في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القيامة مكية وآياتها أربعون

هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد ، والإيقاعات واللمسات ، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه . . تحشدها بقوة ، في أسلوب خاص ، يجعل لها طابعا قرآنيا مميزا ، سواء في أسلوب الأداء التعبيري ، أو أسلوب الأداء الموسيقي ، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي ، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضا !

إنها تبدأ في الآيتين الأوليين منها بإيقاع عن القيامة ، وإيقاع عن النفس : ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ) . . ثم يستطرد الحديث فيها متعلقا بالنفس ومتعلقا بالقيامة ، من المطلع إلى الختام ، تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي . وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة . أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة ، بطريقة دقيقة جميلة . .

من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري ، وتضرب بها عليه حصارا لا مهرب منه . . حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، فلا يملك لها ردا ، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا . وهي تتكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعاف ، ويقف الجميع منها موقفا واحدا . . لا حيلة . ولا وسيلة . ولا قوة . ولا شفاعة . ولا دفع . ولا تأجيل . . مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئا . ولا مفر من الاستسلام لها ، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا . . وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول : ( كلا ! إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راق ? وظن أنه الفراق . والتفت الساق بالساق . . إلى ربك يومئذ المساق ) . .

ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة ، حقيقة النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا . . وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة ، لا يقدر عليها إلى الله ، ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها . فهي قاطعة في أن هناك إلها واحدا يدبر هذا الأمر ويقدره ؛ كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة ، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الأخرى ، تمشيا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب . . وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها : ( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ? )ثم تقول في آخرها : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ? ألم يك نطفة من مني يمنى ? ثم كان علقة فخلق فسوى ? فجعل منه الزوجين : الذكر والأنثى ? أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ? ) . .

ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة ، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية . . مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية ، ومن اضطرابات نفسية ، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون ، وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة ! وذلك ردا على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب ، واستهانة بها ولجاج في الفجور . فيجيء الرد في إيقاعات سريعة ، ومشاهد سريعة ، وومضات سريعة : ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل : أيان يوم القيامة ? فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ? كلا ! لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر . بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ! ) . .

ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم ، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول . ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله ، وبالرجاء فيه ، المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب . وهو مشهد يعرض فيه قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن . وهو يعرض ردا على حب الناس للعاجلة ، وإهمالهم للآخرة . وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون : ( كلا ! بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة . ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة ! ) . .

وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها تعترض أربع آيات تحتوي توجيها خاصا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وتعليما له في شأن تلقي هذا القرآن . ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها . إذ كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يخاف أن ينسى شيئا مما يوحى إليه ، فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقيه ؛ وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه . فجاء هذا التعليم : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ، إن علينا جمعه وقرآنه ، فإذا قرأناه ، فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه ) . . جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي ، وحفظ هذا القرآن ، وجمعه ، وبيان مقاصده . . كل أولئك موكول إلى صاحبه . ودوره هو ، هو التلقي والبلاغ . فليطمئن بالا ، وليتلق الوحي كاملا ، فيجده في صدره منقوشا ثابتا . . وهكذا كان . . فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل . . أليس من قول الله ? وقول الله ثابت في أي غرض كان ? ولأي أمر أراد ? وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب . . ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات الله في أي إتجاه . . وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات الله التي أوحى بها إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يخرم منها حرف ، ولم تند منها عبارة . فهو الحق والصدق والتحرج والوقار !

وهكذا يشعر القلب - وهو يواجه هذه السورة - أنه محاصر لا يهرب . مأخوذ بعمله لا يفلت . لا ملجأ له من الله ولا عاصم . مقدرة نشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره ، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء ، بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر : ( فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى . ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) . .

وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات يسمع التهديد الملفوف : ( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى )فيكون له وقعه ومعناه !

وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه . وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن ، شأن القيامة ، وشأن النفس وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق . ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف ، لأنه من كلام العظيم الجليل ، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته ، وتثبت في سجل الكون الثابت ، وفي صلب هذا الكتاب الكريم .

وقد عرضنا نحن لحقائق السورة ومشاهدها فرادى لمجرد البيان . وهي في نسق السورة شيء آخر . إذ أن تتابعها في السياق ، والمزاوجة بينها هنا وهناك ، ولمسة القلب بجانب من الحقيقة مرة ، ثم العودة إليه بالجانبالآخر بعد فترة . . كل ذلك من خصائص الأسلوب القرآني في مخاطبة القلب البشري ؛ مما لا يبلغ إليه أسلوب آخر ، ولا طريقة أخرى . .

فلنأخذ في مواجهة السورة كما هي في سياقها القرآني الخاص :

لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة ، أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ? بلى قادرين على أن نسوي بنانه ، بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ، يسأل : أيان يوم القيامة ? فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر . . يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ? كلا لا وزر . إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ، بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره . .

هذا التلويح بالقسم مع العدول عنه أوقع في الحس من القسم المباشر ؛ وهذا الوقع هو المقصود من العبارة ، وهو يتم أحسن تمام بهذا الأسلوب الخاص ، الذي يتكرر في مواضع مختلفة من القرآن . . ثم تبرز من ورائه حقيقة القيامة وحقيقة النفس اللوامة .

وحقيقة القيامة سيرد عنها الكثير في مواضعه في السورة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة القيامة

وهي مكية .

قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيًا ، جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي . والمقسوم عليه هاهنا هو إثبات الميعاد ، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بَعث الأجساد ؛ ولهذا قال تعالى : { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة . وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعًا . هكذا{[29537]} حكاه ابن أبي حاتم . وقد حكى ابن جرير ، عن الحسن والأعرج أنهما قرآ : " لأقسم [ بيوم القيامة ]{[29538]} " ، وهذا يوجه قول الحسن ؛ لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة . والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قاله قتادة رحمه الله ، وهو المروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، واختاره ابن جرير .

