في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون

هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة ، بهولها وضخامتها ، وجديتها ، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني ، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها ؛ ثم في الدار الآخرة ، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها .

وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب ، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى . وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة . فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية . .

يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئا من الحدس والرهبة والتوجس . يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث ، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار : ( والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا ) . .

وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه ؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون : أئنا لمردودون في الحافرة ? أئذا كنا عظاما نخرة ? قالوا : تلك إذا كرة خاسرة ! فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة . .

ومن هنالك . . من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور . . يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون . فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئا ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض : هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى : اذهب إلى فرعون إنه طغى . فقل : هل لك إلى أن تزكى ? وأهديك إلى ربك فتخشى ? فأراه الآية الكبرى ، فكذب وعصى ، ثم أدبر يسعى ، فحشر فنادى ، فقال : أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى . . وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى .

ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره ، في الدنيا والآخرة . فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر ، قوية الإيقاع ، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء ? بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ؛ والأرض بعد ذلك دحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها ، متاعا لكم ولأنعامكم ) . .

وهنا - بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية - يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا . جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى ، وبرزت الجحيم لمن يرى ! فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى . وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) . .

وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى ، والجحيم المبرزة لمن يرى ، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا ، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . . في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن موعدها . يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ? فيم أنت من ذكراها ? إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) . . والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل ، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل !

( والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا ) . قيل في تفسير هذه الكلمات : إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعا شديدا .

/خ5

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النازعات

وتسمى سورة الساهرة والطامة

{ والنازعات غرقا } أقسم الله تعالى في الآيات الخمس بطوائف من الملائكة موكلين بأعمال جسام بأمره تعالى – على أن الخلق لا بد أن يبعثوا ويحاسبوا في اليوم الآخر . وحذف جواب القسم لدلالة ما بعده عليه ، والتقدير لتبعثن . فأقسم الله تعالى بالملائكة التي تنزع أرواح الكافر من أقاصي أجسامهم نزعا بالغ الغاية في الشدة ؛ من النزع ، وهو جذب الشيء من مقره بشدة ، كنزع القوس عن كبده . " وغرقا " أي إغراقا ونزعا شديدا . يقال : أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل وبلغ أقصى غايته . ومنه قولهم : نزع في القوس فأغرق ، أي بلغ غاية المد حتى انتهى إلى النصل . منصوب على المصدرية ، كذلك " نشطا " و " سبحا " و " سبقا " .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

مكية.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

مكية كلها في قول الجميع...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

وتسمى الساهرة والطامة. مقصودها:

بيان أواخر أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام، ووقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي الملائكة الكرام، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق، وحصل التدبر في تقرير الوفاق...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة، بهولها وضخامتها، وجديتها، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها؛ ثم في الدار الآخرة، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها.

وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى. وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة. فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية..

يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئا من الحدس والرهبة والتوجس. يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار: (والنازعات غرقا. والناشطات نشطا. والسابحات سبحا. فالسابقات سبقا. فالمدبرات أمرا)..

وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم. ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه: يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة. قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة. يقولون: أئنا لمردودون في الحافرة؟ أئذا كنا عظاما نخرة؟ قالوا: تلك إذا كرة خاسرة! فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة..

ومن هنالك.. من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور.. يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون. فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئا ما، ليناسب جو الحكاية والعرض: هل أتاك حديث موسى. إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى: اذهب إلى فرعون إنه طغى. فقل: هل لك إلى أن تزكى؟ وأهديك إلى ربك فتخشى؟ فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال: أنا ربكم الأعلى. فأخذه الله نكال الآخرة والأولى. إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.. وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى.

ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح، ومشاهد الكون الهائلة، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون، المهيمنة على مصائره، في الدنيا والآخرة. فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر، قوية الإيقاع، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام: (أأنتم أشد خلقا أم السماء؟ بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؛ والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعا لكم ولأنعامكم)..

وهنا -بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية- يجيء مشهد الطامة الكبرى، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا. جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى: (فإذا جاءت الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبرزت الجحيم لمن يرى! فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)..

وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى، والجحيم المبرزة لمن يرى، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.. في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة، الذين يسألون الرسول [صلى الله عليه وسلم] عن موعدها. يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاها. إنما أنت منذر من يخشاها. كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها).. والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أغراضها:

اشتملت على إثبات البعث والجزاء، وإبطال إحالة المشركين وقوعه.

وتهويل يومه وما يعتري الناس حينئذ من الوهل.

