في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى :

( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) . .

والأمشاج : الأخلاط . وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح . وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة ، والتي يمثلها ما يسمونه علميا " الجينات " وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولا ولصفات الجنين العائلية أخيرا . وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان ، لا جنين أي حيوان آخر . كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة . . ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى . .

خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج ، لا عبثا ولا جزافا ولا تسلية ، ولكنه خلق ليبتلي ويمتحن ويختبر . والله سبحانه يعلم ما هو ? وما اختباره ? وما ثمرة اختباره ? ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود ، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود ، وأن تتبعه آثاره المقدرة . ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه .

ومن ثم جعله سميعا بصيرا . أي زوده بوسائل الإدراك ، ليستطيع التلقي والاستجابة . وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار . ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار . .

وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها ، وهي خلقته من نطفة أمشاج . . كانت وراءها حكمة . وكان وراءها قصد . ولم تكن فلتة . . كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره . ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة ، والمعرفة والاختبار . . وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة . . بمقدار !

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

{ من نطفة } من مني ، وهو ماء الرجل وماء المرأة ، ممتزج أحدهما بالآخر ؛ كما قال تعالى : { أمشاج } أي أخلاط بمعنى مختلط من الماءين . أو من عناصر شتى يقال : مشج بينهما – من باب ضرب – خلط ومزج . وهو جمع مشج كسبب ، أو مشيج ككتف ، أو مشيج كنصير . وقيل : مختلطة ، وأمشاج مفرد جاء على أفعاله ؛ كأعشار في قولهم : برمة أعشار ، أي منكسرة . { نبتليه } مبتلين له ؛ أي مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف حين يتأهل لذلك . { فجعلناه سميعا بصيرا } ليتمكن من الاستماع للآيات التنزيلية ، والنظر في الآيات التكوينية .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

أمشاج : أخلاط واحدها مشج ومشيج .

نبتليه : نختبره .

ثم أتبعه بذِكر العناصر الداخلة في تكوين الإنسان فقال :

{ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } .

خلقنا هذا الإنسان من نطفة فيها أعدادٌ لا تحصى من الحُويّنات التي لا تُرى بالعين المجردة ، وهذه النطفة تختلط ببيضةِ المرأة ، وباتحادِهما يتكون الجنين ، وهاتان النطفتان مخلوقتان من عناصر مختلفة ، وتلك العناصرُ آتيةٌ من النبات والحيوان الداخلَين في طعام الآباء والأمهات ، ومن الماء الذي يشربونه . . فهي أخلاط ، كُونت ومزجت وصارت دماً ، فنطفةً ، فعلقة الخ . . . . .

وقد خلقنا هذا الإنسان لِنبتليَه بالتكاليف فيما بعدُ ، ثم أعطيناه السمع والبصر ليتمكن من استماع الآياتِ ومشاهدة الدلائل ، ويعقِل ويفكر .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم خلق ذريته، فقال: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه} يعني ماء مختلطا، وهو ماء الرجل، وماء المرأة، فإذا اختلطا، فذلك المشج

فيها تقديم، يقول: جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.

{فجعلناه} بعد النطفة {سميعا بصيرا} لنبتليه، أي جعلناه نطفة، علقة، مضغة، ثم صار إنسانا بعد ماء ودم، {فجعلناه سميعا بصيرا} من بعد ما كان نطفة ميتة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيه": إنا خلقنا ذرّية آدم من نطفة، يعني: من ماء الرجل وماء المرأة، والنطفة: كلّ ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة، أو غير ذلك.

وقوله: أمْشاجٍ يعني: أخلاط.

واختلف أهل التأويل في معنى الأمشاج الذي عنى بها في هذا الموضع؛

فقال بعضهم: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.

وقال آخرون: إنما عُني بذلك: إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليها، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم كسي لحما.

وقال آخرون: عُني بذلك اختلاف ألوان النطفة.

وقال آخرون: بل هي العروق التي تكون في النطفة.

وأشبه هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ: نطفة الرجل ونطفة المرأة، لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج، وهي إذا انتقلت فصارت علقة، فقد استحالت عن معنى النطفة...

"نَبْتَلِيهِ": نختبره. وكان بعض أهل العربية يقول: المعنى: جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، فهي مقدّمة معناها التأخير، إنما المعنى خلقناه وجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، ولا وجه عندي لما قال يصحّ، وذلك أن الابتلاء إنما هو بصحة الآلات وسلامة العقل من الآفات، وإنْ عُدِمَ السمع والبصر. وأما إخباره إيانا أنه جعل لنا أسماعا وأبصارا في هذه الآية، فتذكير منه لنا بنعمه، وتنبيه على موضع الشكر فأما الابتلاء فبالخلق مع صحة الفطرة، وسلامة العقل من الاَفة، كما قال: "ومَا خَلَقْتُ الجِنّ والإنْسَ إلاّ لِيَعبُدون".

