وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطىء عليهم . فالله سريع الحساب .
إن هذا التعليم الإلهي يحدد : لمن يكون الاتجاه . ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره ، وترك لله الخيرة ، ورضي بما يختاره له الله ، فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة . ومن جعل همه الدنيا فقد خسر في الآخرة كل نصيب . والأول رابح حتى بالحساب الظاهر . وهو في ميزان الله أربح وأرجح . وقد تضمن دعاؤه خير الدارين في اعتدال ، وفي استقامة على التصور الهاديء المتزن الذي ينشئه الإسلام .
إن الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا . فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا . ولكنه يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها ؛ وألا يضيقوا من آفاقهم ، فيجعلوا من الدنيا سورا يحصرهم فيها . . إنه يريد أن يطلق( الإنسان ) من أسوار هذه الأرض الصغيرة ؛ فيعمل فيها وهو أكبر منها ؛ ويزاول الخلافة وهو متصل بالأفق الأعلى . . ومن ثم تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ضئيلة هزيلة وحدها حين ينظر إليها الإنسان من قمة التصور الإسلامي . .
ولهذا مدح من يسأله للدنيا والأخرى ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار } فجمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا ، وصرَفت كلّ شر فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي ، من عافية ، ودار رحبة ، وزوجة حسنة ، ورزق واسع ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ومركب هنيء ، وثناء جميل ، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين ، ولا منافاة بينها ، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا . وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن{[3670]} من الفزع الأكبر في العَرَصات ، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة ، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا ، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام{[3671]} .
وقال القاسم بن{[3672]} عبد الرحمن : من أعطي قلبا شاكرًا ، ولسانًا ذاكرًا ، وجسدًا صابرًا ، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، ووقي عذاب النار .
ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء . فقال البخاري : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، عن عبد العزيز ، عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اللَّهم ربَّنا ، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " {[3673]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس{[3674]} قال : كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يقول ]{[3675]} : " اللهم ربَّنا ، آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار " {[3676]} .
[ وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه ]{[3677]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد السلام بن شداد - يعني أبا طالوت - قال : كنت عند أنس بن مالك ، فقال له ثابت : إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم . فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار . وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام ، قال{[3678]} : يا أبا حمزة ، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم فقال : تريدون أن أشَققَ لكم الأمور ، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله .
وقال أحمد أيضًا : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، [ وعبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا حميد ]{[3679]} عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رَجُلا من المسلمين قد صار مثل الفَرْخ . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدعو{[3680]} الله بشيء أو تسأله إيَّاه ؟ " قال : نعم ، كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ! لا تطيقه - أو لا تستطيعه - فهلا قلت : { رَبَّنَا{[3681]} آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } " . قال : فدعا الله ، فشفاه .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من حديث ابن أبي عدي - به{[3682]} .
وقال الإمام الشافعي : أخبرنا سعيد بن سالم القداح ، عن ابن جريج ، عن يحيى بن عبيد - مولى السائب - عن أبيه ، عن عبد الله بن السائب : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }{[3683]} . ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك .
وروى ابن ماجة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك . وفي سنده ضعف{[3684]} والله أعلم .
وقال ابن مَرْدويه : حدثنا عبد الباقي ، أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور ، حدثنا سعيد بن سليمان ، عن إبراهيم بن سليمان ، عن عبد الله بن هرمز ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكًا يقول : آمين . فإذا مررتم عليه فقولوا : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
وقال الحاكم في مستدركه : أخبرنا أبو زكريا العنبري ، حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا جرير ، عن الأعمش ، عن مُسْلم البطين ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رَجُل إلى ابن عباس فقال : إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني ، ووضعت لهم من أجرتي على أن يَدعُوني أحج معهم ، أفيجزي ذلك ؟ فقال : أنت من الذين قال الله [ فيهم ]{[3685]} : { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[3686]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولََئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
يعني بقوله جل ثناؤه : أولئك الذين يقولون بعد قضاء مناسكهم : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسنَةً وفي الاَخِرَة حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ رغبة منهم إلى الله جل ثناؤه فيما عنده ، وعلما منهم بأن الخير كله من عنده ، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء . فأعلم جل ثناؤه أن لهم نصيبا وحظا من حجهم ومناسكهم وثوابا جزيلاً على عملهم الذي كسبوه ، وباشروا معاناته بأموالهم وأنفسهم خاصا ذلك لهم دون الفريق الاَخر الذين عانوا ما عانوا من نصب أعمالهم وتعبها ، وتكلفوا ما تكلفوا من أسفارهم بغير رغبة منهم فيما عند ربهم من الأجر والثواب ، ولكن رجاء خسيس من عرض الدنيا وابتغاء عاجل حطامها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنيْا وَما لَه فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال : فهذا عبد نوى الدنيا لها عمل ولها نصب ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصيبٌ ممّما كَسَبُوا أي حظ من أعمالهم .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ إنما حجوا للدنيا والمسألة ، لا يريدون الاَخرة ولا يؤمنون بها ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ قال : فهؤلاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أُولَئِكَ لَهُمْ نَصيبٌ ممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسابِ لهؤلاء الأجر بما عملوا في الدنيا .