وإبطال قول المشركين بتعذر الإحياء بعد انعدام الأجساد.

وعرض بأن نكرانهم إياه منبعث عن طغيانهم فكان الطغيان صادا لهم عن الإصغاء إلى الإنذار بالجزاء فأصبحوا آمنين في أنفسهم غير مترقبين حياة بعد هذه الحياة الدنيا بأن جعل مثل طغيانهم كطغيان فرعون وإعراضه عن دعوة موسى عليه السلام وإن لهم في ذلك عبرة، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وانعطف الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث بأن خلق العوالم وتدبير نظامه أعظم من إعادة الخلق.

وأدمج في ذلك إلفات إلى ما في خلق السماوات والأرض من دلائل على عظيم قدرة الله تعالى.

وأدمج فيه امتنان في خلق هذا العالم من فوائد يجتنونها وأنه إذا حل عالم الآخرة وانقرض عالم الدنيا جاء الجزاء على الأعمال بالعقاب والثواب.

وكشف عن شبهتهم في إحالة البعث باستبطائهم إياه وجعلهم ذلك أمارة على انتفائه فلذلك يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعيين وقت الساعة سؤال تعنت، وأن شأن الرسول أن يذكرهم بها وليس شأنه تعيين إبانها، وأنها يوشك أن تحل فيعلمونها عيانا وكأنهم مع طول الزمن لم يلبثوا إلا جزءا من النهار.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة توكيد رباني بتحقيق يوم البعث والحساب وما سوف يستولي على الكفار فيه من خوف وندم. وتذكير برسالة موسى إلى فرعون وموقف فرعون وما في ذلك من عبرة. وتدليل على قدرة الله على البعث والتنكيل بالكفار بما كان من مصير فرعون. وبمشاهد الكون وعظمة الله وبديع صنعه فيه. وتنديد بالكفار لشكهم في الآخرة وبيان إنذاري وتبشيري بمصير كل من المتقين والطاغين فيها. ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول: إنها نزلت دفعة واحدة...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

محتوى السورة: تبحث هذه السورة كسابقتها مسائل «المعاد»، وتتلخص مواضيعها عموماً بستة أقسام:

التأكيد مراراً على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.

الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.

عرض سريع لقصة موسى (عليه السلام) مع الطاغي فرعون، تسلية للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وإنذارا للمشركين الطغاة، وإشارة إلى ما يترتب على إنكار المعاد من سقوط في مستنقع الرذيلة.

طرح بعض النماذج المظهرة قدرة الباري سبحانه في السماء والأرض، للاستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.

تعود الآيات مرّة أخرى، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب، وما سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.

وفي النهاية، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة، والتأكيد على حتمية وقوعه وقربه.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

أقسم ربنا جلّ جلاله بالنازعات، واختلف أهل التأويل فيها، وما هي؟ وما تنزع؟ فقال بعضهم: هم الملائكة التي تنزع نفوس بني آدم، والمنزوع نفوس الآدميين...

وقال آخرون: بل هو الموت يَنْزِع النفوس...

وقال آخرون: هي النجوم تَنْزِع من أُفق إلى أفق...

وقال آخرون: هي القِسِيّ تَنزِع بالسهم...

وقال آخرون: هي النفس حين تنزع...

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالنازعات غرقا، ولم يخصُصْ نازعة دون نازعة، فكلّ نازعة غَرْقا، فداخلة في قَسَمه، مَلَكا كان أو موتا، أو نجما، أو قوسا، أو غير ذلك. والمعنى: والنازعات إغراقا، كما يغرق النازع في القوس...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{والنازعات غرقا} هم الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفرة، ويغرقون إغراقا، أي يشددون في النزع كما يغرق النازع في القوس، فيشتد عليه النزع شدة الأمر على الغريق، أو تنزع أرواح الكفرة، فتغرقها في النار...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

ومعنى "غرقاً " أي إبعاداً في النزع...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ومعنى (النازعات) الملائكة تنزع الأرواح من الأبدان، فالنازعات الجاذبات الشيء من أعماق ما هو فيه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها، من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها...

