هؤلاء الذين لايؤمنون بالآخرة ، والذين تنكبوا الطريق ، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ، ولا الابتلاء بالنقمة . فإن أصابتهم النعمة حسبوا : ( أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات )وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم ، ولم تستيقظ ضمائرهم ، ولم يرجعوا إلى الله يتضرعون له ليكشف عنهم الضر ، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون .
( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون . ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون . حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ) . .
وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس ، القاسية قلوبهم ، الغافلين عن الله ، المكذبين بالآخرة ، ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
والاستكانة والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله ، والشعور بأنه الملجأ والملاذ . والقلب متى اتصل بالله على هذا النحو رق ولان ، واستيقظ وتذكر ، وكانت هذه الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة والزلل ، وأفاد من المحنة و انتفع بالبلاء . فأما حين يسدر في غيه ، ويعمه في ضلاله ، فهو ميؤوس منه لا يرجى له صلاح ، وهو متروك لعذاب الآخرة ، الذي يفاجئه ، فيسقط في يده ، ويبلس ويحتار ، وييأس من الخلاص .
يقول تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ } أي : ابتليناهم بالمصائب والشدائد ، { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي : فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة ، بل استمروا على ضلالهم وغيهم . { فَمَا اسْتَكَانُوا } أي : ما خشعوا ، { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي : ما دعوا ، كما قال تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 43 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن حمزة المروزي ، حدثنا علي ابن الحسين ، حدثنا أبي ، عن يزيد - يعني : النحوي - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز - يعني : الوبر والدم - فأنزل الله : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ }
وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، به{[20622]} . وأصل هذا الحديث في الصحيحين : أن{[20623]} رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال : " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " {[20624]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سلمة بن شَبِيب ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كَيْسان ، عن{[20625]} وهب بن عمر بن كيسان قال : حُبِس وهب بن مُنَبِّه ، فقال له رجل من الأبناء : ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله ؟ فقال وهب : نحن في طرف من عذاب الله ، والله تعالى يقول : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } قال : وصام وهب ثلاثا متواصلة ، فقيل له : ما هذا الصوم يا أبا عبد الله ؟ قال : أَحَدَث لنا فأحدثنا . يعني : أحدث لنا الحبس ، فأحدثنا زيادة عبادة .
هذا إخبار من الله تعالى عن استكبارهم وطغيانهم بعد ما نالهم من الجوع ، هذا قول روي عن ابن عباس وابن جريج أن «العذاب » هو الجوع والجدب المشهور نزوله بهم حتى أكلوا الجلود وما جرى مجراها والباب والمتوعد به يوم بدر ، وهذا القول يرده أن الجدب الذي نالهم إنما كان بعد وقعة بدر وروي أنهم لما بلغهم الجهد جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ألست تزعم يا محمد أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ قال بلى قال قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع وقد أكلنا العهن فنزلت الآية{[8530]} ، و { استكانوا } معناه انخفضوا وتواضعوا ، ويحتمل أن يكون من السكون ويلزمه أن يكون «استكنوا » ووجهه أن فتحة الكاف مطلت فتولدت منه الألف ويعطي التصريف أنه من «كان » وأن وزنه استفعل وعلى الأول وزنه افتعل وكونه من «كان » أبين والمعنى فما طلبوا أن يكونوا لربهم أي طاعة وعبيد خير ، وروي عن الحسن رضي الله عنه أنه قال : إذا أصاب الناس من قتل السلطان بلاء فإنما هي نقمة فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية ولكن استقبلوها بالاستغفار واستكينوا وتضرعوا إلى الله وقرأ هذه الآية { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } .
استدلال على مضمون قوله { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون } [ المؤمنون : 75 ] بسابق إصرارهم على الشرك والإعراض عن الالتجاء إلى الله وعدم الاتعاظ بأن ما حل بهم من العذاب هو جزاء شركهم .
والجملة المتقدمة خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يعلم صدقه فلم يكن بحاجة إلى الاستظهار عليه . ولكنه لما كان متعلقاً بالمشركين وكان بحيث يبلغ أسماعهم وهم لا يؤمنون بأنه كلام من لا شك في صدقه ، كان المقام محفوفاً بما يقتضي الاستدلال عليهم بشواهد أحوالهم فيما مضى ؛ ولذلك وقع قبله { فذرْهم في غمرتهم حتى حين } [ المؤمنون : 54 ] ، ووقع بعده { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } [ المؤمنون : 84 ] .
والتعريف في قوله { بالعذاب } للعهد ، أي بالعذاب المذكور آنفاً في قوله : { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } [ المؤمنون : 64 ] الخ . ومصبّ الحال هو ما عطف على جملتها من قوله { فما استكانوا لربهم } ، فلا تتوهمنّ أن إعادة ذكر العذاب هنا تدل على أنه عذاب آخر غير المذكور آنفاً مستنداً إلى أن إعادة ذكر الأول لا طائل تحتها . وهذه الآية في معنى قوله في سورة الدخان ( 13 15 ) { أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه } إلى قوله { إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون } والمعنى فلم يكن حظهم حين أخذناهم بالعذاب إلا العويل والجؤار دون التوبة والاستغفار .
وقيل : هذا عذاب آخر سابق للعذاب المذكور آنفاً فيتركب هذا على التفاسير المتقدمة أنه عذاب الجوع الأول أو عذاب الجوع الثاني بالنسبة لعذاب يوم بدر .
والاستكانة : مصدر بمعنى الخضوع مشتقة من السكون لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له ، فهو افتعال من السكون للدلالة على تمكن السكون وقوته . وألفه ألف الافتعال مثل الاضطراب ، والتاء زائدة كزيادتها في استعاذة .
وقيل الألف للإشباع ، أي زيدت في الاشتقاق فلازمت الكلمة . وليس ذلك من الإشباع الذي يستعمله المستعملون شذوذاً كقول طرفة :
أي ينبع . وأشار في « الكشاف » إلى الاستشهاد على الإشباع في نحوه إلى قول ابن هرمة :
وأنت من الغوائل حين ترمي *** ومن ذم الرجال بمنتزاح
ويبعد أن يكون { استكانوا } استفعالاً من الكون من جهتين : جهة مادته فإن معنى الكون فيه غير وجيه وجهة صيغته لأن حمل السين والتاء فيه على معنى الطلب غير واضح .
والتعبير بالمضارع في { يتضرعون } لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم . والتضرع : الدعاء بتذلل ، وتقدم في قوله : { لعلهم يتضرعون } في سورة الأنعام ( 42 ) . والقول في جملة { حتى إذا فتحنا عليهم باباً } كالقول في { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } [ المؤمنون : 64 ] .