وأما قوله : وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسابِ فإنه يعني جل ثناؤه : أنه محيط بعمل الفريقين كليهما اللذين من مسألة أحدهما : ربنا آتنا في الدنيا ومن مسألة الاَخر : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاَخرة حسنة وقنا عذاب النار . فمحص له بأسرع الحساب ، ثم إنه مُجازٍ كلا الفريقين على عمله .
وإنما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الحساب ، لأنه جل ذكره يحصي ما يحصى من أعمال عباده بغير عقد أصابع ولا فكر ولا روية فعل العجزة الضعفة من الخلق ، ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما ، ثم هو مجاز عباده على كل ذلك فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الحساب ، وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمثل فيحتاج في حسابه إلى عقد كف أو وعي صدر .
{ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }( 202 )
وقوله تعالى : { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } الآية ، وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد( {[1905]} ) ، والرب تعالى سريع الحساب لأنه لا يحتاج إلى عقد ولا إلى إعمال فكر ، وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف يحاسب الله الخلائق في يوم ؟ فقال «كما يرزقهم في يوم » ، وقيل : الحساب هنا المجازاة ، كأن المجازي يعد أجزاء العمل ثم يجازي بمثلها( {[1906]} ) ، وقيل معنى الآية سريع مجيء يوم الحساب ، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة .
قوله : { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } إشارة إلى الفريق الثاني ، والنصيب : الحظ المعطى لأحد في خير أو شر قليلاً كان أو كثيراً ووزنه على صيغة فَعيل ، ولم أدر أصل اشتقاقه فلعلهم كانوا إذا عينوا الحظ لأحد ينصب له ويظهر ويشخص ، وهذا ظاهر كلام الزمخشري في « الأساس » والراغب في « مفردات القرآن » أو هو اسم جاء على هذه الصيغة ولم يقصد منه معنى فاعل ولا معنى مفعول ، وإطلاق النصيب على الشقص المشاع في قولهم نصيب الشفيع مجاز بالأول .
واعلم أنه وقع في « لسان العرب » في مادة ( كفل ) أنه لا يقال هذا نصيب فلان حتى يكون قد أعِد لغيره فإذا كان مفرداً فلا يقال نصيب وهذا غريب لم أره لغيره سوى أن الفخر نقل مثله عن ابن المظفر عند قوله تعالى : { يكن له كفل منها } في [ سورة النساء : 85 ] . ووقع في كلام الزجاج وابن عطية في تفسير قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرب والأنعام نصيباً } [ الأنعام : 136 ] قال الزجاج تقدير الكلام جعلوا لله نصيباً ولشركائهم نصيباً ، وقال ابن عطية قولهم جعل من كذا وكذا نصيباً يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول اهـ .
وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء المسلمين الداعين في تلك المواقف المباركة إلاّ أنه وعد بإجابة شيء مما دَعوا به بحسب ما تقتضيه أحوالهم وحكمة الله تعالى ، وبألا يجر إلى فساد عام لا يرضاه الله تعالى فلذلك نكر ( نصيب ) ليصدق بالقليل والكثير وأما إجابة الجميع إذا حصلت فهي أقوى وأحسن . وكسبوا بمعنى طلبوا ، لأن كسب بمعنى طلب ما يرغب فيه . ويجوز أن يراد بالكسب هنا العمل وبالنصيبِ نصيبُ الثواب فتكون ( من ) ابتدائية .