{غَرْقاً} إغراقاً في النزع، أي: تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها وأظفارها...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قال ابن مسعود وابن عباس: {النازعات}، الملائكة تنزع نفوس بني آدم، و {غرقاً} على هذا القول إما أن يكون مصدر بمعنى الإغراق والمبالغة في الفعل، وإما أن يكون كما قال علي وابن عباس: تغرق نفوس الكفرة في نار جهنم، وقال السدي وجماعة: {النازعات}: النفوس تنزع بالموت إلى ربها، و {غرقاً} هنا بمعنى الإغراق أي تغرق في الصدر... وقال قتادة: {النازعات}، النفوس التي تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها ولها نزاع عند الموت، وقال مجاهد: {النازعات} المنايا لأنها تنزع نفوس الحيوان.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

وأغرق النازع في القوس إذا استوفى مدها، ويضرب مثلا للغلو والإفراط.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

هذه الإقسامات بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله، وإسراعهم في تنفيذ أمره، يحتمل أن المقسم عليه، الجزاء والبعث، بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك، ويحتمل أن المقسم عليه والمقسم به متحدان، وأنه أقسم على الملائكة، لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، ولأن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتولاه الملائكة عند الموت وقبله وبعده، فقال: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} وهم الملائكة التي تنزع الأرواح بقوة، وتغرق في نزعها حتى تخرج الروح، فتجازى بعملها...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ابتدئت بالقسَم بمخلوقات ذات صفات عظيمة قَسَماً مراداً منه تحقيقُ ما بعده من الخبر وفي هذا القسَم تهويل المقسم به.

وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جُموع جَرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء لأنها في تأويل جَماعات تتحقق فيها الصفات المجموعة، فهي جماعات، نازعات، ناشطات، سابحات، سابقات، مدبِّرات، فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدلّ عليها الأوصاف الصالحة لها.

فيجوز أن تكون صفاتٍ لموصوفات من نوع واحد له أصناف تميزها تلك الصفات.

ويجوز أن تكون صفات لموصوفات مختلفة الأنواع بأن تكون كل صفة خاصيَّةً من خواصّ نوع من الموجودات العظيمة قوامُه بتلك الصفة.

والذي يقتضيه غالب الاستعمال أن المتعاطفات بالواو صفات مستقلة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف، أو لموصوف واحد له أحوال متعددة، وأنَّ المعطوفاتِ بالفاء صفات متفرعة عن الوصف الذي عُطفت عليه بالفاء، فهي صفات متعددة متفرّع بعضها عن بعض لموصوف واحد، فيكون قَسماً بتلك الأحوال العظيمة باعتبار موصوفاتها.

وللسلف من المفسرين أقوال في تعيين موصوفات هذه الأوصاف وفي تفسير معاني الأوصاف. وأحسن الوجوه على الجملةِ أن كلّ صفة مما عُطف بالواو مراداً بها موصوف غير المراد بموصوف الصفة الأخرى، وأن كل صفة عطفت بالفاء أن تكون حالةً أخرى للموصوف المعطوف بالواو كما تقدم. وسنتعمد في ذلك أظهر الوجوه وأنظَمها ونذكر ما في ذلك من الاختلاف ليكون الناظر على سعَةِ بصيرةٍ.

وهذا الإِجمال مقصود لتذهب أفهام السامعين كلَّ مذهب ممكن، فتكثر خطور المعاني في الأذهان، وتتكرر الموعظة والعبرة باعتبار وقْع كل معنى في نفس له فيها أشدُّ وقْعٍ وذلك من وفرة المعاني مع إيجاز الألفاظ.

فالنازعات: وصف مشتق من النزع ومعاني النزع كثيرة كلها ترجع إلى الإِخراج والجذب فمنه حقيقة ومنه مجاز.

فيحتمل أن يكون {النازعات} جماعات من الملائكة وهم الموكّلون بقبض الأرواح، فالنزع هو إخراج الروح من الجسد شبه بنزع الدلو من البئر أو الركية، ومنهم قولهم في المحْتضَر هو في النزع. وأجريت صفتهم على صيغة التأنيث بتأويل الجماعة أو الطوائف كقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14].

وروي هذا عن علي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومسروق وابن جبير والسدّي فأقسم الله بالملائكة لأنها من أشرف المخلوقات، وخصها بهذا الوصف الذي هو من تصرفاتها تذكيراً للمشركين إذ هم في غفلة عن الآخرة وما بعد الموت، ولأنهم شديدٌ تعلقهم بالحياة كما قال تعالى لمَّا ذكر اليهود: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا} [البقرة: 96] فالمشركين مَثَل في حب الحياة ففي القسم بملائكة قبض الأرواح عظة لهم وعبرة.

والقسَم على هذا الوجه مناسب للغرض الأهم من السورة وهو إثبات البعث لأن الموت أول منازل الآخرة فهذا من براعة الاستهلال.

وغرقا: اسم مصدر أغرق، وأصله إغراقاً... وهذا مصدر وصف به مصدر محذوف هو مفعول مطلق للنازعات، أي نَزْعاً غَرقاً، أي مغرقاً، أي تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد.

ويجوز أن تكون {النازعات} صفة للنجوم، أي تنزع من أفق إلى أفق، أي تسير، يقال: ينزع إلى الأمر الفلاني، أي يميل ويشتاق.

