فأما الذين يصرون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة ، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به ، بزيادة وتفصيل وتوكيد :
( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار . أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) . .
ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم ذلك الباب المفتوح ، وتركوا الفرصة تفلت ، والمهلة تنقضي ، وأصروا على الكتمان والكفر والضلال : ( أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) . . فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون !
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحالُ إلى مماته بأن { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا } أي : في اللعنة التابعة{[3019]} لهم إلى يوم القيامة{[3020]} ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } فيها ، أي : لا ينقص عَمَّا هم فيه { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : لا يغير{[3021]} عنهم ساعة واحدة ، ولا يفتَّر ، بل هو متواصل دائم ، فنعوذ بالله من ذلك .
وقال أبو العالية وقتادة : إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون .
فصل : لا خلاف في جواز لعن الكفار ، وقد كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وعمن بعده من الأئمة ، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره ؛ فأما الكافر المعين ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم له ، واستدل بعضهم بهذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وقالت طائفة أخرى : بل يجوز لعن الكافر المعين . واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف ، واستدل غيره بقوله ، عليه السلام ، في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده ، فقال رجل : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " {[3022]} قالوا : فعلَّة المنع من لعنه ؛ بأنه يحب الله ورسوله فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا إن الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به من اليهود والنصارى ، وسائر أهل الملل والمشركين من عبدة الأوثان ، وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ يعني وماتوا وهم على جحودهم ذلك وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم أولئك عليهم لعنة الله والملائكة ، يعني : فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم لعنة الله يقول : أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته ، والمَلاَئِكَة يعني ولعنهم الملائكة والناس أجمعون . ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم : عليهم لعنة الله ، وقد بينا معنى اللعنة فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
فإن قال قائل : وكيف تكون على الذي يموت كافرا بمحمد صلى الله عليه وسلم من أصناف الأمم ، وأكثرهم ممن لا يؤمن به ويصدقه ؟ قيل : إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبت إليه .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عنى الله بقوله : وَالنّاسِ أجْمَعِينَ أهل الإيمان به وبرسوله خاصة دون سائر البشر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَالنّاسِ أجْمَعِينَ يعني بالناس أجمعين : المؤمنين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَالنّاسِ أجْمَعِينَ يعني بالناس أجمعين : المؤمنين .
وقال آخرون : بل ذلك يوم القيامة يوقف على رؤوس الأشهاد الكافر فيلعنه الناس كلهم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : أن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون .
وقال آخرون : بل ذلك قول القائل كائنا من كان : لعن الله الظالم ، فيلحق ذلك كل كافر لأنه من الظلمة . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أجْمَعِينَ ، فإنه لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما : لعن الله الظالم إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر لأنه ظالم ، فكل أحد من الخلق يلعنه .
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا قول من قال : عنى الله بذلك جميع الناس بمعنى لعنهم إياهم بقولهم : لعن الله الظالم أو الظالمين ، فإن كل أحد من بني آدم لا يمنع من قيل ذلك كائنا من كان ، ومن أيّ أهل ملة كان ، فيدخل بذلك في لعنته كل كافر كائنا من كان . وذلك بمعنى ما قاله أبو العالية ، لأن الله تعالى ذكره أخبر عمن شهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم ، فقال : فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَىَ اللّهِ كَذِبا أُولَئِكَ يُعْرضُونَ عَلَىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاَء الّذِينَ كَذَبُوا عَلَىَ رَبّهِمْ ألاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَىَ الظّالِمِينَ .
وأما ما قاله قتادة من أنه عنى به بعض الناس ، فقول ظاهر التنزيل بخلافه ، ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر . فإن كان ظنّ أن المعنيّ به المؤمنون من أجل أن الكفار لا يلعنون أنفسهم ولا أولياءهم ، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم يلعنونهم في الاَخرة ، ومعلوم منهم أنهم يلعنون الظلمة ، وداخل في الظلمة كل كافر بظلمه نفسه ، وجحوده نعمة ربه ، ومخالفته أمره .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 161 )
قوله تعالى : { إن الذين كفروا } الاية ، محكمة في الذين وافوا( {[1482]} ) على كفرهم ، واختلف في معنى قوله { والناس أجمعين } وهم لا يلعنون أنفسهم ، فقال قتادة والربيع : المراد { بالناس } المؤمنون خاصة ، وقال أبو العالية : معنى ذلك في الآخرة ، وذلك أن الكفرة يلعنون( {[1483]} ) أنفسهم يوم القيامة ، وقالت فرقة : معنى ذلك أن الكفرة يقولون في الدنيا : لعن الله الكافرين ، فيلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «والملائكة والناس أجمعون » بالرفع على تقدير أولئك يلعنهم الله( {[1484]} ) ، واللعنة في هذه الآية تقتضي العذاب( {[1485]} ) ، فلذلك قال { خالدين فيها }