واسم الإشارة مشير إلى الناس الذين يقولون : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } للتنبيه باسم الإشارة على أن اتصافهم بما بعد اسم الإشارة شيء استحقوه بسبب الإخبار عنهم بما قبل اسم الإشارة ، أي إن الله استجاب لهم لأجل إيمانهم بالآخرة فيفهم منه أن دُعاء الكافرين في ضلال .
وقوله : { والله سريع الحساب } تذييل قصد به تحقيق الوعد بحصول الإجابة ، وزيادة تبشير لأهل ذلك الموقف ، لأن إجابة الدعاء فيه سريعة الحصول ، فعلم أن الحساب هنا أطلق على مراعاة العمل والجزاء عليه .
والحساب في الأصل العد ، ثم أطلق على عد الأشياء التي يراد الجزاء عليها أو قضاؤها ، فصار الحساب يطلق على الوفاء بالحق يقال حاسبه أي كافأه أو دفع إليه حقه ، ومنه سمي يوم القيامة يوم الحساب وقال تعالى : { إن حسابهم إلا على ربي } [ الشعراء : 113 ] وقال { جزاء من ربك عطاء حساباً } [ النبأ : 36 ] أي وفاقاً لأعمالهم ، وههنا أيضاً أريد به الوفاء بالوعد وإيصال الموعود به ، فاستفادة التبشير بسرعة حصول مطلوبهم بطريق العموم ؛ لأن إجابتهم من جملة حساب الله تعالى عباده على ما وَعدهم فيدخل في ذلك العموم .
والمعنى فإذا أتممتم أيها المسلمون مناسك حجكم فلا تنقطعوا عن أن تذكروا الله بتعظيمه وحمده ، وبالالتجاء إليه بالدعاء لتحصيل خير الدنيا وخير الآخرة ، ولا تشتغلوا بالتفاخر ، فإن ذكر الله خير من ذكركم آباءكم كما كنتم تذكرونهم بعد قضاء المناسك قبل الإسلام وكما يذكرهم المشركون الآن . ولا تكونوا كالذين لا يدعون إلاّ بطلب خير الدنيا ولا يتفكرون في الحياة الآخرة ، لأنهم ينكرون الحياة بعد الموت فإنكم إن سألتموه أعطاكم نصيباً مما سألتم في الدنيا وفي الآخرة إن الله يعجل باستجابة دعائكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال: {أولئك لهم نصيب مما كسبوا}: حظ من أعمالهم الحسنة،
{والله سريع الحساب}: كأنه قد كان، فهؤلاء المؤمنون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أولئك الذين يقولون بعد قضاء مناسكهم:"رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسنَةً وفي الآخِرَة حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ" رغبة منهم إلى الله جل ثناؤه فيما عنده، وعلما منهم بأن الخير كله من عنده، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء. فأعلم جل ثناؤه أن لهم نصيبا وحظا من حجهم ومناسكهم وثوابا جزيلاً على عملهم الذي كسبوه، وباشروا معاناته بأموالهم وأنفسهم خاصا ذلك لهم دون الفريق الآخر الذين عانوا ما عانوا من نصب أعمالهم وتعبها، وتكلفوا ما تكلفوا من أسفارهم بغير رغبة منهم فيما عند ربهم من الأجر والثواب، ولكن رجاء خسيس من عرض الدنيا وابتغاء عاجل حطامها... "وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ": فهؤلاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أُولَئِكَ لَهُمْ نَصيبٌ ممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسابِ لهؤلاء الأجر بما عملوا في الدنيا.
"وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسابِ": يعني جل ثناؤه أنه محيط بعمل الفريقين كليهما اللذين من مسألة أحدهما: "ربنا آتنا في الدنيا "ومن مسألة الآخر: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، فمحص له بأسرع الحساب، ثم إنه مُجازٍ كلا الفريقين على عمله.