وغرقاً: تشبيه لغروب النجوم بالغَرْق في الماء وقاله الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش، وهو على هذا متعين لأن يكون مصدر غَرِق وأن تسكين عينه تخفيف.

والقَسَم بالنجوم في هذه الحالة لأنها مَظهر من مظاهر القدرة الربانية كقوله تعالى: {والنجم إذا هوى} [النجم: 1].

ويحتمل أن تكون {النازعات} جماعات الرّماة بالسهام في الغزو يقال: نزع في القوس، إذا مدَّها عند وضع السهم فيها. وروي هذا عن عكرمة وعطاء.

والغَرف: الإِغراق، أي استيفاء مدّ القوس بإغراق السهم فيها فيكون قسماً بالرماة من المسلمين الغزاة لشرفهم بأن غزوهم لتأييد دين الله، ولم تكن للمسلمين وهم بمكة يومئذٍ غزوات ولا كانوا يرجونها، فالقَسَم بها إنذار للمشركين بغزوة بدر التي كان فيها خضْد شوكتهم، فيكون من دلائل النبوءة ووعد وعده الله رسوله صلى الله عليه وسلم.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

تعددت الأقوال في معاني الآيات الأربع الأولى... وهذه الأقوال تخمينية كما يبدو. والتعدد آت من إطلاق الصفات وعدم وجود أثر نبوي يحدد المدلولات تحديدا لا يبقى معه محل للتخمين. والمتبادر أن مدلولات هذه الأقسام كانت مفهومة في عهد النبي، وأنها كانت ذات خطورة في الأذهان على أن الجملة الآتية الأخيرة أو الخامسة قد تساعد على القول: إنها أوصاف الملائكة؛ لأنهم الذين يمكن أن يكون منهم تدبير الأمر بأمر من الله تعالى والله أعلم...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وفي مطلع هذه السورة إشارة إلى جملة من القوات الكونية التي سخرها الله وبثها في الكون، لتنفيذ أمره فيه، وتدبير شؤونه طبقا لمشيئته، ووفقا لحكمته. فقال تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم والنازعات غرقا1 والناشطات نشطا2 والسابحات سبحا3 فالسابقات سبقا4 فالمدبرات أمرا5 يوم ترجف الراجفة6 تتبعها الرادفة7}. ولتقريب معنى هذه الأشياء المقسم بها من الأذهان يمكن أن يكون معنى {النازعات غرقا1} كل ما أودعت فيه قوة نزع الأشياء من مقارها بشدة، وأن يكون معنى {الناشطات نشطا2} كل ما أودعت فيه قوة إخراج الأشياء في خفة ولين، وأن يكون معنى {السابحات سبحا3} كل ما أودعت فيه قوة السرعة في تأدية وظائفه بسهولة ويسر، وأن يكون معنى {السابقات سبقا4} كل الأشياء التي تسبق في أداء ما وكل إليها سبقا عظيما، وأن يكون معنى {المدبرات أمرا5} كل الكائنات التي وكل الله إليها تدبير الأمور وتصريفها، بما أودع فيها من خصائص، وهذه المعاني التي اختارتها لجنة (المنتخب في تفسير القرآن الكريم)، هي أعم ما يمكن أن تحمل عليه المفردات الواردة في مطلع هذه السورة، المقسم بها على قيام الساعة وزلزلتها العظمى، {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} (الحج: 1)، وبذلك يقع تفادي ما وقع في تفسير هذه المفردات من تضارب واختلاف عند قدماء المفسرين،...

الشعراوي-1419هـ:

{والنّازعات غرقاً (1) والنّاشطات نشطاً (2) والسّابحات سبحاً (3) فالسّابقات سبقاً (4) فالمدبّرات أمراً (5)} قسم بأشياء، إلا أن هذه الأشياء يكتنفها الغموض، مما يذهب فيها الذهن مذاهب شتى.

والإبهام مقصد من مقاصد البيان؛ لأنه لو بيّن دائماً لجاء الأسلوب دائماً على وجه واحد، ولكنه حين يبهم يذهب الفكر مذاهب شتى؛ ليتساءل: ما هي النازعات؟! وما هي الناشطات؟!

فيجد أن {والنّازعات} تفسر على معانٍ متعددة، و {النّاشطات} تفسر على معانٍ متعددة، و {والسابحات} تفسر على معانٍ متعددة، و {فالسّابقات} تفسر على معانٍ متعددة، وكلها مما يحتمله اللفظ.

