ثم يلوح ببعض ما قدر الله للمؤمنين ، مخالفا لظن المخلفين . بأسلوب يوحي بأنه قريب :
( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها : ذرونا نتبعكم . يريدون أن يبدلوا كلام الله . قل : لن تتبعونا . كذلكم قال الله من قبل . فسيقولون : بل تحسدوننا . بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ) . .
أغلب المفسرين يرون أنها إشارة إلى فتح خيبر . وقد يكون هذا . ولكن النص يظل له إيحاؤه ولو لم يكن نصا في خيبر . فهو يوحي بأن المسلمين سيفتح عليهم فتح قريب يسير . وأن هؤلاء المخلفين سيدركون هذا ، فيقولون : ( ذرونا نتبعكم ) . .
ولعل الذي جعل المفسرين يخصصون خيبر ، أنها كانت بعد قليل من صلح الحديبية . إذ كانت في المحرم من سنة سبع . بعد أقل من شهرين من صلح الحديبية . وأنها كانت وافرة الغنائم . وكانت حصون خيبر آخر ما بقي لليهود في الجزيرة من مراكز قوية غنية . وكان قد لجأ إليها بعض بني النضير وبني قريظة ممن أجلوا عن الجزيرة من قبل .
وتتواتر أقوال المفسرين أن الله وعد أصحاب البيعة في الحديبية أن تكون مغانم خيبر لهم لا يشركهم فيها أحد . ولم أجد في هذا نصا . ولعلهم يأخذون هذا مما وقع فعلا . فقد جعلها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أصحاب الحديبية ، ولم يأخذ معه أحدا غيرهم .
وعلى أية حال فقد أمر الله نبيه أن يرد المخلفين من الأعراب إذا عرضوا الخروج للغنائم الميسرة القريبة . وقرر أن خروجهم مخالف لأمر الله وأخبر نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أنهم سيقولون إذا منعوا من الخروج : ( بل تحسدوننا ) . . فتمنعوننا من الخروج لتحرمونا من الغنيمة . ثم قرر أن قولهم هذا ناشيء عن قلة فقههم لحكمة الله وتقديره . فجزاء المتخلفين الطامعين أن يحرموا ، وجزاء الطائعين المتجردين أن يعطوا من فضل الله ، وأن يختصوا بالمغنم حين يقدره الله ، جزاء اختصاصهم بالطاعة والإقدام ، يوم كانوا لا يتوقعون إلا الشدة في الجهاد .
{ سيقول المخلفون . . . } وعد الله أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئا . وقد رجع منها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الصلح في ذي الحجة ، وأقام بالمدينة بقيته وأوائل المحرم من سنة سبع ، ثم غزا بمن شهد الحديبية ففتحها ، وغنم أموالا كثيرة ؛ فخصمهم كما أمره الله تعالى . أي سيقول أولئك الأعراب المتخلفون عن الخروج معك إذا انطلقتم إلى مغانم خيبر لتأخذوها : دعونا نتبعكم ونشهد معكم قتال أهلها . تقول : ذره ، أي دعه . وهو يذره : أي يدعه . ولم يستعمل منه الماضي واسم الفاعل ؛ اكتفاء بقولهم : تركه تركا وهو تارك .
{ كلام الله } وعده أهل الحديبية خاصة بغنائم خيبر : كما قال تعالى : " وأثابهم فتحا قريبا . ومغانم كثيرة يأخذونها " .
قوله تعالى : { ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا* ولله الملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما* سيقول المخلفون } يعني هؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية ، { إذا انطلقتم } سرتم وذهبتم أيها المؤمنون { إلى مغانم لتأخذوها } يعني غنائم خيبر ، { ذرونا نتبعكم } إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها ، وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر وجعل غنائمهما لمن شهد الحديبية خاصة عوضاً عن غنائم أهل مكة إذا انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئاً . قال الله تعالى : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } قرأ حمزة والكسائي : ( كلم الله ) بغير ألف جمع كلمة ، وقرأ الآخرون : ( كلام الله ) ، يريدون أن يغيروا مواعيد الله تعالى لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة . وقال مقاتل : يعني أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يسير معه منهم أحد . وقال ابن زيد : هو قول الله عز وجل : { فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً } ( التوبة-83 ) ، والأول أصوب ، وعليه عامة أهل التأويل . { قل لن تتبعونا } إلى خيبر ، { كذلكم قال الله من قبل } أي : من قبل مرجعنا إليكم إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب ، { فسيقولون بل تحسدوننا } أي : يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم ، { بل كانوا لا يفقهون } لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين ، { إلا قليلاً } منهم وهو من صدق الله والرسول .