وإنما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الحساب، لأنه جل ذكره يحصي ما يحصى من أعمال عباده بغير عقد أصابع ولا فكر ولا روية فعل العجزة الضعفة من الخلق، ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما، ثم هو مجاز عباده على كل ذلك فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الحساب، وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمثل فيحتاج في حسابه إلى عقد كف أو وعي صدر.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
فمعنى الحساب تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما نسوه من ذلك، يدلّ عليه قوله {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{والله سريع الحساب}: إذا حاسب عبده فحسابه سريع لا يحتاج إلى أداة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أولئك} الداعون بالحسنتين {لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ} أي نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. أو من أجل ما كسبوا، كقوله: {مما خطيئاتهم أغرقوا} [نوح: 25]. أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم [منه] ما يستوجبونه بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة. وسمى الدعاء كسباً لأنه من الأعمال، والأعمال موصوفة بالكسب: بما كسبت أيديكم. ويجوز أن يكون (أولئك) للفريقين جميعاً، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا.
{والله سَرِيعُ الحساب}: يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد. فبادروا بإكثار الذكر وطلب الآخرة، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه. روي: أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة. وروى في مقدار فواق ناقة. وروي في مقدار لمحة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقيل: الحساب هنا المجازاة، كأن المجازي يعد أجزاء العمل ثم يجازي بمثلها، وقيل معنى الآية سريع مجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هؤلاء على منهاج الرسل لأنهم عبدوا الله أولاً كما أشار إليه السياق فانكسرت نفوسهم ثم ذكروه على تلك المراتب الثلاث فنارت قلوبهم بتجلي نور جلاله سبحانه وتعالى فتأهلوا بذلك للدعاء فكان دعاؤهم كاملاً، كما فعل الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {الذي خلقني فهو يهدين} [الشعراء: 78] الآيات حتى قال {رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين} [الشعراء: 83] فقدم الذكر على الدعاء وكما هدى إليه آخر آل عمران في قوله: {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا} [آل عمران: 193] الآيات، فقدموا الطاعة، عظم شأنهم بقوله على سبيل الاستئناف جامعاً على معنى من بشارة بكثرة الناجي في هذه الأمة أو يكون الجمع لعظم صفاتهم: {أولئك} أي العالو المراتب العظيمو المطالب {لهم} أي هذا القسم فقط لأن الأول قد أخبر أن الأمر عليه لا له.
ولما كان غالب أفعال العباد على غير السداد وأقل ما فيها أن تكون خالية عن نية حسنة قال مشيراً إلى ذلك: {نصيب} وهو اسم للحظ الذي أتت عليه القسمة بين جماعة، كائن {مما} لو قال: طلبوا -مثلاً، لم يعم جميع أفعالهم؛ ولو قال: فعلوا، لظُن خروج القول فعدل إلى قوله: {كسبوا} أي طلبوا وأصابوا وتصرفوا واجتهدوا فيه وجمعوا من خلاصة أعمالهم القولية والفعلية ومنها الاعتقادية وهو ما أخلصوا فيه فهو الذي يثابون عليه وهو قليل بالنسبة إلى باقي أعمالهم.
ولما كان أسرع الناس حساباً أعلمهم بفنونه خطأ وصواباً و كان التقدير: فالله عالم بخفي أعمالهم وجليها وتمييز جيدها من رديئها فهو يجازيهم على حسب ذلك عطف عليه قوله: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {سريع الحساب} وهو أحصى الأعمال وبيان ما يجب لكل منها الجزاء واتصاله إلى العامل لما له من سعة العلم وشمول القدرة، قيل لبعضهم: كيف يحاسب الله الخلق في وقت واحد؟ قال: كما يرزقهم في وقت واحد، وفيه ترغيب بأنه لا ينسى عملاً، وترهيب بأنّه لا يمشي عليه باطل ولا يقدر على مدافعته مطاول.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بينت الآية صريحا أنهم يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم، وهذا نص فيما تقدم من معنى الدعاء وأنه لا بد أن يكون طلب اللسان مطابقا لما في النفس من الشعور بالحاجة إلى الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب والسعي في الطرق التي مضت بها سنة الله تعالى، ولهذا قال {مما كسبوا} ولم يقل لهم ما طلبوا، والمعنى أنهم لما كانوا يطلبون الدنيا بأسبابها ويسعون للآخرة سعيها، كان لهم حظ من كسبهم هذا في الدارين على قدره.