إذاً.. فإذا رأيت في القرآن إبهاماً لشيء فاعلم أن ذلك الإبهام مقصد من مقاصد البيان؛ لأن الشيء إذا بيّن على وجه واحد، والحق يريد أن يذهب فكرك فيه مذاهب شتى، وكل مذهب فيه تجد النص يسعفه ويسنده.

لذلك نستطيع أن نقول: إن البيان يحدد، والإبهام يعدد.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

مكية بإجماع ، وهي خمس أو ست وأربعون آية .

قوله تعالى : " والنازعات غرقا " أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها ، على أن القيامة حق . و " النازعات " : الملائكة التي تنزع أرواح الكفار ، قاله علي رضي الله عنه ، وكذا قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد : هي الملائكة تنزع نفوس بين آدم . قال ابن مسعود : يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم ، من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعا كالسفود ينزع من الصوف الرطب ، يغرقها ، أي يرجعها في أجسادهم ، ثم ينزعها فهذا عمله بالكفار . وقاله ابن عباس . وقال سعيد بن جبير : نزعت أرواحهم ، ثم غرقت ، ثم حرقت ، ثم قذف بها في النار . وقيل : يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرق . وقال السدي : و " النازعات " هي النفوس حين تغرق في الصدور . مجاهد : هي الموت ينزع النفوس . الحسن وقتادة : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق ، أي تذهب ، من قولهم : نزع إليه أي ذهب ، أو من قولهم : نزعت الخيل أي جرت . " غرقا " أي إنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر . وقاله أبو عبيدة وابن كيسان والأخفش . وقيل : النازعات القسي تنزع بالسهام ، قاله عطاء وعكرمة . و " غرقا " بمعنى إغراقا ، وإغراق النازع في القوس أن يبلغ غاية المد ، حتى ينتهي إلى النصل . يقال : أغرق في القوس أي استوفي مدها ، وذلك بأن تنتهي إلى العقب الذي عند النصف الملفوف عليه . والاستغراق الاستيعاب . ويقال لقشرة البيضة الداخلة : " غِرقِئ " . وقيل : هم الغزاة الرماة .

قلت : هو والذي قبله سواء ؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد النازعون بها تعظيما لها ، وهو مثل قوله تعالى : " والعاديات ضبحا " [ العاديات : 1 ] والله أعلم . وأراد بالإغراق : المبالغة في النزع وهو سائر في جميع وجوه تأويلها . وقيل : هي الوحش تنزع{[15764]} من الكلأ وتنفر . حكاه يحيى ابن سلام . ومعنى " غرقا " أي إبعادا في النزع .


[15764]:في نسخ الأصل: تنزع من الكلأ. وفي البحر: تنزع إلى . . . . . الخ.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مكية وآياتها ست وأربعون . وهي مبدوءة بجملة أقسام ، إذ يقسم الله بأجزاء من خلقه على أن الساعة حق وأن الناس مبعثون من قبورهم ليساقوا إلى المحشر حيث الحساب والجزاء .

وفي السورة تذكير بقصة موسى { إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } إذ أمره الله أن يذهب إلى فرعون فينذره ويحذره فظاعة ظلمه وطغيانه لكنه بشقوته أبى وعتا واستكبر ، وقال مقالته الظالمة النكراء { أنا ربكم الأعلى } فانتقم الله منه بذلك أشد انتقام جزاء مقالته هذه والتي سبقتها وهي قوله : { ما علمت لكم من إله غيري } .

وفي السورة تذكير بجيئة الطامة الكبرى . لا جرم أن التسمية بهذا الاسم القارع المثقل ، يصوّر للأذهان والأخيلة والجنان فظاعة هذا الحدث الكوني المرعب الذي توضع فيه الموازين ، وتجتمع فيه الخلائق كافة لتناقش الحساب . وحينئذ تغشى الناس غاشية من الذعر والحسرة والندم ، وليس لها من دون كاشفة ولا منجاة .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ والنازعات غرقا 1 والناشطات نشطا 2 والسابحات سبحا 3 فالسابقات سبقا 4 فالمدبرات أمرا 5 يوم ترجف الراجفة 6 تتبعها الرادفة 7 قلوب يومئذ واجفة 8 أبصارها خاشعة 9 يقولون أإنّا لمردودون في الحافرة 10 أإذا كنا عظاما نخرة 11 قالوا تلك إذا كرّة خاسرة 12 فإنما هي زجرة واحدة 13 فإذا هم بالساهرة } .

هذه أشياء من خلق الله قد أقسم الله بها على أن القيامة حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها فقال سبحانه : { والنازعات غرقا } فقد أقسم الله بالنازعات وهي الملائكة التي تنزع أرواح الأشقياء والظالمين بغلظة وفظاظة { غرقا } منصوب على المصدر . أي تقذفها في النار عقب انتزاعها من الأجساد .