ولما ذم{[60307]} المخلفين بما منه - {[60308]}أي من الذم{[60309]} - أنهم هالكون بعد أن قدم أنه لعنهم ، وكان قد وعد سبحانه أهل الحديبية فتح خيبر جبراً لهم بما منعهم من الاستيلاء على مكة المشرفة لما له {[60310]}في ذلك{[60311]} من الحكم البالغة الدقيقة ، وختم بأنه نافذ الأمر ، وكان-{[60312]} ذلك مستلزماً لإحاطة العلم ، دل على كلا الأمرين بقوله استئنافاً ، جواباً لمن كأنه{[60313]} قال : هل يغفر للمخلفين حتى يكونوا كأنهم ما تخلفوا ؟ : { سيقول } أي بوعد لا خلف فيه .
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا مطمع لأحد فى أن يظفر منه بشيء من خلاف لأمر الله ، أسقط ما عبر به في ذكرهم أولاً من خطابه وقال : { المخلفون } أي لمن يطمعون فيه من الصحابة أن يسعى في تمكينهم من المسير في جيشه صلى الله عليه وسلم لخفاء الحكم عليه ونحو ذلك ، ولم يقيدهم بالأعراب ليعم كل من كان يتخلف من غيرهم { إذا انطلقتم } بتمكين الله لكم { إلى مغانم } .
ولما أفهم اللفظ الأخذ ، والتعبير بصيغة منتهى الجموع كثرتها ، صرح بالأول رفعاً للمجاز فقال : { لتأخذوها } أي من خيبر { ذرونا } أي {[60314]}على أي{[60315]} حالة شئتم من الأحوال الدنية { نتبعكم } ولما كان يلزم من تمكينهم من ذلك إخلاف وعد الله بأنها تخص أهل الحديبية ، وأنه طرد المنافقين وخيب قصدهم ، علل تعالى قولهم بقوله : { يريدون } أي بذهابكم معكم { أن يبدلوا كلام الله } أي المحيط {[60316]}بكل شيء{[60317]} قدرة وعلماً في الإخبار بلعنهم وإبارتهم ، وأن فتح خيبر مختص بأهل الحديبية ، لا يشركهم فيه إلا من وافقهم في النية والهجرة ، ليتوصلوا بذلك إلى تشكيك أهل الإسلام فيه{[60318]} ، والمراد أن فعلهم فعل من يريد ذلك ، ولا يبعد أن يكونوا صنفين : منهم من يريد ذلك ، ومنهم من لم يرده ولكن فعل من يريده .
ولما كان السامع جديراً بأن يسأل عما يقال لهم ، قال مخاطباً لأصدق الخلق عليه الصلاة والسلام : { قل } أي {[60319]}يا حبيبي{[60320]} لهم إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك ، فإن غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهم ، قولاً مؤكداً : { لن تتبعونا } وإن اجتهدتم في ذلك ، وساقه مساق النفي وإن كان المراد به النهي ، لأنه مع كونه آكد يكون علماً من أعلام النبوة ، وهو أزجر وأدل على الاستهانة .
ولما أذن هذا التأكيد أنه من عند من لا-{[60321]} يخالف أصلاً في مراده ، بينه تعالى بقوله : { كذلكم } أي مثل هذا القول البديع الشأن العلي الرتبة { قال الله } أي الذي لا يكون إلا ما يريد{[60322]} وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا{[60323]} والعقاب لمن شاؤوا{[60324]} { من قبل } هذا الوقت ، وهو الذي لا يمكن الخلف في قوله ، فإنه قضى أن لا يحضر " خيبر " المرادة بهذه الغنائم إلا من حضر الحديبية ، وأمر بذلك فكان ما قال بعد اجتهاد بعض المخلفين في إخلافه فإنهم غيّرهم الطمع بعد سماعهم قول الله هذا ، فطلبوا أن يخرجوا معه صلى الله عليه وسلم فمنعوا{[60325]} فلم يحضرها غيرهم أحد ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست ، فأقام إلى أثناء محرم سنة سبع ، وخرج بأهل الحديبية إلى خيبر ففتحها الله عليه ، وأخذ جميع أموالها من المنقولات والعقارات ، وأتى إليه صلى الله عليه وسلم وهو بها بعد فتحها ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض من معه من مهاجرة الحبشة ، فأشركهم النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الحديبية لأنهم لم يكونوا مخلفين بل كانوا متخلفين لعذر عدم الإدراك .
ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال ، بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية ، سبب عن قولهم له ذلك تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم : { فسيقولون } : ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله { بل } إنما ذلكم لأنكم { تحسدوننا } فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء . ولما كان التقدير : وليس الأمر كما زعموا ، رتب عليه قوله : { بل كانوا } أي جبلة وطبعاً { لا يفقهون } أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر { إلا قليلاً * } في أمر دنياهم ، ومن ذلك إقرارهم بالإيمان لأجلها ، وأما أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً .