اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

هذا دليل آخر في بَيَانِ أنه لا يجوز للعاقلِ أنْ يتّخذ ولياً غير الله .

و " الباء " في قوله : " بِضُرٍّ " للتعدية ، وكذلك في " بخير " ، والمعنى : وإن يمسك اللَّهُ الضُّرَ ، أي : يجعلك ماسّاً له ، وإذا مسست الضر فقد مَسَّك ، إلاَّ أن التَّعديَةَ بالباء في الفعل المُتَعَدِّي قليلةٌ جداً ، ومنه قولهم : " صَكَكْتُ أحَدَ الحجرين بالآخر " {[13415]} .

وقال أبو حيان{[13416]} : ومنها قوله تعالى { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [ البقرة :251 ] .

وقال الواحديُّ{[13417]} : - رحمه الله - : " إن قيل : إن المَسَّ من صِفَةِ الأجَسْامِ فكيف قال : وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ ؟

فالجواب " الباء " للتعدية ، والباء والألف يتعاقَبَانِ في التَّعديَةِ ، والمعنى : إن أمَسَّك اللَّهُ ضُرّاً ، أي : جعله مَاسَّك ، فالفعلُ للضُّرِّ ، وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسمِ اللَّهِ تعالى ، كقولك : " ذهبَ زيدٌ بعمرو " ، وكان الذَّهابُ فِعْلاً لعمرو ، غير أن زيداً هو المُسَبِّبُ له والحاملُ عليه ، كذلك هنا المسُّ للضُرِّ ، والله -تعالى- جعله مَاسّاً " .

قوله : " فلا كاشف له " : " له " : خبر " لا " ، وثمَّ مَحْذُوفٌ تقديره : فلا كاشف له عنك ، وهذا المحذوف لي متعلِّقاً ب " كاشف " ، إذ كان يلزمُ تنوينه وإعرابه ، بل يتعلَّق بمحذوف ، أي : أغنى عنه . و " إلاَّ هو " فيه وجهان :

أحدهما : أنه بدلٌ من مَحَلّ " لا كاشف " فإن مَحَلَّه الرفع على الابتداء .

والثاني : أنه بَدَلٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ في الخبرِ ، ولا يجوز أن يرتفع باسم الفاعل ، وهو " كاشف " ؛ لأنه مطوَّلاً [ ومتى كان مطوَّلاً ]{[13418]} أعْرِبَ نَصْباً ، وكذلك لا يجوز أن يكون بَدَلاً من الضمير المُسْتَكِنّ في " كاشف " للعلَّةِ المتقدّمة ؛ إذ البدلُ يحلُّ مَحَلُّ المبدل منه فإن قيل : المقابل للخير هو الشَّر ، فكيف عدل عن لَفْظِ الشَّرِّ ؟ والجواب أنه أراد تَغْلِيبَ الرحمة على ضِدِّهَا ، فأتى في جانب الشَّرِّ بأخَصَّ منه وهو الضُّرُّ ، وفي جانب الرَّحْمَةِ بالعام الذي هو الخَيْرُ تغليباً لهذا الجانب .

قال ابن عطية{[13419]} : نابَ الضُّرُ مَنَابَ الشَّرِّ ، وإن كان الشَّرُّ أعَمَّ منه ، فقابل الخير .

وهذا من الفصاحةِ عُدُولٌ عن قانون التكليف والصيغة ، فإن باب التكليف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مُقْترناً [ بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مُضاهاة فمن ذلك ]{[13420]}

{ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى } [ طه :118-119 ] فجاء بالجوع مع العُرْي ، وبابه أن يكون مع الظَّمَأ .

ومنه قوله امرئ القيس : [ الطويل ]

كَأنِّيَ لَمْ أرْكَبْ جَواداً لِلَذَّةٍ *** وَلَمْ أتَبَطَّنْ كَاعِباً ذَاتَ خَلْخَالِ

وَلَمْ أسْبإ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أقُلْ *** لِخَيْلِيَ كُرِّي كرَّةً بَعْدَ إجْفَالِ{[13421]}

ولم يوضّح ابن عطيَّة ذلك ، وإيضاحه في آية " طه " اشْتَرَاكُ الجوع والعُرْيِ في شيء خاص وهو الخلُوُّ ، فالجوع خُلُوُّ وفراغٌ من الباطن ، والعُرْيُ خُلُوٌّ وفراغٌ من الظَّاهرِ ، واشتراك الظَّمَأ والضَّحَى في الاحتراق ، فالظَّمَأُ احتراق في الباطن ، ولذلك تقول : " بَرَّدَ الماءُ حَرارةَ كبدي وأوام{[13422]} عطشي " .

