والاستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه ، وشعوره بالإثم ورغبته في التوبة . والتوبة بعد ذلك هي الإقلاع الفعلي عن الذنب ، والأخذ في مقابله في أعمال الطاعة . ولا توبة بغير هذين الدليلين ، فهما الترجمة العملية للتوبة ، وبهما يتحقق وجودها الفعلي ، الذي ترجى معه المغفرة والقبول . . فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في الإسلام ، بينما هو لا يدين لله وحده ، ولا يتلقى منه وحده عن طريق نبيه ؛ فلا قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير الله . .
والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة ، وقوام التبليغ . وهما عنصرا الترغيب والترهيب ، اللذان علم الله من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق !
والاعتقاد باليوم الآخر ضروري لاكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة ، وأن الخير الذي تدعو إليه الرسالات هو غاية الحياة ؛ ومن ثم لا بد أن يلقى جزاءه ؛ فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون في العالم الآخر ، الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها . أما الذين يزيغون عن نهج الله وحكمته في الحياة فهؤلاء يرتكسون وينتكسون إلى درك العذاب . . وفي هذا ضمان للفطرة السليمة ألا تنحرف . فإن غلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة ، ولم تلج في العصيان . ومن ثم تصلح هذه الأرض لحياة البشر . وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير . فالاعتقاد باليوم الآخر ليس طريقا للثواب في الآخرة فحسب - كما يعتقد بعض الناس - إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا . والحافز على إصلاحها وإنمائها . على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفا في ذاته ، إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه ، وكرمه على كثير من خلقه ، ورفعه عن درك الحيوان ؛ لتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان ؛ ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته .
ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة ، بعد توحيد الدينونة لله ، وإثبات الرسالة من عنده . . الدعوة إلى الاستغفار من الشرك والتوبة . . وهما بدء الطريق للعمل الصالح . والعمل الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام . إنما هو الإصلاح في الأرض بكل معاني الإصلاح ، من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج . والجزاء المشروط :
( يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ) . .
والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا . أما في الآخرة فهو بالنوع والكم وبما لم يخطر على قلب بشر . فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة .
إننا نشاهد كثيرا من الطيبين الصالحين ، المستغفرين التائبين ، العاملين في الحياة . . وضيقا عليهم في الرزق . فأين إذن هو المتاع الحسن ؟
وهو سؤال نعتقد أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين !
ولا بد لإدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع ، وننظر إليها في محيطها الشامل العام ، ولا نقتصر منها على مظهر عابر .
إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح ، قائم على الإيمان بالله ، والدينونة له وحده ، وإفراده بالربوبية والقوامة ، وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة . . إلا كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة كجماعة ؛ وإلا ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الأفراد بصفة خاصة . فإذا شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب ، فذلك شاهد على أن هذه الجماعة لا يسودها النظام المستمد من الإيمان بالله ، القائم على العدل بين الجهد والجزاء .
على أن الأفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعا حسنا ، حتى لو ضيق عليهم في الرزق ، وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم ، كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة ، وكما تؤذي الجاهليات القلة الداعية إلى الله . وليس هذا خيالا وليس ادعاء . فطمأنينة القلب إلى العاقبة ، والاتصال بالله ، والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله . . عوض عن كثير ؛ ومتاع حسن للإنسان الذي يرتفع درجة عن الحس المادي الغليظ .
ولا نقول هذا لندعو المظلومين الذين لا يجدون جزاء عادلا على جهدهم إلى الرضى بالأوضاع المنافية للعدالة . فالإسلام لا يرضى بهذا ، والإيمان لا يسكت على مثل تلك الأوضاع . والجماعة المؤمنة مطالبة بإزالتها وكذلك الأفراد ، ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين . إنما نقوله لأنه حق يحس به المؤمنون المتصلون بالله ، المضيق عليهم في الرزق ، وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الأوضاع التي تكفل المتاع الحسن لعباد الله المستغفرين التائبين العاملين بهدى الله .
خصصها بعض المفسرين بجزاء الآخرة . وأرى أنها عامة في الدنيا والآخرة ، على النحو الذي فسرنا به المتاع الحسن في الدنيا ؛ وهو متحقق في جميع الأحوال . وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها الفضل . يجده رضى نفسيا وارتياحا شعوريا ، واتصالا بالله وهو يبذل الفضل عملا أو مالا متجها به إلى الله . أما جزاء الله له بعد ذلك فهو فضل من الله وسماحة فوق الجزاء .
( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) . .
هو عذاب يوم القيامة . لا عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين . فاليوم الكبير حين يطلق هكذا ينصرف إلى اليوم الموعود . ويقوي هذا ما بعده :
وقوله : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : وآمركم{[14469]} بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه ، وأن تستمروا{[14470]} على ذلك ، { يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } أي : في الدنيا { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : في الدار الآخرة ، قاله قتادة ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، {[14471]}-{[14472]}
وقد جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد : " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله ، إلا أجِرْت بها ، حتى ما تجعل في فِي{[14473]} امرأتك " {[14474]} .
وقال ابن جرير : حدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن مسعود في قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات . فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات . ثم يقول : هلك من غلب آحاده أعشاره{[14475]} .
وقوله : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى ، وكذب رسله ، فإن العذاب يناله يوم معاده{[14476]} لا محالة ،
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.