إلا أجِرْت بها ، حتى ما تجعل في فِي{[14473]} امرأتك " {[14474]} .
وقال ابن جرير : حدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن مسعود في قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات . فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات . ثم يقول : هلك من غلب آحاده أعشاره{[14475]} .
وقوله : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى ، وكذب رسله ، فإن العذاب يناله يوم معاده{[14476]} لا محالة ،
ومعنى الآية : استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه . و { ثم } مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه .
وقرأ الجمهور «يمتّعكم » بشد التاء ، وقرأ ابن محيصن «يمْتعكم » بسكون الميم وتخفيف التاء ، وفي كتاب أبي حاتم : «إن هذه القراءات بالنون » ، وفي هذا نظر . ، و { متاعاً } مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله { والله أنبتكم من الأرض نباتاً }{[6247]} وقيل نصب بتعدي { يمتعكم } لأنك تقول : متعت زيداً ثوباً . ووصف المتاع «بالحسن » إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا ، وأما من قال بأن «المتاع الحسن » هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة و «الأجل المسمى » : هو أجل الموت معناه { إلى أجل مسمى } لكل واحد منكم ، وهذا ظاهر الآية : و «اليوم الكبير » - على هذا - هو يوم القيامة .
وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا ، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا ، فتشبه ما قاله نوح عليه السلام ، و «اليوم الكبير » - على هذا -كيوم بدر ونحوه ، والمجهلة _ في أي الأمرين يكون_ إنما هي بحسب البشر ، والأمر عند الله تعالى معلوم محصل ، والأجل واحد .
وقوله تعالى : { ويؤت كل ذي فضل فضله } أي كل ذي إحسان بقوله ، أو بفعله ، أو قوته ، أو بماله ، أو غير ذلك ، مما يمكن أن يتقرب به و { فضله } يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عز وجل أي يؤتي الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين وهذا المعنى ما وعد به تعالى وتضعيف الحسنة بعشر أمثالها ومن التضعيف غير المحصور{[6248]} لمن شاء ، وهذا التأويل تأوله ابن مسعود وقال : ويل لمن غلبت آحاده عشراته . ويحتمل أن يكون قول ابن مسعود موافقاً للمعنى الأول{[6249]} .
وقرأ جمهور «وإن تَولّوا » بفتح التاء واللام ، فبعضهم قال الغيبة ، أي فقل لهم : إني أخاف عليكم ، وقال بعضهم معناه فإن تتولوا فحذفت التاء والآية كلها على مخاطبة الحاضر ، وقرأ اليماني وعيسى بن عمر : «وإن تُولُوا » ، بضم التاء واللام وإسكان الواو{[6250]} .
وقوله تعالى : { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } . توعد بيوم القيامة : ويحتمل أن يريد به يوماً من الدنيا كبدر وغيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} من الشِّرك، {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} منه، {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً}، يعني يُعَيِّشْكم عَيْشاً حَسَناً في الدنيا في عافيةٍ ولا يُعاقبْكم بالسِّنينَ ولا بغيرها، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}، يعني إلى منتهى آجالِكم، {ويُؤْتِ} في الآخِرة، {كُلَّ ذِي فَضْلٍ} في العمل في الدنيا، {فَضْلَهُ} في الدَّرَجات، {وَإِنْ تَوَلَّوْا} يعني تُعْرِضُوا عن الإيمان، {فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} يعني عظيمٍ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم فصلت آياته بأن لا تعبدوا إلا الله وبأن استغفروا ربكم. ويعني بقوله:"وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ": وأن اعملوا أيها الناس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم، فيستر عليكم عظيم ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الأوثان والأصنام وإشراككم الآلهة والأنداد في عبادته.
وقوله: "ثُمّ تُوبُوا إلَيْهِ "يقول: ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد وبراءتكم من عبادتها. ولذلك قيل: "وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوا إلَيْهِ "ولم يقل: وتوبوا إليه لأن التوبة معناها الرجوع إلى العمل بطاعة الله، والاستغفار: استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين، والعمل لله لا يكون عملاً له إلا بعد ترك الشرك به، فأما الشرك فإن عمله لا يكون إلا للشيطان، فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتوبة إليه بعد الاستغفار من الشرك، لأن أهل الشرك كانوا يرون أنهم يطيعون الله بكثير من أفعالهم وهم على شركهم مقيمون.
