في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مُبَوَّأَ صِدۡقٖ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ فَمَا ٱخۡتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (93)

71

ويسدل الستار على المشهد النهائي في المأساة . مأساة البغي والفساد والتحدي والعصيان . . ويعقب السياق بلمحة سريعة عن مآل بني إسرائيل بعدها ، تستغرق ما حدث في أجيال :

( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ، ورزقناهم من الطيبات ، فما اختلفوا حتى جاءهم العلم . إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . .

والمبوأ : مكان الإقامة الأمين . وإضافته إلى الصدق تزيده أماناً وثباتاً واستقراراً كثبات الصدق الذي لا يضطرب ولا يتزعزع اضطراب الكذب وتزعزع الافتراء . ولقد طاب المقام فترة لبني إسرائيل بعد تجارب طويلة ، لا يذكرها السياق هنا لأنها ليست من مقاصده ، وتمتعوا بطيبات من الرزق حلال ، حتى فسقوا عن أمر اللّه فحرمت عليهم . والسياق لا يذكر هنا إلا اختلافهم بعد وفاق . اختلافهم في دينهم ودنياهم ، لا على جهل ولكن بعد أن جاءهم العلم ، وبسبب هذا العلم ، واستخدامه في التأويلات الباطلة .

ولما كان المقام هنا مقام نصرة الإيمان وخذلان الطغيان ، فإن السياق لا يطيل في عرض ما وقع بعد ذلك من بني إسرائيل ، ولا يفصل خلافهم بعد ما جاءهم العلم . ولكن يطوي هذه الصفحة ، ويكلها بما فيها للّه في يوم القيامة :

( إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . .

فيبقى للقصة جلالها ، ويظل للمشهد الأخير تأثيره . .

وهكذا ندرك لماذا يساق القصص القرآني ، وكيف يساق في كل موضع من مواضعه . فليس هو مجرد حكايات تروى ، ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديراً .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مُبَوَّأَ صِدۡقٖ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ فَمَا ٱخۡتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (93)

يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية ف { مُبَوَّأَ صِدْقٍ } {[14407]} قيل : هو بلاد مصر والشام ، مما يلي بيت المقدس ونواحيه ، فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها ، كما قال الله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] وقال في الآية الأخرى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 57 - 59 ]{[14408]} ولكن استمروا مع موسى ، عليه السلام ، طالبين إلى بلاد بيت المقدس [ وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس ]{[14409]} وكان فيه قوم من العمالقة ، [ فنكل بنو إسرائيل عن قتال العمالقة ]{[14410]} فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة ، ومات فيه{[14411]} هارون ، ثم ، موسى ، عليهما السلام ، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون ، ففتح الله عليهم بيت المقدس ، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من الدهر ، ثم عادت إليهم ، ثم أخذها ملوك اليونان ، وكانت تحت أحكامهم{[14412]} مدة طويلة ، وبعث الله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، في تلك المدة ، فاستعانت اليهود - قبحهم{[14413]} الله - على معاداة عيسى ، عليه السلام ، بملوك اليونان ، وكانت تحت أحكامهم ، ووشوا عندهم ، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا{[14414]} من يقبض عليه ، فرفعه الله إليه ، وشُبّه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره{[14415]} فأخذوه فصلبوه ، واعتقدوا أنه هو ، { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [ النساء : 157 ، 158 ] ثم بعد المسيح ، عليه السلام بنحو [ من ]{[14416]} ثلثمائة سنة ، دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان - في دين النصرانية ، وكان فيلسوفا قبل ذلك . فدخل في دين النصارى قيل : تقية ، وقيل : حيلة ليفسده ، فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة وبدعًا أحدثوها ، فبنى لهم الكنائس والبيَع الكبار والصغار ، والصوامع والهياكل ، والمعابد ، والقلايات . وانتشر دين النصرانية{[14417]} في ذلك الزمان ، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف ، ووضع وكذب ، ومخالفة لدين المسيح . ولم يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل من الرهبان ، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه والقفار ، واستحوذت يدُ النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم ، وبنى هذا الملك المذكور مدينة قسطنطينية ، والقُمَامة ، وبيت لحم ، وكنائس [ بلاد ]{[14418]} بيت المقدس ، ومدن حَوْران كبُصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة ، وعبدوا الصليب من حينئذ ، وصلوا إلى الشرق ، وصوروا الكنائس ، وأحلوا لحم الخنزير ، وغير ذلك مما أحدثوه من{[14419]} الفروع في دينهم والأصول ، ووضعوا له الأمانة الحقيرة ، التي يسمونها الكبيرة ، وصنفوا له القوانين ،

وبسط هذا يطول .

والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها{[14420]} منهم الصحابة ، رضي الله عنهم ، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، ولله الحمد والمنة .

وقوله : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : الحلال ، من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا .

وقوله : { فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } أي : ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم ، أي : ولم يكن لهم أن يختلفوا ، وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس . وقد ورد في

الحديث : أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، منها واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار . قيل : من هم{[14421]} يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .

رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ ، وهو في السنن والمسانيد{[14422]} ولهذا قال الله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } أي : يفصل بينهم { يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }


[14407]:- في ت : "فالمبوأ".
[14408]:- في ت ، أ : "كم تركوا من جنات وعيون وزروع".
[14409]:- زيادة من ت ، أ.
[14410]:- زيادة من ت ، أ.
[14411]:- في ت ، أ : "في أثنائها".
[14412]:- في أ : "حكامهم".
[14413]:- في أ : "لعنهم".
[14414]:- في ت : "فعثوا".
[14415]:- في أ : "وقدرته".
[14416]:- زيادة من ت ، أ.
[14417]:- في أ : "النصارى".
[14418]:- زيادة من ت ، أ.
[14419]:- في أ : "في".
[14420]:- في ت : "انتزعتها".
[14421]:- في ت : "من هو".
[14422]:- المستدرك (1/129) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وجاء من حديث معاوية وأنس وعوف بن مالك قال العراقي : "أسانيدها جياد".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مُبَوَّأَ صِدۡقٖ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ فَمَا ٱخۡتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (93)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلَقَدْ بَوّأْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ مُبَوّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتّىَ جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنّ رَبّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .

يقول تعالى ذكره : ولقد أنزلنا بني إسرائيل منازل صدق . قيل : عنى بذلك الشأم وبيت المقدس .

وقيل : عنى به الشام ومصر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي وأبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : مُبَوّأ صِدْقٍ قال : منازل صدق : مصر والشام .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مُبَوّأ صِدْقٍ قال : بوأهم الله الشام وبيت المقدس .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَلَقَدْ بَوّأنا بني إسْرَائِيلَ مُبَوّأ صِدْقٍ الشام . وقرأ : إلى الأرْض التي بارَكْنا فِيها للعَالَمِينَ .

وقوله : وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطّيّباتِ يقول : ورزقنا بني إسرائيل من حلال الرزق وهو الطيب .

وقوله : فَمَا اخْتَلَفُوا حتى جاءَهُمُ العِلْمُ يقول جلّ ثناؤه : فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل ، حتى جاءهم ما كانوا به عالمين وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوّة محمد والإقرار به وبمبعثه غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم ، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم وآمن به بعضهم ، والمؤمنون به منهم كانوا عددا قليلاً ، فذلك قوله : فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه نبيّا لله ، فوضع العلم مكان المعلوم .

وكان بعضهم يتأوّل العلم ههنا كتاب الله ووحيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَمَا اخْتَلَفُوا حتى جاءَهُمُ العِلُمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ قال : العلم : كتاب الله الذي أنزله وأمره الذي أمرهم به ، وهل اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيا بينهم أهل هذه الأهواء ، هل اقتتلوا إلا على البغي ؟ قال : والبغي وجهان : وجه النفاسة في الدنيا ومن اقتتل عليها من أهلها ، وبغى في العلم يرى هذا جاهلاً مخطئا ويرى نفسه مصيبا عالما ، فيبغي بإصابته وعلمه على هذا المخطىء .

وقوله : إنّ رَبّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا محمد يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل فيك يوم القيامة فيما كانوا فيه من أمري في الدنيا يختلفون ، بأن يدخل المكذّبين بك منهم النار والمؤمنين بك منهم الجنة . فذلك قضاؤه يومئذ فيما كانوا يختلفون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مُبَوَّأَ صِدۡقٖ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ فَمَا ٱخۡتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (93)

المعنى لقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار وحللناهم من الأماكن أحسن محل ، و { مبوأ صدق } أي يصدق فيه ظن قاصده وساكنه وأهله ، ويعني بهذه الآية إحلال بلاد الشام وبيت المقدس ، قاله قتادة وابن زيد ، وقيل بلاد مصر والشام ، قاله الضحاك ، والأول أصح بحسب ما حفظ من أنهم لن يعودوا إلى مصر ، على أن القرآن كذلك { وأورثناها بني إسرائيل }{[6227]} يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك ، وقد يحتمل أن يكون { أورثناها } [ الشعراء : 59 ] معناه الحالة من النعمة وإن لم يكن في قطر واحد ، وقوله { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } يحتمل معنيين أحدهما فما اختلفوا في نبوة محمد وانتظاره حتى جاءهم وبان علمه وأمره فاختلفوا حينئذ .

قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين ، وهذا التأويل يحتاج إلى سند والتأويل الآخر الذي يحتمله اللفظ أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرق فرعون اختلفوا .

قال القاضي أبو محمد : فمعنى الآية مذمة ذلك الصدر من بني إسرائيل ، ثم أوجب الله بعد ذلك أنه { يقضي بينهم } ويفصل بعقاب من يعاقب ورحمة من يرحم .


[6227]:- من الآية (59) من سورة (الشعراء).