فأما يوم القيامة فمعروف ، وأما النفس اللوامة ، فقال قرة بن خالد ، عن الحسن البصري في هذه الآية : إن المؤمن - والله - ما نراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قُدُما ما يعاتب نفسه .

وقال جُوَيْبر : بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال : ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح بن{[29539]} مسلم ، عن إسرائيل ، عن سِماك : أنه سأل عِكْرِمة عن قوله : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال : يلوم{[29540]} على الخير والشر : لو فعلت كذا وكذا .

ورواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن وَكِيع عن إسرائيل . {[29541]}

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جُبَير في : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال : تلوم على الخير والشر .

ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك : فقال : هي النفس اللؤوم . {[29542]}

وقال علي ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : اللوامة : المذمومة .

وقال قتادة : { اللَّوَّامَةِ } الفاجرة .

قال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، الأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات .


[29537]:- (1) في م: "كذا".
[29538]:- (2) زيادة من م.
[29539]:- (3) في م: "عن".
[29540]:- (4) في م: "تلوم".
[29541]:- (1) تفسير الطبري (29/109).
[29542]:- (2) تفسير الطبري (29/109).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنّفْسِ اللّوّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلّن نّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىَ قَادِرِينَ عَلَىَ أَن نّسَوّيَ بَنَانَهُ } .

اختلفت القرّاء في قراءة قوله : لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار : لاَ أُقْسِمُ ( لا ) مفصولة من أقسم ، سوى الحسن والأعرج ، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرآن ذلك : «لأُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ » بمعنى : أقسم بيوم القيامة ، ثم أدخلت عليها لام القسم .

والقراءة التي لا أستجيز غيرها في هذا الموضع «لا » مفصولة ، أقسم مبتدأه على ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .

وقد اختلف الذين قرأوا ذلك على الوجه الذي اخترنا قراءته في تأويله ، فقال بعضهم «لا » صلة ، وإنما معنى الكلام : أقسم بيوم القيامة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم بن يناق ، عن سعيد بن جُبير لا أُقْسِمُ بِيَوْم القَيامَةِ قال : أقسم بيوم القيامة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جُبير لا أُقْسِمُ قال : أقسم .

وقال آخرون منهم : بل دخلت «لا » توكيدا للكلام . ذكر من قال ذلك :

سمعت أبا هشام الرفاعي يقول : سمعت أبا بكر بن عياش يقول : قوله : لا أُقْسِمُ توكيد للقسم كقوله : لا والله .

وقال بعض نحويي الكوفة ، لا ردّ لكلام قد مضى من كلام المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار ، ثم ابتدىء القسم ، فقيل : أقسم بيوم القيامة ، وكان يقول : كلّ يمين قبلها ردّ لكلام ، فلا بدّ من تقديم «لا » قبلها ، ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحدا ، واليمين التي تستأنف ، ويقول : ألا ترى أنك تقول مبتدئا : والله إن الرسول لحقّ وإذا قلت : لا والله إن الرسول لحقّ فكأنك أكذبت قوما أنكروه .

واختلفوا أيضا في ذلك ، هل هو قسم أم لا ؟ فقال بعضهم : هو قسم أقسم ربنا بيوم القيامة ، وبالنفس اللوّامة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي الخير بن تميم ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي ابن عباس : ممن أنت ؟ فقلت : من أهل العراق ، فقال : أيهم ؟ فقلت : من بني أسد ، فقال : من حريبهم ، أو ممن أنعم الله عليهم ؟ فقلت : لا بل ممن أنعم الله عليهم ، فقال لي : سل ، فقلت : لا أقسم بيوم القيامة ، فقال : يقسم ربك بما شاء من خلقه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا أقْسِمُ بِيَوْم القِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بالنّفْس اللّوَامَةِ قال : أقسم بهما جميعا .

وقال آخرون : بل أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوّامة . وقال : معنى قوله : وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ ولست أقسم بالنفس اللوّامة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوّامة .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : إن الله أقسم بيوم القيامة ، وبالنفس اللوّامة ، وجعل «لا » ردّا لكلام قد كان تقدّمه من قوم ، وجوابا لهم .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، لأن المعروف من كلام الناس في محاوراتهم إذا قال أحدهم : لا والله ، لا فعلت كذا ، أنه يقصد بلا ردّ الكلام ، وبقوله : والله ، ابتداء يمين ، وكذلك قولهم : لا أقسم بالله لا فعلت كذا فإذا كان المعروف من معنى ذلك ما وصفنا ، فالواجب أن يكون سائر ما جاء من نظائره جاريا مجراه ، ما لم يخرج شيء من ذلك عن المعروف بما يجب التسليم له . وبعد ، فإن الجميع من الحجة مجمعون على أن قوله : لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ قسم فكذلك قوله : وَلا أُقْسِمُ بالنّفْس اللّوّامَةِ إلا أن تأتي حجة تدلّ على أن أحدهما قسم والاَخر خبر . وقد دللنا على أن قراءة من قرأ الحرف الأوّل لأقسم بوصل اللام بأقسم قراءة غير جائزة بخلافها ما عليه الحجة مجمعة ، فتأويل الكلام إذا : لا ما الأمر كما تقولون أيها الناس من أن الله لا يبعث عباده بعد مماتهم أحياء ، أقسم بيوم القيامة . وكانت جماعة تقول : قيامة كل نفس موتها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ومسعر ، عن زياد بن علاقة ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : يقولون : القيامة القيامة ، وإنما قيامة أحدهم : موته .

قال : ثنا وكيع ، عن مسعر وسفيان ، عن أبي قبيس ، قال : شهدت جنازة فيها علقمة ، فلما دفن قال : أما هذا فقد قامت قيامته .