وقوله: "يُمَتّعْكُمْ مَتاعا حَسَنا إلى أجَلٍ مُسَمّى" يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت...
عن قتادة، قوله: "يُمَتّعْكُمْ مَتاعا حَسَنا إلى أجَلٍ مُسَمّى"؛ فأنتم في ذلك المتاع فخذوه بطاعة الله ومعرفة حقه، فإن الله منعم يحبّ الشاكرين، وأهل الشكر في مزيد من الله، وذلك قضاؤه الذي قضى...
وأما قوله: "وَيُؤْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ" فإنه يعني: يثيب كلّ من تفضل بفضل ماله أو قوّته أو معروفه على غيره محتسبا مريدا به وجه الله، أجْزَلَ ثوابه وفضله في الآخرة...
وقوله: "وإنْ تَوَلّوْا فإني أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ" يقول تعالى ذكره: وإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من إخلاص العبادة لله وترك عبادة الآلهة وامتنعوا من الاستغفار لله والتوبة إليه فأدبروا مولين عن ذلك، فإني أيها القوم أخاف عليكم عذاب يوم كبير شأنه عظيم هوله، وذلك يَوْمَ تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) إن كانت الآية في الكفار فيكون قولُه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي أسلِموا (ثم تُوبُوا إِلَيْهِ) أي ارجِعوا إليه عن كل معصيةٍ وكلِّ مَأْثَمٍ تأثَمونه. وإن كان في المسلمين فهو ظاهرٌ ويكون قولُه: (اسْتَغْفِرُوا) وقولُه (تُوبُوا) واحداً...
(يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً) أي يُمَتِّعْكُمْ في الدنيا متاعاً تستحسِنون في الآخِرة ذلك التَّمَتُّع. وأما الكفار فإنهم لا يستحسِنون في الآخِرة ما مُتِّعوا في الدنيا لأن تمتُّعهم في الدنيا للدنيا، والمؤمنُ ما يَتمتَّع به في الدنيا إنما يَتمتَّع به لأمرِ الآخِرة والتَّزَوُّدِ لها، والله أعلم...
(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)... في دينه في الدنيا (فَضْلَهُ) في الآخرة، أو يقول: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) في الدنيا والآخِرة (فَضْلَهُ) لأن أهل الفضل في الدنيا هم أهلُ الفضل في الآخِرة...
(وإنْ تَوَلَّوْا... فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)... هذا لِمَا يَكْبُرُ على الخَلْق، ويَعْظُمُ ذلك اليومُ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَنِ استغفروا} أي أمركم بالتوحيد والاستغفار. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة. ويدل عليه قوله: {إِنّني لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} كأنه قال: ترك عبادة غير الله، إنني لكم منه نذير، كقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] والضمير في {مِّنْهُ} لله عز وجل، أي: إنني لكم نذير وبشير من جهته، كقوله: {رَسُولٌ مّنَ الله} [البينة: 2] أو هي صلة لنذير، أي: أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.
فإن قلت: ما معنى ثم في قوله: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ}؟ قلت: معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. أو استغفروا، والاستغفار توبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، كقوله: {ثُمَّ استقاموا} [الأحقاف: 13]. {يُمَتّعْكُمْ} يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة واسعة، ونعمة متتابعة {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى أن يتوفاكم، كقوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} [النحل: 97] {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه. أو فضله في الثواب، والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات {وَإِن تَوَلَّوْاْ} وإن تتولوا {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} هو يوم القيامة، وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه. و {ثم} مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه...
المرتبة الثانية: من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله: {وأن استغفروا ربكم}.