والضَّحَى : احْتِرَاقُ الظَّاهر .

وأمَّا البيتان ، فالجامعُ بين الرُّكوب لِلذَّةِ وهو الصيد وتبطُّن الكَاعِب اشتراكهما في لَذ‍َّةِ الاسْتِعْلاءِ ، والقهر والاقْتِنَاصِ والظّفر بمثل هذا المركوب ، ألا ترى إلى تسميتهم هَنَ المرأة " رَكَباً " ، بفتح الراء والكاف ، وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كقوله : [ الرجز ]

إنَّ لَهَا لَرَكَباً إرْزَبَّا *** كَأنَّهُ جَبْهَةُ ذَرَّي حَبَّا{[13423]}

وأمَّا البيت الثاني فالجامعُ بين سَبَأ الخمر ، والرُّجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذْل ، فشراءُ الخَمْرِ بَذْلُ المال ، والرجوع بعد الانهزام بَذْلُ الروح .

وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضُّرِّ على مَسِّ الخير لمناسبة اتِّصالِ مسِّ الضُّرِّ بما قبله من التَّرْهيبِ المدلول عليه بقوله تعالى : " إنِّي أخَافُ " ، وجاء جواب الشَّرْط الأوَّل بالحَصْر إشارةً إلى اسْتِقلالِهِ بكشف الضُّرِّ دون غيره ، وجاء الثاني بقوله تعالى { فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ } إشارةً إلى قدرته الباهرة ، فيندرج فيها المَسُّ بخير وغيره ، على أنَّه لو قيل : إنَّ جواب الثاني مَحْذُوفٌ لكان وَجْهاً أي : وإن يمسسك بخيرٍ فلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ، للتصريح بمثله في موضع آخر .

فصل

روى ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال : " أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةٌ أهْدَاهَا لَهُ كِسْرَى ، فَرَكِبَهَا بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ ، ثُمَّ أرْدَفَنِي خَلْفَهُ ، ثُمَّ صَارَ بي مَلِيَّاً ، ثُمَّ الْتَفَتَ إليَّ وقال{[13424]} : يا غُلامُ فَقُلتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله فقال احْفَظِ اللَّهَ يَحْفظْكَ ، احَفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أمَامَكَ ، تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ، وإذا سَألْتَ فَأسْألِ اللَّهَ ، وإن اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللَّهِ ، فقَدْ مَضَى القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَوْ جَهِدَ الخلائِقُ علَى أنَّ يَنْفَعُوك بشيء لم{[13425]} يقضِهِ اللهُ سبحانه لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، ولوْ جَهِدُوا أنْ يَضُرُّوكَ عَمَّا لَمْ يَكْتُب اللهُ عَلَيْكَ ما قَدَرُوا عَلَيْهِ ، فإن اسْتَطَعْتَ أنْ تَعْمَلَ بالصَّبْرِ مَعَ اليَقيْنِ فافْعَلْ ، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ، فإنَّ في الصَّبْرِ على ما تَكْرَهُ خَيْرَاً كَثِيراً ، واعْلَمْ أنَّ النَّصْر مَعَ الصَّبْرِ ، وأنَّ مَعَ الكَرْبِ الفَرَجَ ، وأنَّ مَعَ العُسْر يسْراً " {[13426]} .


[13415]:ينظر: البحر المحيط 4/92 الدر المصون 3/25.
[13416]:ينظر: البحر المحيط 4/92.
[13417]:ينظر: الدر المصون 3/25.
[13418]:سقط في أ.
[13419]:ينظر: المحرر الوجيز 2/274، الدر المصون 3/25.
[13420]:سقط في أ.
[13421]:ينظر البيتان في ديوانه (35)، العمدة 1/259، الوساطة 195، حاشية الشيخ يس 1/220 والمحرر الوجيز 2/274 والبيت الأول في التصريح 1/112، التهذيب "نبط" الدر المصون 3/25.
[13422]:في ب: أروى.
[13423]:ينظر: جمهرة اللغة ص (308) شرح المفصل 1/28، الكتاب 3/326، لسان العرب (حبب)، (رزب)، ما ينصرف وما لا ينصرف ص (123)، مجالس ثعلب 1/202، المقتضب 4/9، الدر المصون 3/26.
[13424]:في ب: فقال.
[13425]:في ب: بما لا.
[13426]:أخرجه الحاكم (3/541) من حديث ابن عباس وقال: هذا حديث عال كبير. وله طريق آخر بلفظ مختصر عند الترمذي (2516) وقد تقدم تخريجه.