في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا مِّنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا} (31)

21

فيسليه ربه ويعزيه . فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات . فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي يجيئهم به ، ويصدون عن سبيل الله . ولكن الله يهدي رسله إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين :

( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين . وكفى بربك هاديا ونصيرا ) . .

ولله الحكمة البالغة . فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها ؛ ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها . وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها - مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق - هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة ؛ وهو الذي يمحص القائمين عليها ، ويطرد الزائفين منهم ؛ فلا يبقي بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة ، التي لا تبتغي مغانم قريبة . ولا تريد إلا الدعوة خالصة ، تبتغي بها وجه الله تعالى .

ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالأزهار ، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون ، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون ، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة ، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل ، ووقعت البلبلة والفتنة . ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات ، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا ، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودا . فلا يكافح ويناضل ، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون ، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع ، وأعراض الحياة الدنيا . بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها . ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا ، وأشدهم إيمانا ، وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس . . عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل . وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء . وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها ، واجتازوا امتحانها وبلاءها . أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته . وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي ، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين .

وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور . وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم ، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة . فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء .

والذي يقع غالبا أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات ؛ حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات ، وهم ثابتون على دعوتهم ، ماضون في طريقهم ، قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام ، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن . . وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة ، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة . وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجا في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع !

من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين ؛ وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق ، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين ، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق ، والنهاية مقدرة من قبل ، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله . إنها الهداية إلى الحق ، والانتهاء إلى النصر : ( وكفى بربك هاديا ونصيرا ) .

وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي . فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية . فساد في القلوب ، وفساد في النظم ، وفساد في الأوضاع . ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون ، الذين ينشئون الفساد من ناحية ، ويستغلونه من ناحية . والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد ، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء . والذين يجدون فيه سندا للقيم الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها . . فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعا عن وجودهم ، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه . وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة ، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر ، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري ، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن . وكذلك المجرمون . . فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق ، يستميتون في كفاحها . وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية ، لأنها تسير مع خط الحياة ، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله ، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله . . ( وكفى بربك هاديا ونصيرا ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا مِّنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا} (31)

وقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } أي : كما حصل لك - يا محمد - في قومك من الذين هجروا القرآن ، كذلك كان في الأمم الماضين ؛ لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين ، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } [ الأنعام : 112 - 113 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } أي : لمن اتبع رسوله ، وآمن بكتابه وصدقه واتبعه ، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة . وإنما قال : { هَادِيًا وَنَصِيرًا } لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن ، لئلا يهتدي أحد به ، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن ؛ فلهذا قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا مِّنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا} (31)

وقوله : " وكَذلكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا مِنَ المُجْرِمِينَ " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وكما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك ، كذلك جعلنا لكلّ من نبأناه من قبلك عدوّا من مشركي قومه ، فلم تخصص بذلك من بينهم . يقول : فاصبر لِما نالك منهم كما صبر مِن قبلك أولو العزم من رسلنا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن عباس وكَذلكَ جَعَلْنا لكُلّ نَبِيّ عَدُوّا مِنَ المُجْرِمِينَ قال : يوطن محمدا صلى الله عليه وسلم أنه جاعل له عدوّا من المجرمين كما جعل لمن قبله .

وقوله : " وكَفَى برَبّكَ هادِيا وَنَصِيرا " ، يقول تعالى ذكره لنبيه : وكفاك يا محمد بربك هاديا يهديك إلى الحقّ ، ويبصرك الرشد ، ونصيرا : يقول : ناصرا لك على أعدائك ، يقول : فلا يهولنك أعداؤك من المشركين ، فإني ناصرك عليهم ، فاصبر لأمري ، وامض لتبليغ رسالتي إليهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا مِّنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا} (31)

{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } كما جعلناه لك فاصبر كما صبروا ، وفيه دليل على أنه خالق الشر ، والعدو يحتمل الواحد والجمع . { وكفى بربك هاديا } إلى طريق قهرهم . { ونصيرا } لك عليهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا مِّنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا} (31)

ثم سلاه عن فعل قومه بأن أعلمه أن غيره من الرسل كذلك امتحن بأعداء في زمنه ، أي فاصبر كما صبروا و { عدواً } يراد به الجمع ، تقول هؤلاء عدو لي فتصف به الجمع والواحد والمؤنث ثم وعده تعلق بقوله : { وكفى بربك هادياً ونصيراً } والباء في { بربك } للتأكيد على الأمر إذ المعنى اكتف بربك .