والمرتبة الثالثة: قوله: {ثم توبوا إليه}. واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه:
الوجه الأول: أن معنى قوله: {وأن استغفروا} اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم، ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة، فقال: {ثم توبوا إليه} لأن الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة. وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة، والأمر في الحقيقة كذلك، لأن المذنب معرض عن طريق الحق، والمعرض المتمادي في التباعد ما لم يرجع عن ذلك الإعراض لا يمكنه التوجه إلى المقصود بالذات، فالمقصود بالذات هو التوجه إلى المطلوب إلا أن ذلك لا يمكن إلا بالإعراض عما يضاده، فثبت أن الاستغفار مطلوب بالذات، وأن التوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة.
الوجه الثاني: في فائدة هذا الترتيب أن المراد: استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا إليه في المستأنف.
الوجه الثالث: وأن استغفروا من الشرك والمعاصي، ثم توبوا من الأعمال الباطلة.
الوجه الرابع: الاستغفار: طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي، والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي، فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه والاستعانة بفضل الله تعالى مقدمة على الاستعانة بسعي النفس.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة، ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين، لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة، أما المنافع الدنيوية: فهي المراد من قوله: {يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى} وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وقال أيضا: « خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء تم الأمثل فالأمثل» وقال تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة} فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية. ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما؟
الأول: المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا.
الثاني: أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان، وإليه الإشارة بقوله: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك}.
الثالث: وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر، كان الابتهاج والسرور أتم، لأنه أمن من تغير مطلوبه، وأمن من زوال محبوبه، فأما من كان مشتغلا بحب غير الله، كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله، فكان عيشه منغصا وقلبه مضطربا، ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته {فلنحيينه حياة طيبة}...
السؤال الثالث: لم سمى منافع الدنيا بالمتاع؟
الجواب: لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها، ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى: {إلى أجل مسمى} فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية، ثم لما بين تعالى ذلك قال: {ويؤت كل ذي فضل فضله} والمراد منه السعادات الأخروية، وفيها لطائف وفوائد.
الفائدة الثانية: أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية، فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية، فلهذا السبب قال: {ويؤت كل ذي فضل فضله}.
الفائدة الثالثة: أنه تعالى قال في منافع الدنيا: {يمتعكم متاعا حسنا} وقال في سعادات الآخرة {ويؤت كل ذي فضل فضله} وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده. وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول: لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب، فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه، فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده، فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع.
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال: {وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} والأمر كذلك، لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى، {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها، فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزا عن الوصول إلى محبوبه، فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء، فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم، وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وأمر بالاستغفار من الذنوب، ثم بالتوبة، وهما معنيان متباينان، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والمعنى: أنه لا يبقى لها تَبِعَةٌ...
والتوبة الاِنسلاخ من المعاصي، والندمُ على ما سَلَفَ منها، والعزم على عدم العَوْدِ إليها...
