في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

( ومريم ابنة عمران ) . . إنها كذلك مثل للتجرد لله منذ نشأتها التي قصها الله في سور أخرى . ويذكر هنا تطهرها : ( التي أحصنت فرجها ) . . يبرئها مما رمتها به يهود الفاجرة ! ( فنفخنا فيه من روحنا ) . ومن هذه النفخة كان عيسى عليه السلام ، كما هو مفصل في السورة المفصلة لهذا المولد " سورة مريم " فلا نستطرد معه هنا تمشيا مع ظل النص الحاضر ، الذي يستهدف تصوير طهارة مريم وإيمانها الكامل وطاعتها : ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) . .

وإفراد امرأة فرعون بالذكر هنا مع مريم ابنة عمران يدل على المكانة العالية التي جعلتها قرينة مريم في الذكر . بسبب ملابسات حياتها التي أشرنا إليها . وهما الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة يضربهما الله لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة ، ويضربهما للمؤمنات من بعد في كل جيل . .

ختام السورة:

وأخيرا فإن هذه السورة - وهذا الجزء كله - قطعة حية من السيرة ، رسمها القرآن بأسلوبه الموحي . لا تملك روايات البشر التاريخية عن تلك الفترة أن ترسمها . فالتعبير القرآني أكثر إيحاء ، وأبعد آمادا ، وهو يستخدم الحادثة المفردة لتصوير الحقيقة المجردة ، الباقية وراء الحادثة ووراء الزمان والمكان . . كما هو شأن القرآن . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

وقوله : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي حفظته وصانته . والإحصان : هو العفاف والحرية ، { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } أي : بواسطة المَلَك ، وهو جبريل ، فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سَوي ، وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها ، فنزلت النفخة فولجت في فرجها ، فكان منه الحمل بعيسى ، عليه السلام . ولهذا قال : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } أي : بقدره وشرعه { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }

قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن عِلْباء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : خَطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط ، وقال : " أتدرون ما هذا ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " {[29089]} .

وثبت في الصحيحين من حديث شعبة ، عن عمرو بن مُرَة ، عن مرة الهمداني ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كَمُلَ من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خُوَيلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام " {[29090]} .

وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، في كتابنا " البداية والنهاية " ولله الحمد والمنة{[29091]} وذكرنا ما ورد من الحديث من أنها تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه ، عليه السلام ، في الجنة عند قوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }


[29089]:- (2) المسند (1/293) وقال الهيثمي في المجمع (9/223): "رجاله رجال الصحيح".
[29090]:- (3) صحيح البخاري برقم (5418) وصحيح مسلم برقم (2431).
[29091]:- (4) البداية والنهاية (2/55 - 85).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا وَصَدّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } .

يقول تعالى ذكره : وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها يقول : التي منعت جيب درعها جبريل عليه السلام ، وكلّ ما كان في الدرع من خرق أو فتق ، فإنه يسمى فَرْجا ، وكذلك كلّ صدع وشقّ في حائط ، أو فرج سقف فهو فرج .

وقوله : فَنَفَخْنا فِيهِ منْ رُوحِنا يقول : فنفخنا فيه في جيب درعها ، وذلك فرجها ، من روحنا من جبرئيل ، وهو الروح . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا فنفخنا في جيبها من روحنا .

وَصَدّقَتْ بِكَلِماتِ رَبّها يقول : آمنت بعيسى ، وهو كلمة الله وكُتُبِهِ يعني التوراة والإنجيل وكانَتْ مِنَ القانِتِينَ يقول : وكانت من القوم المطيعين . كما :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة منَ القانِتِينَ من المطيعين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

واختلف الناس في الفرج الذي أحصنت مريم ، فقال الجمهور : هو فرج الدرع الذي كان عليها ، وأنها كانت صينة ، وأن جبريل عليه السلام : نفخ فيها الروح من جيب الدرع ، وقال قوم من المتأولين : هو الفرج الجارحة ، فلفظة { أحصنت } : إذا كان فرج الجارحة متمكناً حقيقة ، والإحصان : صونه ، وفيه هي مستعملة ، وإذا قدرنا فرج الدرع فلفظ { أحصنت } فيه مستعارة من حيث صانته ، ومن حيث صار مسلكاً لولدها ، وقوله تعالى : { فنفخنا } عبارة عن فعل جبريل حقيقة ، وإن ذهب ذاهب إلى أن النفخ فعل الله تعالى ، فهو عبارة عن خلقه واختراعه الولد في بطنها ، وشبه ذلك بالنفخ الذي من شأنه أن يسير في الشيء برفق ولطف . وقوله تعالى : { من روحنا } إضافة المخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك كما تقول : بيت الله وناقة الله ، وكذلك الروح الجنس كله هو روح الله . وقرأ الجمهور : «وصدّقت » بشد الدال ، وقرأ أبو مجلز : بتخفيفها ، وقرأ جمهور الناس : «بكلمات » على الجمع ، وقرأ الجحدري : «بكلمة » على الإفراد ، فأما الإفراد فيقوي : أن يريد أمر عيسى ويحتمل أن يريد أنه اسم جنس في التوراة ، ومن قرأ على الجمع فيقوي أنه يريد التوراة ، ويحتمل أن يريد أمر عيسى . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ونافع : «وكتابه » على الوحيد ، وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ، وخارجة عن نافع : «وكُتُبه » بضم التاء والجمع ، وقرأ أبو رجاء بسكون التاء «وكتْبه » ، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل ، والقانتون : العابدون ، والمعنى كانت من القوم { القانتين } في عبادتها وحال دينها .

( كمل تفسير سورة التحريم والحمد لله كثيراً ) .