وإلى الله قياد السماوات والأرض . فهو يصرفها وفق ما يريد ؛ وهي تسير وفق نظامه الذي قدره ؛ وما تتدخل إرادة غير إرادته في تصريفها ، على ما تشهد الفطرة ، وينطق الواقع ، ويقر العقل والضمير .
( والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ) . .
خسروا الإدراك الذي يجعل حياتهم في الأرض متسقة مع حياة الكون كله ؛ وخسروا راحة الهدى وجمال الإيمان وطمأنينة الاعتقاد وحلاوة اليقين . وخسروا في الآخرة أنفسهم وأهليهم . فهم الخاسرون الذين ينطبق عليهم لفظ( الخاسرون ) !
وقوله : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } ، قال مجاهد : المقاليد هي : المفاتيح بالفارسية . وكذا قال قتادة ، وابن زيد ، وسفيان ابن عيينة .
وقال السدي : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خزائن السموات والأرض .
والمعنى على كلا القولين : أن أزمَّة الأمور بيده ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ؛ ولهذا قال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ } أي : حججه وبراهينه { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبا جدًا - وفي صحته نظر - ولكن{[25245]} نذكره كما ذكره ، فإنه قال :
حدثنا يزيد{[25246]} بن سِنان البصري بمصر ، حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا الأغلب بن تميم ، عن مخلد بن هذيل العبدي ، عن عبد الرحمن المدني ، عن عبد الله بن عمر ، عن عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } فقال : " ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان " ، قال : " تفسيرها : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، أستغفر الله ، ولا قوة إلا بالله ، الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر مرار أعطي خصالا ستا : أما أولاهن : فيحرس من إبليس وجنوده ، وأما الثانية : فيعطى قنطارا من الأجر ، وأما الثالثة : فترفع{[25247]} له درجة في الجنة ، وأما الرابعة : فيتزوج من الحور العين ، وأما الخامسة : فيحضره{[25248]} اثنا عشر ملكا ، وأما السادسة : فيعطى من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور . وله مع هذا يا عثمان من الأجر كمن حج وتقبلت حجته ، واعتمر فتقبلت عمرته ، فإن مات من يومه طبع بطابع الشهداء " .
ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد ، به مثله{[25249]} . وهو غريب ، وفيه نكارة شديدة ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : له مفاتيح خزائن السموات والأرض ، يفتح منها على من يشاء ، ويمسكها عمن أحب من خلقه واحدها : مقليد . وأما الإقليد : فواحد الأقاليد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مفاتيحها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ أي مفاتيح السموات والأرض .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خزائن السموات والأرض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : المقاليد : المفاتيح ، قال : له مفاتيح خزائن السموات والأرض .
وقوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ يقول تعالى ذكره : والذين كفروا بحجج الله فكذبوا بها وأنكروها ، أولئك هم المغبونون حظوظهم من خير السموات التي بيده مفاتيحها ، لأنهم حرموا ذلك كله في الاَخرة بخلودهم في النار ، وفي الدنيا بخذلانهم عن الإيمان بالله عزّ وجلّ .
{ له مقاليد السموات والأرض } لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره ، وهو كنايه عن قدرته وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاختصاص ، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها ، وهو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته ، وقيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير . وعن عثمان رضي الله عنه : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد فقال " تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير " والمعنى على هذا إن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها أصابه . { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } متصل بقوله { وينجي الله الذين اتقوا } وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها ، وتغيير النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله وفي هلاك الكافرين أن خسروا أنفسهم ، وللتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية للكرم أو بما يليه ، والمراد بآيات الله دلائل قدرته واستبداده بأمر السموات والأرض ، أو كلمات توحيده وتمجيده وتخصيص الخسار بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب .
وقال عثمان رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن { مقاليد السماوات والأرض } فقال : «لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول لا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير »{[9928]} .
الجملة الثالثة : { لَهُ مقَاليدُ السمواتِ والأرض } وجيء بها مفصولة لأنها تفيد بيان الجملة التي قبلها فإن الوكيل على شيء يكون هو المتصرف في العطاء والمنع .