والمَتاعُ الحَسَنُ... حُسْنُ العملِ وقَطْعُ الأملِ... وتَقَدَّمَ أمران بينهما تَرَاخٍ، ورُتِّب عليهما جوابان بينهما تراخٍ، تَرتَّب على الاستغفار التّمتيعُ المتاعَ الحَسَنَ في الدنيا، كما قال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمُ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَاراً...} وتَرَتَّبَ على التوبة إيتاءُ الفضلِ في الآخِرة، وناسَب كلُّ جوابٍ لِمَا وَقَعَ جواباً له، لأنّ الاستغفار من الذنب أوَّلُ حالِ الراجع إلى الله، فناسَب أن يُرتَّب عليه حالُ الدنيا. والتوبة هي المُنجية من النار، والتي تُدخِل الجنةَ، فناسَب أن يُرتَّب عليها حالُ الآخِرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لَمَّا تَقدَّم أنه نذيرٌ وبشيرٌ، أَتْبَعَ ذلك بما يشمل الأمرين بقوله عطفاً على {أَلَّا تَعْبُدُوا} مشيراً إلى أنه لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يَقْدُرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِه {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي اطلُبوا مع الإخلاص في العبادة أن يَغفِر لكم المُحْسِنُ إليكم ما فَرَّطْتم فيه؛ وأشار بأداة التراخي إلى عُلُوّ رتبة التوبة وأنْ لا سبيل إلى طلب الغفران إلا بها فقال: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي ارجِعوا بالظاهر والباطن رجوعاً لا رِجْعةَ فيه وإن كان المرادُ بها الدَّوامَ فجَلِيلُ رتبتِه غيرُ خَفِيٍّ... {يُمَتِّعْكُمْ}... ولَمّا، كان التمتيع -وهو المتاع البالغ فيه حتى لا يكون فيه كَدَرٌ- لا يكون إلا في الجنة فلذلك جَعَل المصدر {متاعاً} وأنه وُضِع موضعَ "تمتيعاً"، هذا المصدر ووصَفه بقوله: {حَسَناً} ليدل على أنه أنهى ما يليق بهذه الدار... {إِلَى}... {أَجَلٍ مُسَمّىً} أي في عِلمه... بانقضاء ما ضَرَبَه من الأجَل للنِّعمة التي أشار إليها... ولَمّا انقضى التبشيرُ مجزوماً به، أتبَعه التحذيرُ مَخوفاً منه لطفاً بالعباد واستعطافاً لهم فقال: {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي تُكَلِّفوا أنفسَكم ضِدَّ ما طَبَعها اللهُ عليه من سلامة الفطرة و سهولةِ الانقياد من الإعراض ولو أدنى درجاتِه بما أشار إليه حذفُ التاء {فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أي والعاقلُ مَن أَبعَد عن المخاوف {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} أي لِكِبَر ما فيه من العذاب ممّن قَدَر على إثباتكم، وخصَّ اسم الرّبّ تذكيراً بما له من النِّعم في الإيجاد والإنشاء والتربية... وفي التعبير عن العمل بالفَضْل إشارةٌ إلى أنه لم يقع التكليف إلا بما في الوُسْعِ مع أنه من معالي الأخلاق، لأن الفضل في الأصل ما فَضَلَ عن الإنسان... من كريم الشمائل، وما كان كذلك فهو في الذِّروة من الإحكام، لأنه مَنَع الفعل من الفساد...وقد أشارت الآية إلى أن الاستغفار والتوبة سبب السعة {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66] وأن الإعراض سبب الضيق... {و يؤت كل ذي فضل فضله} إشارة إلى ثواب الآخرة، فالتوبة سبب طيب العيش في الدنيا والآخرة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وأن استغفروا ربكم} هذا عطف على ما قبله، أي وأن اسألوه أن يغفر لكم ما كان من الشرك والكفر والإجرام والظلم، {ثم توبوا إليه} أي ثم ارجعوا إليه من كل إعراض –عنه وعن آياته- يعرض لكم بترك واجب أو فعل محرم، نادمين منيبين مصلحين لما أفسدتم، مستدركين ما قصرتم، عطف التوبة بثم لأن مرتبة العمل متأخرة عن مرتبة القول، فكم من مستغفر وهو مصر على الذنب، وسيأتي مثله في قصة كل من هود وصالح وشعيب {يمتعكم متاعا حسنا} المتاع كل ما ينتفع به في المعيشة وحاجة البيوت، والإمتاع والتمتيع إعطاء ما يتمتع به تمتعا طويلا ممتدا، وأما وصفه تعالى لمتاع الدنيا وتمتع أهلها بها بالقليل فهو بالإضافة إلى حياة الآخرة، والمعنى أن تستغفروا ربكم عند كل ذنب، وتتوبوا إليه من كل إعراض عن هدايته، وتنكب عن سنته، يمتعكم في دنياكم متاعا حسنا مرضيا ممتدا {إلى أجل مسمى} عنده وهو العمر المقدر لكم في علمه، المكتوب في نظام الخليقة وسنن الاجتماع البشري في عباده، فلا يقطعه إهلاككم بعذاب الاستئصال، ولا بفساد العمران وسلب الاستقلال، ولا ينغصه كل ما ينغص حياة الكفار، وذلك أن لتنغيص الحياة في الدنيا وسلب النعم من أهلها أسبابا ترجع كلها إلى الإصرار على الكفر والذنوب المحرمة، وهي لم تكن محرمة إلا لأنها ضارة مفسدة للدين أو مزيلة للحياة أو للعقل أو للصحة أو لنظام الاجتماع المالي والمدني، وإنما تكون مفسدة بإصرار فاعليها عليها، فإذا كان من تعرض له يندم ويبادر إلى التوبة من قريب ويصلح ما نجم من فسادها بالعمل المضاد له، امتنع ذلك الفساد وزال أثره، ولهذا اشترط في التوبة المقبولة ما اشترط ووصفت في القرآن بما وصفت كقوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17] وقوله: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} [المائدة: 39] وفي معناه آيات أخرى وقوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران: 135] وقد سبق تفسيرها في مواضعها.
