المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

{ يمسسك } معناه يصبك وينلك ، وحقيقة المس هي بتلاقي جسمين فكأن الإنسان والضر يتماسان ، و «الضُّر » بضم الضاد سوء الحال في الجسم وغيره ، «والضَّر » بفتح الضاد ضد النفع ، وناب الضر في هذه الآية مناب الشر وإن كان الشر أعم منه مقابل الخير ، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة ، فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة ، فمن ذلك قوله تعالى : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }{[4845]} فجعل الجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَاداً لِلَذَّةٍ . . . وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِباً ذَاتَ خَلْخَالِ

وَلَمْ أسْبَإِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولمْ أقُلْ . . . لِخَيْلِيَ كُرِّي كُرَّةً بِعْدَ إجْفَالِ{[4846]}

وهذا كثير ، قال السدي «الضر » ها هنا المرض ، والخير العافية .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال ، ومعنى الآية الإخبار عن أن الأشياء كلها بيد الله ، إن ضر فلا كاشف لضره غيره ، وإن أصاب بخير فكذلك أيضاً لا راد له ولا مانع منه ، هذا تقرير الكلام ، ولكن وضع بدل هذا المقدر لفظاً أعم منه يستوعبه وغيره ، وهو قوله : { على كل شيء قدير } ودل ظاهر الكلام على المقدر فيه ، وقوله : { على كل شيء قدير } عموم أي على كل شيء جائز يوصف الله تعالى بالقدرة عليه .


[4845]:-الآيتان (118-119) من سورة (طه) – وقد قال بعض العلماء: إن الجامع بين الجوع والعري هو اشتراكهما في الخلو، فالجوع: خلو الباطن، والعري: خلو الظاهر، والجامع بين الظمأ والضحاء اشتراكهما في الاحتراق، فالظمأ، احتراق الباطن، ألا ترى إلى قولهم: برّد الماء حرارة جوفي؟ والضحاء: احتراق الظاهر، وانظر كيف بدأت الآية بخلو الباطن ثم ثنت بخلو الظاهر، ثم فعلت نفس الشيء في الاحتراق حيث بدأت باحتراق الباطن ثم ثنت باحتراق الظاهر.
[4846]:- ركوب الجواد يكون للذة الصيد، وقد يكون للمتعة بالركوب نفسه. والكاعب: الفتاة التي كعب ثديها، أي: برز ونهد فصار كالشيء المكعب المرتفع. والخلخال: حلية كالسوار تلبسها النساء في أرجلهن، وجمعه: خلاخيل، و"ذات خلخال": كناية عن المرأة التي تستعمل الحلي لأنها من بيت غني، أو لأنها تحب استعمال الزينة. وتبطن الكاعب: باشرها وجامعها، وقيل: تبطن: باشر بطنه بطنها. والزق: وعاء من جلد يجزّ شعره ولا ينتف للشراب وغيره، والجمع: أزقاق وزقاق، وسبأ الزق: اشترى خمرها ليشربها. والرّويّ: الكثير الخمر حتى يشبع. والكرّ: معاودة الهجوم على العدو بعد الفرار، والإجفال: الإسراع، مصدر أجفل بمعنى: مضى مسرعا. يتذكر امرؤ القيس في هذين البيتين شبابه وما كان فيه من لذات ونفع، ويتحسر على ذلك بعد أن كبرت سنه وتغيرت أحواله فيقول: لقد ذهب كل هذا فكأني لم أكن فارسا أتمتع بركوب الجياد وأسعي بها للصيد، ولم أتمتع بالكاعب المنعمة بالحلي، ولم أشتر الخمر لأشربها، ولم يكن مني كرّ على العدو بعد هزيمة أو فرار. هذا وقد قال بعض النقاد: كان من المنطقي أن يكون النصف الثاني من البيت الثاني مع النصف الأول من البيت الأول لأن الكلام فيهما عن الجياد وركوبها، ومن المعقول أن يكون الحديث عن الكرّ في المعركة مع الحديث عن ركوب الخيل للصيد، وكذلك من المنطقي أن يجمع بين الخمر والتمتع بالنساء فيجعل النصف الثاني من البيت الأول مع النصف الأول من البيت الثاني، ولكن امرأ القيس عدل عن ذلك إلى شيء آخر دل على براعة وحذق، فالجامع في البيت الأول بين الركوب للذة الفروسية أو لذة الصيد والركوب للذة المباشرة الجنسية هو اشتراكهما معا في لذة الاستعلاء والاقتناص والظفر والقهر والسيطرة على الفرس والصيد،، أو على المرأة والجامع في البيت الثاني بين شراء الخمر للشرب والكرّة بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل، فشراء الخمر فيه بذل للمال، والكرّ بعد الهزيمة فيه بذل للروح، ثم قالوا: وما أحسن تعقل امرئ القيس وتدرجه في بيته حيث انتقل من الأدنى إلى الأعلى لأن الظفر بجنس الإنسان (المرأة) أعلى وأشرف وأحب إلى الفرسان من الظفر بجنس الحيوان (الصيد) أو (الفرس) نفسه، ولأن بذل الروح أعظم من بذل المال.