وبعد هذا الافتتاح يبدأ في عرض النبأ . نبأ موسى وفرعون . يبدأ في عرضه منذ أول حلقة في القصة - حلقة ميلاده - ولا تبدأ مثل هذا البدء في أية سورة أخرى من السور الكثيرة التي وردت فيها . ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى ، والظروف القاسية التي ولد فيها ؛ وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة ؛ وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون . . ذلك كله هو الذي يؤدي هدف السورة الرئيسي ؛ ويبرز يد القدرة سافرة متحدية تعمل وحدها بدون ستار من البشر ؛ وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عندما يعجز عن ضربها البشر ؛ وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة ؛ وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية . وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته ؛ وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه .
ولقد كانت قصة موسى - عليه السلام - تبدأ غالبا في السور الأخرى من حلقة الرسالة - لا من حلقة الميلاد - حيث يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي ؛ ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان في النهاية . فأما هنا فليس هذا المعنى هو المقصود ؛ إنما المقصود أن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته ؛ والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر ؛ بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم ، فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم ، وتربيهم ، وتجعلهم أئمة ، وتجعلهم الوارثين .
فهذا هو الغرض من سوق القصة في هذه السورة ؛ ومن ثم عرضت من الحلقة التي تؤدي هذا الغرض وتبرزه ، والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض . فهي أداة تربية للنفوس ، ووسيلة تقرير لمعان وحقائق ومبادئ . وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي تعرض فيه ، وتتعاون في بناء القلوب ، وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب .
والحلقات المعروضة من القصة هنا هي : حلقة مولد موسى - عليه السلام - وما أحاط بهذا المولد من ظروف قاسية في ظاهرها ، وما صاحبه من رعاية الله وعنايته . وحلقة فتوته وما آتاه الله من الحكم والعلم ، وما وقع فيها من قتل القبطي ، وتآمر فرعون وملئه عليه ، وهربه من مصر إلى أرض مدين ، وزواجه فيها ، وقضاء سنوات الخدمة بها . وحلقة النداء والتكليف بالرسالة . ثم مواجهة فرعون وملئه وتكذيبهم لموسى وهارون . والعاقبة الأخيرة - الغرق - مختصرة سريعة .
ولقد أطال السياق في عرض الحلقة الأولى والحلقة الثانية - وهما الحلقتان الجديدتان في القصة في هذه السورة - لأنهما تكشفان عن تحدي القدرة السافرة للطغيان الباغي . وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ : ( ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) .
وعلى طريقة القرآن في عرض القصة ، قسمها إلى مشاهد ؛ وجعل بينها فجوات فنية يملؤها الخيال ، فلا يفوت القارى ء شيء من الأحداث والمناظر المتروكة بين المشهد والمشهد ، مع الاستمتاع الفني بحركة الخيال الحية .
وقد جاءت الحلقة الأولى في خمسة مشاهد . والحلقة الثانية في تسعة مشاهد والحلقة الثالثة في أربعة مشاهد . وبين الحلقة والحلقة فجوة كبيرة أو صغيرة وبين كل مشهد ومشهد ، كما يسدل الستار ويرفع عن المنظر أو المشهد .
وقبل أن يبدأ القصة يرسم الجو الذي تدور فيه الأحداث ، والظرف الذي يجري فيه القصص ، ويكشف عن الغاية المخبوءة وراء الأحداث ، والتي من أجلها يسوق هذا القصص . . وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصة . تساوق موضوعها وأهدافها في هذا الموضع من القرآن :
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، يستضعف طائفة منهم ، يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين . ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ، ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون . .
وهكذا يرسم المسرح الذي تجري فيه الحوادث ، وتنكشف اليد التي تجريها . وتنكشف معها الغاية التي تتوخاها . وانكشاف هذه اليد ، وبروزها سافرة بلا ستار منذ اللحظة الأولى مقصود في سياق القصة كلها ، متمش مع أبرز هدف لها . ومن ثم تبدأ القصة هذا البدء . وذلك من بدائع الأداء في هذا الكتاب العجيب .
ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده ، فالتحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية ؛ ولا يزيد في دلالتها شيئا . ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف - عليه السلام - الذي استقدم أباه وإخوته . وأبوه يعقوب هو " إسرائيل " وهؤلاء كانوا ذريته . وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرا .
فلما كان ذلك الفرعون الطاغية ( علا في الأرض )وتكبر وتجبر ، وجعل أهل مصر شيعا ، كل طائفة في شأن من شئونه . ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل ، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه ؛ فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ؛ ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف ، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد ؛ وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعا .
وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطرا على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر ؛ ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف ، فقد يصبحون إلبا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب ، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته ، تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال ، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب . وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم ، واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم . وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث ، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب .
وروي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل ، ليبادر بذبح الذكور ، فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة ، التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة .
هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى - عليه السلام - عند ولادته ، كما وردت في هذه السورة :
( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم . إنه كان من المفسدين ) . .
ثم قال : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ } أي : تكبر وتجبر وطغى . { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } أي : أصنافا ، قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته .
وقوله : { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ } يعني : بني إسرائيل . وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم . هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال ، ويكُدُّهُم ليلا ونهارًا في أشغاله وأشغال رعيته ، ويقتل مع هذا أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، إهانة لهم واحتقارا ، وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته من أن يوجد منهم غلام ، يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه . وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل ، حين ورد الديار المصرية ، وجرى له مع جبارها ما جرى ، حين أخذ سارة ليتخذها جارية ، فصانها الله منه ، ومنعه منها{[22218]} بقدرته وسلطانه . فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته مَن يكون هلاك ملك مصر على يديه ، فكانت القبط تتحدث بهذا عند فرعون ، فاحترز فرعون من ذلك ، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل ، ولن ينفع حذر من قدر ؛ لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، ولكل أجل كتاب ؛ ولهذا قال : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.