وهذه السنة الربانية مطردة في ذنوب الأمم المقصودة بالقصد الأول من هذا الخطاب، وهي فيها أظهر منها في ذنوب الأفراد [كما بيناه في مواضع عديدة من هذا التفسير] فالأمم التي تصر على الظلم والفساد والفسوق والعصيان، يهلكها الله تعالى في الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران، حتى تزول منعتها، وتتمزق دولتها، فتنقرض أو تستولي عليها دولة أخرى، فهذا معروف في تواريخ الأمم من أحوالها العامة في كل عصر، وأما أقوام الرسل عليهم السلام في عصورهم فقد أهلك الله المصرين منهم على الكفر والعناد، بعد قيام الحجة عليهم بعذاب الخزي والاستئصال، كما بيناه في مواضعها وأقربها عهدا [أواخر] سورة يونس عليه السلام، والآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال كما بيناه في تفسير سورة يونس أيضا، وسنعود إلى بيان هذا في تفسير الآيات [100-103] التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة.
وأما قوله تعالى: {ويؤت كل ذي فضل فضله} فهو عام مطلق في جزاء الأفراد في الآخرة، مقيد في جزائهم في الدنيا، ومعناه مع الذي قبله أنكم أيها المخاطبون بهذه الآيات من قوم محمد رسول الله وخاتم النبيين، إن تجتنبوا الشرك وتؤمنوا بالله ورسوله وتستغفروا ربكم، وتتوبوا إليه عقب كل ذنب يقع منكم يمتعكم بجملتكم ومجموعكم متاعا حسنا تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة ودولة، ويعط كل ذي فضل من علم وعمل جزاء فضله في الآخرة مطردا كاملا، وأما في الدنيا فقد يكون هذا الجزاء جزئيا ناقصا، ومشوبا لا خالصا، ولا يكون عاما كاملا مطردا لقصر أعمال الأفراد، والتعارض والترجيح في سنن الأسباب والمسببات، وهذا من أدلة البعث وجزاء الآخرة الذي يظهر فيه عدله تعالى كاملا شاملا.
وبهذا التفسير الذي وفقنا الله تعالى له يظهر ما بيناه مرارا من أن ثمرة الدين سعادة الدنيا والآخرة كلتيهما، وقد غفل عنه المفسرون الذين يعارضون أمثال هذه النصوص بما جعلوه أصلا يرجعونها إليها بالتأويل كأحاديث ذم الدنيا وتسميتها "سجن المؤمن وجنة الكافر "104 وما يصح منها كهذا الحديث فهو محمول على النسبة بينهما بالإضافة إلى حال كل منهما في الدنيا والآخرة، وحديث "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" 105 وهو صحيح أيضا، والبلاء الاختبار- يكون في النعم والنقم، والخير والشر- يظهر استعداد الناس لكل منهما كما تراه قريبا في تفسير الآية 7 فليس مما نحن فيه مما وعد الله به رسله وبلغوه أقوامهم وصدقه الواقع، فكانت العاقبة للمؤمنين بهم في خلافة الأرض وملكها ونعيمها ما ثبتوا على ذلك، ومنه هذه البشارة ويقابلها قوله تعالى في الإنذار:
{وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} أي وإن تتولوا معرضين عما دعوتكم إليه من عبادة الله تعالى وعدم عبادة غيره ومن الاستغفار والتوبة من كل ذنب، فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير هوله، شديد بأسه، وهو أن يصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم، أو ما دونه من عذاب المصرين، وفي إثر نصر الرسول والمؤمنين، وهذه براعة استهلال للقصص المفصلة في هذه السورة، وأكثر المفسرين على أن المراد باليوم الكبير يوم القيامة الذي يكون فيه الجزاء الأكبر وهو المشار إليه في الآية التالية: إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والاستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه، وشعوره بالإثم ورغبته في التوبة. والتوبة بعد ذلك هي الإقلاع الفعلي عن الذنب، والأخذ في مقابله في أعمال الطاعة. ولا توبة بغير هذين الدليلين، فهما الترجمة العملية للتوبة، وبهما يتحقق وجودها الفعلي، الذي ترجى معه المغفرة والقبول.. فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في الإسلام، بينما هو لا يدين لله وحده، ولا يتلقى منه وحده عن طريق نبيه؛ فلا قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير الله..
والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة، وقوام التبليغ. وهما عنصرا الترغيب والترهيب، اللذان علم الله من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق!
والاعتقاد باليوم الآخر ضروري لاكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة، وأن الخير الذي تدعو إليه الرسالات هو غاية الحياة؛ ومن ثم لا بد أن يلقى جزاءه؛ فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون في العالم الآخر، الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها. أما الذين يزيغون عن نهج الله وحكمته في الحياة فهؤلاء يرتكسون وينتكسون إلى درك العذاب.. وفي هذا ضمان للفطرة السليمة ألا تنحرف. فإن غلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة، ولم تلج في العصيان. ومن ثم تصلح هذه الأرض لحياة البشر. وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير. فالاعتقاد باليوم الآخر ليس طريقا للثواب في الآخرة فحسب -كما يعتقد بعض الناس- إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا. والحافز على إصلاحها وإنمائها. على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفا في ذاته، إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه، وكرمه على كثير من خلقه، ورفعه عن درك الحيوان؛ لتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان؛ ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته.
ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة، بعد توحيد الدينونة لله، وإثبات الرسالة من عنده.. الدعوة إلى الاستغفار من الشرك والتوبة.. وهما بدء الطريق للعمل الصالح. والعمل الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام. إنما هو الإصلاح في الأرض بكل معاني الإصلاح، من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج. والجزاء المشروط:
(يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضل فضله)..
والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا. أما في الآخرة فهو بالنوع والكم وبما لم يخطر على قلب بشر. فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة.
إننا نشاهد كثيرا من الطيبين الصالحين، المستغفرين التائبين، العاملين في الحياة.. وضيقا عليهم في الرزق. فأين إذن هو المتاع الحسن؟
وهو سؤال نعتقد أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين!
ولا بد لإدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع، وننظر إليها في محيطها الشامل العام، ولا نقتصر منها على مظهر عابر.
إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح، قائم على الإيمان بالله، والدينونة له وحده، وإفراده بالربوبية والقوامة، وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة.. إلا كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة كجماعة؛ وإلا ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الأفراد بصفة خاصة. فإذا شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب، فذلك شاهد على أن هذه الجماعة لا يسودها النظام المستمد من الإيمان بالله، القائم على العدل بين الجهد والجزاء.
على أن الأفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعا حسنا، حتى لو ضيق عليهم في الرزق، وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم، كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة، وكما تؤذي الجاهليات القلة الداعية إلى الله. وليس هذا خيالا وليس ادعاء. فطمأنينة القلب إلى العاقبة، والاتصال بالله، والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله.. عوض عن كثير؛ ومتاع حسن للإنسان الذي يرتفع درجة عن الحس المادي الغليظ.
ولا نقول هذا لندعو المظلومين الذين لا يجدون جزاء عادلا على جهدهم إلى الرضى بالأوضاع المنافية للعدالة. فالإسلام لا يرضى بهذا، والإيمان لا يسكت على مثل تلك الأوضاع. والجماعة المؤمنة مطالبة بإزالتها وكذلك الأفراد، ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين. إنما نقوله لأنه حق يحس به المؤمنون المتصلون بالله، المضيق عليهم في الرزق، وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الأوضاع التي تكفل المتاع الحسن لعباد الله المستغفرين التائبين العاملين بهدى الله.
