( وآتيناهم بينات من الأمر . . )
فكان ما أوتوه من الشريعة بينا حاسماً فاصلاً ، لا غموض فيه ولا لبس ولا عوج ولا انحراف ؛ فلم يكن هناك ما يدعو إلى الاختلاف في هذا الشرع البين كما وقع منهم ؛ وما كان هذا عن غموض في الأمر ، ولا كان عن جهل منهم بالصحيح من الحكم :
فما اختلفوا إلا من بعدما جاءهم العلم . .
إنما كان ذلك عن تحاسد بينهم ، ونزاع وظلم ، مع معرفة الحق والصواب :
وبذلك انتهت قيادتهم في الأرض ، وبطل استخلافهم ، وأمرهم بعد ذلك إلى الله يوم القيامة :
( إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . .
" وآتيناهم بينات من الأمر " قال ابن عباس : يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وشواهد نبوته بأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ، وينصره أهل يثرب . وقيل : بينات الأمر شرائع واضحات في الحلال والحرام ومعجزات . " فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم " يريد يوشع بن نون ، فآمن بعضهم وكفر بعضهم ، حكاه النقاش . وقيل : " إلا من بعد ما جاءهم العلم " نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا فيها . " بغيا بينهم " أي حسدا على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال معناه الضحاك . قيل : معنى " بغيا " أي بغى بعضهم على بعض بطلب الفضل والرياسة ، وقتلوا الأنبياء ، فكذا مشركو عصرك يا محمد ، قد جاءتهم البينات ولكن أعرضوا عنها للمنافسة في الرياسة . " إن ربك يقضي بينهم " أي يحكم ويفصل . " يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " في الدنيا .
{ وآتيناهم } مع ذلك{[58075]} { بينات من الأمر } الموحى به إلى أنبيائهم من الأدلة القطعية والأحكام والمواعظ المؤيدة بالمعجزات ، ومن صفات الأنبياء الآتين بعدهم وغير ذلك مما هو في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته ، وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد-{[58076]} كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافاً يسيراً لا يضر مثله ولا يعد اختلافاً .
ولما كان حالهم بعد هذا الإيتاء مجملاً ، فصله فقال تعالى : { فما اختلفوا } أي أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم ، ولما لم يكن اختلافهم مستغرقاً لجميع الزمن الذي بعد الإيتاء ، أثبت الجار فقال : { إلا من بعد ما جاءهم العلم } الذي من شأنه الجمع على المعلوم ، فكان ما هو سبب الاجتماع سبباً لهم في الافتراق ؛ لأن الله تعالى أراد ذلك وهو عزيز .
ولما كان هذا عجباً ، بين علته محذراً من مثلها فقال : { بغياً } أي للمجاوزة{[58077]} في الحدود التي اقتضاها لهم طلب الرئاسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس . ولما كان البغي على البعيد مذموماً ، زاده عجباً بقوله : { بينهم } واقعاً فيهم لم يعدهم إلى غيرهم ، وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل ، ولذلك استأنف قوله الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن{[58078]} خالف أوامرهم{[58079]} ، مؤكداً لأجل إنكارهم . { إن ربك } أي المحسن إليك بإرسالك وتكثير أمتك وحفظهم مما{[58080]} ضل به القرون الأولى وبيان يوم الفصل الذي هو محط الحكمة بياناً لم يبينه على لسان أحد ممن سلف { يقضي بينهم } بإحصاء الأعمال والجزاء عليها ، لأن هذا مقتضى الحكمة والعزة { يوم القيامة } الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك مع أنه لايجوز في الحكمة إنكاره{[58081]} { فيما كانوا } أي بما هو لهم كالجبلة{[58082]} { فيه يختلفون * } بغاية الجهد متعمدين له بخلاف ما كان يقع منهم خطأ فإنه يجوز في الحكمة أن يتفضل عليهم بالعفو عنه ، فقد علم أنه لا يجوز في الحكمة أصلاً أن يترك المختلفون من {[58083]}غير حكم{[58084]} بينهم ؛ لأن هذا لا يرضاه أقل الملوك فإنه لايعرف الملك إلا بالقهر والعزة ولا يعرف كونه حكيماً إلا بالعدل ، وإذا كان هذا لا يرضاه ملك فكيف {[58085]}يرضاه ملك{[58086]} الملوك ، وإذا كان هذا القضاء مقتضى الحكمة كان لا فرق فيه بين ناس وناس ، فهو يقتضي بينكم أيضاً كذلك{[58087]} ، ومن التأكيد للوعد بذلك اليوم{[58088]} التعبير باسم الرب مضافاً إليه صلى الله عليه وسلم .