في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

12

ثم إنه لماذا يتخذ غير الله وليا ، ويعرض نفسه للشرك الذي نهى عنه وللمخالفة عن الإسلام الذي أمر به ، ولما يعقب المعصية من هذا العذاب الهائل الرعيب ؟ . . ألعل ذلك رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا ؟ رجاء نصرة الناس له في الضراء ؛ ورجاء نفع الناس له بالسراء ؟ . . إن هذا كله بيد الله ؛ وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب ؛ وله القهر كذلك على العباد ؛ وعنده الحكمة والخبرة في المنع والعطاء :

( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . .

إنه تتبع هواجس النفس ووساوس الصدر ؛ وتتبع مكامن الرغائب والمخافات ، ومطارح الظنون والشبهات وتجليه هذا كله بنور العقيدة ، وفرقان الإيمان ، ووضوح التصور ، وصدق المعرفة بحقيقة الألوهية . ذلك لخطورة القضية التي يعالجها السياق القرآني في هذا الموضع ، وفي جملة هذا القرآن :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

يقول تعالى مخبرًا أنه مالك الضر والنفع ، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء ، لا مُعَقِّب لحكمه ، ولا رَادَّ لقضائه : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كما قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } الآية [ فاطر : 2 ] وفي الصحيح{[10599]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم لا مانع لِما أَعْطَيْت ، ولا معطِيَ لما مَنَعْتَ ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ " {[10600]} ؛ ولهذا قال تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }


[10599]:في أ: "الصحيحين".
[10600]:رواه البخاري في صحيحه برقم (844) ومسلم في صحيحه برقم (593) من حديث المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

{ وإن يمسسك الله بضر } ببلية كمرض وفقر . { فلا كاشف له } فلا قادر على كشفه . { إلا هو وإن يمسسك بخير } بنعمة كصحة وغنى . { فهو على كل شيء قدير } فكان قادرا على حفظه وإدامته فلا يقدر غيره على دفعه كقوله تعالى : { فلا راد لفضله } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

{ يمسسك } معناه يصبك وينلك ، وحقيقة المس هي بتلاقي جسمين فكأن الإنسان والضر يتماسان ، و «الضُّر » بضم الضاد سوء الحال في الجسم وغيره ، «والضَّر » بفتح الضاد ضد النفع ، وناب الضر في هذه الآية مناب الشر وإن كان الشر أعم منه مقابل الخير ، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة ، فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة ، فمن ذلك قوله تعالى : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }{[4845]} فجعل الجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَاداً لِلَذَّةٍ . . . وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِباً ذَاتَ خَلْخَالِ

وَلَمْ أسْبَإِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولمْ أقُلْ . . . لِخَيْلِيَ كُرِّي كُرَّةً بِعْدَ إجْفَالِ{[4846]}

وهذا كثير ، قال السدي «الضر » ها هنا المرض ، والخير العافية .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال ، ومعنى الآية الإخبار عن أن الأشياء كلها بيد الله ، إن ضر فلا كاشف لضره غيره ، وإن أصاب بخير فكذلك أيضاً لا راد له ولا مانع منه ، هذا تقرير الكلام ، ولكن وضع بدل هذا المقدر لفظاً أعم منه يستوعبه وغيره ، وهو قوله : { على كل شيء قدير } ودل ظاهر الكلام على المقدر فيه ، وقوله : { على كل شيء قدير } عموم أي على كل شيء جائز يوصف الله تعالى بالقدرة عليه .


[4845]:-الآيتان (118-119) من سورة (طه) – وقد قال بعض العلماء: إن الجامع بين الجوع والعري هو اشتراكهما في الخلو، فالجوع: خلو الباطن، والعري: خلو الظاهر، والجامع بين الظمأ والضحاء اشتراكهما في الاحتراق، فالظمأ، احتراق الباطن، ألا ترى إلى قولهم: برّد الماء حرارة جوفي؟ والضحاء: احتراق الظاهر، وانظر كيف بدأت الآية بخلو الباطن ثم ثنت بخلو الظاهر، ثم فعلت نفس الشيء في الاحتراق حيث بدأت باحتراق الباطن ثم ثنت باحتراق الظاهر.
[4846]:- ركوب الجواد يكون للذة الصيد، وقد يكون للمتعة بالركوب نفسه. والكاعب: الفتاة التي كعب ثديها، أي: برز ونهد فصار كالشيء المكعب المرتفع. والخلخال: حلية كالسوار تلبسها النساء في أرجلهن، وجمعه: خلاخيل، و"ذات خلخال": كناية عن المرأة التي تستعمل الحلي لأنها من بيت غني، أو لأنها تحب استعمال الزينة. وتبطن الكاعب: باشرها وجامعها، وقيل: تبطن: باشر بطنه بطنها. والزق: وعاء من جلد يجزّ شعره ولا ينتف للشراب وغيره، والجمع: أزقاق وزقاق، وسبأ الزق: اشترى خمرها ليشربها. والرّويّ: الكثير الخمر حتى يشبع. والكرّ: معاودة الهجوم على العدو بعد الفرار، والإجفال: الإسراع، مصدر أجفل بمعنى: مضى مسرعا. يتذكر امرؤ القيس في هذين البيتين شبابه وما كان فيه من لذات ونفع، ويتحسر على ذلك بعد أن كبرت سنه وتغيرت أحواله فيقول: لقد ذهب كل هذا فكأني لم أكن فارسا أتمتع بركوب الجياد وأسعي بها للصيد، ولم أتمتع بالكاعب المنعمة بالحلي، ولم أشتر الخمر لأشربها، ولم يكن مني كرّ على العدو بعد هزيمة أو فرار. هذا وقد قال بعض النقاد: كان من المنطقي أن يكون النصف الثاني من البيت الثاني مع النصف الأول من البيت الأول لأن الكلام فيهما عن الجياد وركوبها، ومن المعقول أن يكون الحديث عن الكرّ في المعركة مع الحديث عن ركوب الخيل للصيد، وكذلك من المنطقي أن يجمع بين الخمر والتمتع بالنساء فيجعل النصف الثاني من البيت الأول مع النصف الأول من البيت الثاني، ولكن امرأ القيس عدل عن ذلك إلى شيء آخر دل على براعة وحذق، فالجامع في البيت الأول بين الركوب للذة الفروسية أو لذة الصيد والركوب للذة المباشرة الجنسية هو اشتراكهما معا في لذة الاستعلاء والاقتناص والظفر والقهر والسيطرة على الفرس والصيد،، أو على المرأة والجامع في البيت الثاني بين شراء الخمر للشرب والكرّة بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل، فشراء الخمر فيه بذل للمال، والكرّ بعد الهزيمة فيه بذل للروح، ثم قالوا: وما أحسن تعقل امرئ القيس وتدرجه في بيته حيث انتقل من الأدنى إلى الأعلى لأن الظفر بجنس الإنسان (المرأة) أعلى وأشرف وأحب إلى الفرسان من الظفر بجنس الحيوان (الصيد) أو (الفرس) نفسه، ولأن بذل الروح أعظم من بذل المال.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

عطف على الجمل المفتتحة بفعل { قل } [ الأنعام : 15 ] فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم

وهذا مؤذن بأنّ المشركين خوّفوا النبي صلى الله عليه وسلم أو عرّضوا له بعزمهم على إصابته بشرّ وأذى فخاطبه الله بما يثبّت نفسه وما يؤيس أعداءه من أن يستزلّوه . وهذا كما حكي عن إبراهيم عليه السلام { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنّكم أشركتم بالله ما لم ينزّل به عليكم سلطاناً } [ الأنعام : 81 ] ، ومن وراء ذلك إثبات أنّ المتصرّف المطلق في أحوال الموجودات هو الله تعالى بعد أن أثبت بالجمل السابقة أنّه محدث الموجودات كلّها في السماء والأرض ، فجُعل ذلك في أسلوب تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم على عدم الخشية من بأس المشركين وتهديدهم ووعيدهم ، ووعدُه بحصول الخير له من أثر رضى ربّه وحدَه عنه ، وتحدّي المشركين بأنّهم لا يستطيعون إضراره ولا يجلبون نفعه . ويحصل منه ردّ على المشركين الذين كانوا إذا ذُكّروا بأنّ الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن أقرّوا بذلك ، ويزعمون أنّ آلهتهم تشفع عند الله وأنّها تجلب الخير وتدفع الشرّ ، فلمَّا أبطلت الآيات السابقة استحقاق الأصنام الإلهية لأنّها لم تخلق شيئاً ، وأوجبت عبادة المستحقّ الإلهية بحقّ ، أبطلت هذه الآية استحقاقهم العبادة لأنّهم لا يملكون للناس ضرّاً ولا نفعاً ، كما قال تعالى : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً } [ المائدة : 76 ] وقال عن إبراهيم عليه السلام : { قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرّون } [ الشعراء : 73 ] .

وقد هيّأت الجمل السابقة موقعاً لهاته الجملة ، لأنّه إذا تقرّر أنّ خالق الموجودات هو الله وحده لزم من ذلك أنّه مقدّر أحوالِهم وأعمالِهم ، لأنّ كون ذلك في دائرة قدرته أولى وأحقّ بعد كون معروضات تلك العوارض مخلوقة له . فالمعروضات العارضة للموجودات حاصلة بتقدير الله لأنّه تعالى مقدّر أسبابها ، واضع نظام حصولها وتحصيلها ، وخالق وسائل الدواعي النفسانية إليها أو الصوارف عنها .

والمسّ حقيقته وضع اليد على شيء . وقد يكون مباشرة وقد يكون بآلة ، ويستعمل مجازاً في إيصال شيء إلى شيء فيستعار إلى معنى الإيصال فيكثر أن يذكر معه ما هو مستعار للآلة . ويدخل عليه حرف الآلة وهو الباء كما هنا ، فتكون فيه استعارتان تبعيتان إحداهما في الفعل والأخرى في معنى الحرف ، كما في قوله : { ولا تمسّوها بسوء } [ الأعراف : 73 ] . فالمعنى : وإن يصبك الله بضرّ ، أو وإن ينلك من الله ضرّ .

والضُرّ بضم الضاد هو الحال الذي يؤلم الإنسان ، وهو من الشرّ ، وهو المنافر للإنسان . ويقابله النفع ، وهو من الخير ، وهو الملائم . والمعنى إن قدّر الله لك الضرّ فهلاّ يستطيع أحد كشفه عنك إلاّ هو إن شاء ذلك ، لأنّ مقدّراته مربوطة ومحوطة بنواميس ونظم لا تصل إلى تحويلها إلاّ قدرة خالقها .

وقابل قوله : { وإن يمسسك الله بضرّ } بقوله : { وإن يمسسك بخير } مقابلة بالأعمّ ، لأنّ الخير يشمل النفع وهو الملائم ويشمل السلامة من المنافر ، للإشارة إلى أنّ المراد من الضرّ ما هو أعمّ ، فكأنّه قيل : إن يمسسك بضرّ وشرّ وإن يمسسك بنفع وخير ، ففي الآية احتباك . وقال ابن عطية : ناب الضرّ في هذه الآية مناب الشرّ والشرّ أعمّ وهو مقابل الخير . وهو من الفصاحة عدول عن قانون التكلّف والصنعة ، فإنّ من باب التكلّف أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختصّ به ونظَّر هذا بقوله تعالى : { إنّ لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنَّك لا تظمأ فيها ولا تضحى } [ طه : 118 ، 119 ] . اه .

وقوله : { فهو على كلّ شيء قدير } جعل جواباً للشرط لأنّه علّة الجواب المحذوف والجواببِ المذكور قبله ، إذ التقدير : وإن يمسسك بخير فلا مانع له لأنّه على كلّ شيء قدير في الضرّ والنفع . وقد جعل هذا العموم تمهيداً لقوله بعده { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام : 18 ] .