خصصها بعض المفسرين بجزاء الآخرة. وأرى أنها عامة في الدنيا والآخرة، على النحو الذي فسرنا به المتاع الحسن في الدنيا؛ وهو متحقق في جميع الأحوال. وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها الفضل. يجده رضى نفسيا وارتياحا شعوريا، واتصالا بالله وهو يبذل الفضل عملا أو مالا متجها به إلى الله. أما جزاء الله له بعد ذلك فهو فضل من الله وسماحة فوق الجزاء.
(وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)..
هو عذاب يوم القيامة. لا عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين. فاليوم الكبير حين يطلق هكذا ينصرف إلى اليوم الموعود. ويقوي هذا ما بعده:
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ...}... والتعبير بكلمة {ثُمَّ} الدالّةِ على الترتيب والتراخي للدلالة على البعد بين المَقامَيْن، مَقامِ الاستغفار عن الشرك ومقام التوبة، فالتوبة ذاتُها عبادةٌ، ولا تراخيَ في الزمن بل الزمن واحدٌ ولكن البعد في الرتبة. وفي قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} معنى قُرْبِ الله تعالى من العبد لأنه ربُّه الذي بَرَأَهُ وربّاه وقام على تدبير حياته وحياةِ ما حولَه. {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي عودوا بالتوبة إليه سبحانه؛ لأن العبد بالشِّرك يَبْعُدُ عن الله بعد أن خَلَقه حَنِيفاً، وبالتوبة عاد إلى ما ابتدأ وهو القُرْبُ من الله...
{يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}... والمتاعُ الحَسَنُ هو المتاع الحَلال الذي يكون من مَكْسَبٍ حَلالٍ وفي حلالٍ كالرجل مع زوجته، والمتاعُ الحَسَنُ ماديٌّ كالذي أشرنا إليه، ومعنويٌّ وهو الاطمئنان إلى الحق، والقَرارُ، وعدمُ الظلم، والرضا والقناعةُ، والاستمساكُ بالفضائل، والبعدُ عن الرذائل، والسُّكونُ إلى جانب الله... {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}... أما في الدنيا فإنه يتكوَّن مجتمعٌ فاضلٌ كريمٌ حيث يكون كلُّ ذي فَضْلٍ في مكانته، فيُعطَى حقَّه غيرَ منقوصٍ، ويتمتع الجميعُ بمتاعٍ حَسَنٍ وتكون الحقوقُ قائمةً أدبيّةً وماديّةً، فالمجتمعات التي لا تُظِلُّها الفضيلةُ لا تُعْرَف فيها قِيَمُ الأفاضلِ وتَضطرب الموازين اضطرابا شديدا بل تنقلِب للرجال والأعمال معا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وثالثُ ما في منهج دعوتي إِليكم هو أن تستغفروا من ذنوبِكم وتُطَهِّروا أنفسَكم من الأدران: (وأنِ اسْتَغْفِروا رَبَّكُمْ).
ورابعها هو أن تعودوا إلى الله بالتوبة، وأن تتصفوا بعد غَسْل الذنوب والتطهُّرِ في ظل الاستغفار بصفات الله، فإِنّ العودة إِليه تعالى لا تعني إِلاّ الاقتباسَ من صفاته (ثمّ تُوبُوا إِلَيْهِ)...
في الواقع إِنّ أربع مراحلَ من مراحل الدعوة المهمّة نحو الحقِّ سبحانه بُيّنت في أربع جمل وفي أربعة أقسام، فقِسمان يتضمنان الجانب «العقيدي» والأساسيَّ. وقسمان يتضمنان الجانب «العمليّ» والفوقاني. فقبولُ أصلِ التوحيد ومحاربةُ الشرك، وقبولُ رسالةِ النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أصلان اعتقاديان، والتطهّرُ من الذنوب والتخلُّقُ بالصفات الإِلهية اللذان يَحملان معنى البناء بتمام معناه أمران عمليّان حَضَّ عليهما القرآنُ، وإذا تأمّلنا بدقّة في الآيات الكريمة وجدنا أن جميع محتوى القرآن يتلخص في هذه الأُصول الأربعة.. هذا هو الفهرس لجميع محتوى القرآن، ولجميع محتوى هذه السورة أيضاً...