{والله سريع الحساب} يوفي كل كاسب أجره عقب عمله بحسبه لأن سنته مضت بأن تكون الرغائب آثار الأعمال، فهو يوفي كل عامل عمله بلا إبطاء، وكما يكون الجزاء سريعا في الدنيا كذلك يكون في الآخرة، فإن أثر الأعمال الصالحة يظهر للمرء عقب الموت وهو أول قدم يضعها في باب عالم الآخرة. وهذا أحسن بيان لما قالوه في تفسير {سريع الحساب} من أنه إجابة الدعاء. والأكثرون على أن المراد حساب الآخرة، واختلفوا في كيفية ذلك على أقوال أقربها إلى التصور أن سرعة الحساب عبارة عن اطلاع كل عامل على علمه أو إعلامه بما له مما كسب، وما عليه مما اكتسب، وذلك يتم في لحظة، وقد ورد أن الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وورد في قدر فواق الناقة، وورد بمقدار لمحة البصر.
(أقول) هذا ما كنت كتبته في تفسير الآية بالمعنى الذي قرره شيخنا (رح) من كون النصيب فيها شاملا لجزاء هذا الفريق في الدنيا والآخرة معا وطبع في حياته، ثم فكرت في التعبير عنه بمن التبعيضية (مما كسبوا) والحال أن جزاء الآخرة يضاعف، وأن الدنيا هي التي لا ينال الناس فيها كل ما يطلبون بكسبهم ولا دعائهم وفاقا لاستشهادي عليه آنفا بآيات سورة الإسراء {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} (الإسراء: 18) فرجح عندي أن المراد هنا بالنصيب من الكسب ما يكون في الدنيا وأشار إلى جزاء الآخرة بسرعة الحساب الذي يكون الجزاء في أثره وهو ما حكيته عن الجمهور.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم. فالله سريع الحساب... إن هذا التعليم الإلهي يحدد: لمن يكون الاتجاه. ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره، وترك لله الخيرة، ورضي بما يختاره له الله، فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة. ومن جعل همه الدنيا فقد خسر في الآخرة كل نصيب. والأول رابح حتى بالحساب الظاهر. وهو في ميزان الله أربح وأرجح. وقد تضمن دعاؤه خير الدارين في اعتدال، وفي استقامة على التصور الهادئ المتزن الذي ينشئه الإسلام. إن الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا. فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا. ولكنه يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها؛ وألا يضيقوا من آفاقهم، فيجعلوا من الدنيا سورا يحصرهم فيها.. إنه يريد أن يطلق (الإنسان) من أسوار هذه الأرض الصغيرة؛ فيعمل فيها وهو أكبر منها؛ ويزاول الخلافة وهو متصل بالأفق الأعلى.. ومن ثم تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ضئيلة هزيلة وحدها حين ينظر إليها الإنسان من قمة التصور الإسلامي...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي هذا التعبير الذي يفيد أن النصيب مأخوذ مما كسبوه من أعمال إشارة إلى أمور ثلاثة:
أولها: إن هؤلاء الذين دعوا ربهم بالتوفيق لابد أن يقرن دعاؤهم بإرادة قوية عاملة متجهة إلى تحقيق ما يبغون وما يدعون الله سبحانه وتعالى في التوفيق له، وإن لم يكن عمل فالدعاء أمان وأحلام، ولا يتحقق فيها القصد الكامل والضراعة الخاشعة لرب العالمين، لأن الدعاء مخ العبادة، فإن كان صادقا فالإرادة تتجه نحوه.
الأمر الثاني: الذي يشير إليه التعبير الكريم: أن الجزاء ليس على الدعاء، وإنما الجزاء على العمل، فيجب أن يعملوا، فليس الدعاء وحده بمستحق جزاء إن كان العمل ينافيه.
الأمر الثالث: أن كسب العبد لعمل الخير يطوي في ثناياه جزاءه، وكذلك كل عمل الإنسان جزاؤه مشتق من منهاجه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فمن أسدى للناس معروفا، فقد قدم بهذا الإسداء لنفسه، ومن أعان مكروبا، فقد كسب الجزاء ساعة عمل، وكذلك من قتل نفسا، فقد قتل نفسه إذ استحق ذلك الجزاء، ومن سرق فقد قطع يده، ومن زنى فقد رجم نفسه،و هكذا "كل امرئ بما كسب رهين "(الطور).