البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

كشف الضر : أزاله ، وكشفت عن ساقيها أزالت ما يسترهما . { وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } أي إن يصبك وينلك بضرّ وحقيقة المس تلاقي جسمين ، ويظهر أن الباء في { بضر } وفي { بخير } للتعدية وإن كان الفعل متعدياً كأنه قيل : { وإن يمسسك الله } الضر فقد مسك ، والتعدية بالباء في الفعل المتعدّي قليلة ومنها قوله تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } وقول العرب : صككت أحد الحجرين بالآخر والضر بالصم سوء الحال في الجسم وغيره ، وبالفتح ضد النفع وفسر السدّي الضر هنا بالسقم والخير بالعافية .

وقيل : الضر الفقر والخير الغنى والأحسن العموم في الضر من المرض والفقر وغير ذلك ، وفي الخير من الغنى والصحة وغير ذلك ، وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : « فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه » .

أخرجه الترمذي .

والذي يقابل الخير هو الشر وناب عنه هنا الضر وعدل عن الشر ، لأن الشر أعم من الضر فأتي بلفظ الضر الذي هو أخص وبلفظ الخير الذي هو عام مقابل لعام تغليباً لجهة الرحمة .

قال ابن عطية : ناب الضرّ هنا مناب الشر وإن كان الشر أعم منه ، فقابل الخير وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والضعة فإن باب التكلف في ترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضاهاة ، فمن ذلك { ألا تجوع فيها ولا تعرّى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } فجاء بالجوع مع العريّ وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس :

كأني لم أركب جواد اللذة *** ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال

ولم أسبا الزق الروى ولم *** أقل لخيلي كرى كرة بعد إجفال

انتهى .

والجامع في الآية بين الجوع والعريّ هو اشتراكهما في الخلو فالجوع خلو الباطن والعريّ خلو الظاهر وبين الظمأ والضحاء اشتراكهما في الاحتراق ، فالظما احتراق الباطن ألا ترى إلى قولهم برد الماء حرارة جوفي والضحاء احتراق الظاهر والجامع في البيت الأول بين الركوب للذة وهي الصيد وتبطن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والاقتناص والقهر والظفر بمثل هذا الركوب ، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة بالركب هو فعل بمعنى مفعول أي مركوب قال الراجز :

إن لها لركباً ارزباً *** كأنه جبهة ذرى حبا

وفي البيت الثاني بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل ؟ فشراء الخمر فيه بدل المال والرجوع بعد الانهزام فيه بذل الروح وما أحسن بعقل امرئ القيس في بيتيه ، حيث انتقل من الأدنى إلى الأعلى لأن الظفر بجنس الإنسان أعلى وأشرف من الظفر بغير الجنس ، ألا ترى أن تعلق النفس بالعشق أكثر من تعلقها بالصيد ولأن بذل الروح أعظم من بذل المال ، ومناسبة تقديم مس الضر على مس الخير ظاهرة لاتصاله بما قبله وهو الترهيب الدال عليه { قل إني أخاف } وما قبله وجاء جواب الأول بالحصر في قوله : { فلا كاشف له إلا هو } مبالغة في الاستقلال بكشفه وجاء جواب الثاني بقوله : { فهو على كل شيء قدير } دلالة على قدرته على كل شيء فيندرج فيه المس بخير أو غيره ، ولو قيل : إن الجواب محذوف لدلالة الأول عليه لكان وجهاً حسناً وتقديره فلا موصل له إليك إلا هو والأحسن تقديره ، فلا راد له للتصريح بما يشبهه في قوله وإن يردك بخير فلا راد لفضله ثم أتى بعد بما هو شامل للخير والشر ، وهو قدرته على كل شيء وفي قوله : { فلا كاشف له إلا هو } حذف تقديره فلا كاشف له عنك إلا هو .