والمقاليد : جمع إِقليد بكسر الهمزة وسكون القاف وهذا جمع على غير قياس ، وإقليد قيل معرب عن الفارسية ، وأصله ( كليد ) قيل من الرومية وأصله ( اقليدس ) وقيل كلمة يمانية وهو مما تقاربت فيه اللغات وهي كناية عن حفظ ذخائرها ، فذخائر الأرض عناصرها ومعادنها وكيفيات أجوائها وبحارها ، وذخائرُ السماوات سَير كواكبها وتصرفات أرواحها في عوالمها وعوالمنا وما لا يعلمه إلا الله تعالى . ولما كانت تلك العناصر والقُوى شديدة النفع للناس وكان الناس في حاجة إليها شبهت بنفائس المخزونات فصحّ أيضاً أن تكون المقاليد استعارة مكنية ، وهي أيضاً استعارة مصرحة للأمر الإِلهي التكويني والتسخيري الذي يُفيض به على الناس من تلك الذخائر المدَّخَرة كقوله تعالى : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } [ الحجر : 21 ] .
وهذه المقدمة تشير إلى أن الله هو معطي ما يشاء لمن يشاء من خلقه ، ومن أعظم ذلك النبوءة وهديُ الشريعة فإن جهل المشركين بذلك هو الذي جرَّأَهم على أن أنكروا اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة دونهم ، واختصاص أتباعه بالهُدى فقالوا : { أهؤلاء مَنَّ الله عليهم مِنْ بيننا } [ الأنعام : 53 ] . فهذه الجمل اشتملت على مقدمات ثلاث تقتضي كل واحدة منها دلالة على وحدانية الله بالخلق ، ثم بالتصرف المطلق في مخلوقاته ، ثم بوضع النظم والنواميس الفطرية والعقلية والتهذيبية في نظام العالم وفي نظام البشر . وكل ذلك موجب توحيده وتصديقَ رسوله صلى الله عليه وسلم والاستمساك بعروته كما رَشد بذلك أهل الإِيمان .
فأما الجملة الرابعة وهي : { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } فتحتمل الاعتراض ولكن اقترانها بالواو بعد نظائرها يرجح أن تكون الواو فيها عاطفة وأنها مقصودة بالعطف على ما قبلها لأن فيها زيادة على مفاد الجملة قبلها ، وتكون مقدمة رابعة للمقصود تجهيلاً للذين هم ضد المقصود من المقدمات فإن الاستدلال على الحق بإبطال ضده ضرب من ضروب الاستدلال . لأن الاستدلال يعود إلى ترغيب وتنفير فإذا كان الذين كفروا بآيات الله خاسرين لا جرم كان الذين آمنوا بآيات الله هم الفائزين ، فهذه الجملة تقابل جملة { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } [ الزمر : 61 ] المنتقل منها إلى هؤلاء الآيات ، وهي مع ذلك مفيدة إنذارهم وتأفين آرائهم ، لأن موقعها بعدَ دلائل الوحدانية وهي آيات دالّة على أن الله واحد يقتضي التنديدَ عليهم في عدم الاهتداء بها .
ووُصف { الذين كفروا بآيات الله } بأنهم الخاسرون لأنهم كفروا بآيات مَن له مقاليد خزائن الخير فعرَّضوا أنفسهم للحرمان مما في خزائنه وأعظمها خزائن خير الآخرة .
وآيات الله هي دلائل وجوده ووحدانيتِه التي أشارت إليها الجمل الثلاث السابقة .
والإِخبار عن الذين كفروا باسم الإِشارة للتنبيه عن أن المشار إليهم خسروا لأجْللِ ما وصفوا به قبلَ اسممِ الإِشارة وهو الكفر بآيات الله . وتوسطُ ضمير الفصل لإِفادة حصر الخسارة فِيهم وهو قصر ادعائي بناء على عدم الاعتداد بخسارة غيرهم بالنسبة إلى خسارتهم فخسارتهم أعظم خسارة .