" فَجَعَلْناهُ سمِيعا بَصِيرا": فجعلناه ذا سمع يسمع به، وذا بصر يبصر به، إنعاما من الله على عباده بذلك، ورأفة منه لهم، وحجة له عليهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ثم قوله عز وجل: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة} منصرف إلى أولاد آدم، فيكون المعنى من الانسان أولاده. ثم ذكر لهم ابتداء أحوالهم وما تنتهي إليه عاقبتهم، وهو الموت، ليتعظوا به، ويتذكروا.

ووجه الاتعاظ، هو أنهم إذا علموا ابتداء أحوالهم، وعلموا ما تنتهي إليه عاقبتهم، علموا في الحال التي هم فيها أن أنفسهم في أبدانهم ليست لهم، بل هي عارية في أبدانهم؛ إذ لم يكن منهم صنع في الابتداء، وأمانة، والحق على الأعين أن تقوم بحفظ الأمانة ورعايتها وألا تخون صاحبها فيها. فإن هو خانها، ولم يتول حفظها لحقته المسبة والمذمّة. وإن حفظها، ورعاها حق رعايتها، استوجب الحمد والثناء من صاحبها.

والحق على المستعير أن يتمتع بالعارية، وينتفع بها إلى الوقت الذي أذن له، وألا يضيعها. فإن ضيعها لحقته الغرامة والضمان بتضييعه إياها.

وكذلك إذا علموا أنها في أبدانهم عارية وأمانة علموا أن عليهم رعايتها واستعمالها في الوجه الذي أذن لهم فيها، فلا تلحقهم التبعة في العاقبة، ولا تلزمهم المسبة والمذمة في ذلك في الدنيا والآخرة، والله أعلم.

والثاني: أن النظر في ابتداء الخلقة إلى ما يصير عند انقضاء الأمر، يدعو إلى إيجاب القول بالبعث إلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل من الأخبار؛ وذلك أن التأمل في ابتداء الخلقة يظهر عجيب قدرة الله تعالى ولطيف حكمته، ويعلم أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ، لا يجوز أن يقع قصده من إنشاء الخلق للإفناء خاصة لخروجه عن حد الحكمة، فيحملهم على القول بالبعث. ولأن النظر في ابتداء الخلقة والنظر إلى ما يرجع إليه بعد الوفاة مما يمنع الافتخار والتكبر لأن إنشاءه كان من نطفة، يستقذرها الخلائق، ومن علقة ومضغة، يستخبثها كل أحد، وبعد الممات يصير حقة قذرة.

ومن كان هذا شأنه لم يحسن التكبر في مثله، فكان في تذكير أوائل الأحوال وأواخرها موعظة لهم ليتعظوا، ويتبصروا، وتعريف لهم أن التكبر لا يحسن من أمثالهم، فيحملهم ذلك على التواضع وترك الافتخار والتجبر، والله أعلم.

وقوله تعالى: {نبتليه} بالخير والشر والأمر والنهي. ثم الابتلاء [يحتمل وجهين:

أحدهما: هو الاستظهار لما خفي من الأمور، والله تعالى لا يخفى عليه أمر، فيحتاج إلى استظهاره، ولكن {نبتليه} ليظهر للمبتلى ما كان خفيا عليه بفعله وتركه. وأما الخلق فهم يمتحنون، ويبتلون ليظهر لهم ما كان خفيا عليهم، فيكون الابتلاء منصرفا إليهم لا إلى المبتلي والممتحن.

والثاني: أن الابتلاء لما كان الاستظهار لما خفي من الأمور؛ وذلك يكون بالأمر والنهي، فسمي الأمر من الله تعالى والنهي لعباده ابتلاء لمكان الأمر والنهي لا على تحقيق معنى الابتلاء منه.

وقال الحسن: لما صلح أن يضاف الاستخبار إلى الله تعالى، وإن كان هو خبيرا بما استخبر، فجائز أن يضاف إليه الابتلاء أيضا، وإن كان هو بالذي ابتلاه عالما بصيرا من العبد بعد الابتلاء من الفعل ما كان غائبا، فالله يعرفه شاهدا بفعله، وقبل ذلك كان يعرفه غائبا، لأن معرفة ما يكون أن يعرف مثل كونه غائبا وبعد كونه شاهدا، والله أعلم.

وقوله تعالى: {فجعلناه سميعا بصيرا} أي جعلنا له سمعا، يميز بين ما يؤدي إليه سمعه، وجعلنا له بصرا، يبصر به ما أدى إليه بصر الوجه ليضع كل شيء موضعه، وذلك هو بصر القلب وسمع القلب لأنه خص البشر بالابتلاء لمكان بصر الباطن والسمع الباطن.

ألا ترى أن البهائم لها بصر الظاهر وكذا السمع؟

ويحتمل أي جعلناه {سميعا بصيرا}، يبصر ماله وما عليه وما ينفعه وما يضره، ثم أنشأ فيه السمع والبصر، ولا يعرف كيفية السمع والبصر الذي جعل فيه، ولا ماهيته ولا مم هو لطفا منه، ليعلم أنه منشئ الكيفيّات والماهيّات، وأنه يتعالى عن الوصف له بالكيفية والماهية؟

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى:

(إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا)..

والأمشاج: الأخلاط. وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح. وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة، والتي يمثلها ما يسمونه علميا "الجينات " وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولا ولصفات الجنين العائلية أخيرا. وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان، لا جنين أي حيوان آخر. كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة.. ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى..

خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج، لا عبثا ولا جزافا ولا تسلية، ولكنه خلق ليبتلي ويمتحن ويختبر. والله سبحانه يعلم ما هو؟ وما اختباره؟ وما ثمرة اختباره؟ ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود، وأن تتبعه آثاره المقدرة. ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه.

ومن ثم جعله سميعا بصيرا. أي زوده بوسائل الإدراك، ليستطيع التلقي والاستجابة. وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار. ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار..

وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها، وهي خلقته من نطفة أمشاج.. كانت وراءها حكمة. وكان وراءها قصد. ولم تكن فلتة.. كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره. ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة، والمعرفة والاختبار.. وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة.. بمقدار!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه {هل أتى على الإِنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} [الإنسان: 1] لما فيه من التشويق.

والتقرير يقتضي الإِقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة، فالسامع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له: إن الله خلقه بعد أن كان معدوماً فأوجَد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنساناً، فثبت تعلُّق الخلق بالإِنسان بعد عدمه.

وتأكيد الكلام بحرف (إنَّ) لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أنّ الله خلق الإِنسان لعدم جريهم على موجَب العلم حيث عبدوا أصناماً لم يخلقوهم.

والمراد ب {الإنسان} مثل ما أريد به في قوله: {هل أتى على الإنسان} [الإنسان: 1] أي كل نوع الإِنسان.

وجملة {نبتليه} في موضع الحال من الإِنسان وهي حال مقدرة، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف، وهذه الحال كقولهم: مررتُ برجل معه صِقر صائداً به غداً.

وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة {خلقنا} وبين {فجعلناه سَميعاً بصيراً} لأن الابتلاء، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير، فكان مقتضى الظاهر أن يقع {نبتليه} بعد جملة {إنا هديناه السبيل} [الإنسان: 3]، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة.

وجيء بجملة {إنا هديناه السبيل بياناً لجملة نبتليه} تفنناً في نظم الكلام.

وحقيقة الابتلاء: الاختبار لتُعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظيم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته.

وفُرع على خلقه {من نطفة} أنه جعله {سميعاً بصيراً}، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه: سامعاً مبصراً، لأن سمع الإِنسان وبصره أكثر تحصيلاً وتمييزاً في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان، فبالسمع يتلقَّى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وُجود الله وبديع صنعه

وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإِنسانَ من جعله تجاه التكليف واتباع الشرائع وتلك خصيصية الإِنسان التي بها ارتكزتْ مدنيته وانتظمت جامعاته، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله: {إنا هديناه السبيل الآيات.

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

{ إنا خلقنا الإنسان } يعني ابن آدم { من نطفة أمشاج } أخلاط يعني ماء الرجل وماء المرأة واختلاف ألوانهما { نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } أي خلقناه كذلك لنختبره بالتكليف والأمر والنهي

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

قوله تعالى : " إنا خلقنا الإنسان " أي ابن آدم من غير خلاف " من نطفة " أي من ماء يقطر وهو المني ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، كقول عبدالله بن رواحة يعاتب نفسه :

مالي أراكِ تكرهينَ الجنة *** هل أنت إلا نطفةٌ في شَنَّهْ{[15657]}

وجمعها : نطف ونطاف . " أمشاج " أخلاط . واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين ، قال رؤبة :

يَطْرَحْنَ كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجِ *** لم يُكسَ جِلْدًا في دمٍ أمشاجِ

ويقال : مشجت هذا بهذا أي خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ، مثل مخلوط وخليط . وقال المبرد : واحد الأمشاج : مشيج ، يقال : مشج يمشج : إذا خلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، قال الشماخ :

طَوَتْ أحشاء مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ *** على مَشَجٍ سلالتُه مَهِينُ

وقال الفراء : أمشاج : أخلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة . ويقال للشيء من هذا إذا خلط : مشيج كقولك خليط ، وممشوج كقولك مخلوط . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : الأمشاج : الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة . وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة ، قال الهذلي{[15658]} :

كان الرِّيشَ والفُوقَيْنِ منه *** خلافَ النصلِ سِيطَ به مَشِيجُ

وعن{[15659]} ابن عباس أيضا قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة . وقد روي هذا مرفوعا ، ذكره البزار .

وروي عن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة . وعنه : ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان . وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء . وقال ابن عباس : خلق من ألوان ، خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم . ونحوه قال قتادة : هي أطوار الخلق : طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما ، كما قال في سورة " المؤمنون " " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " [ المؤمنون : 12 ] الآية . وقال ابن السكيت : الأمشاج الأخلاط ؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة . وقال أهل المعاني : الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد ؛ لأنه نعت للنطفة ، كما يقال : برمة أعشار وثوب أخلاق . وروي عن أبي أيوب الأنصاري : قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال : [ ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ] فقال الحبر : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة " البقرة " .

قوله تعالى : " نبتليه " أي نختبره . وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار . وفيما يختبر به وجهان : أحدهما : نختبره بالخير والشر . قاله الكلبي . الثاني : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء . قاله الحسن . وقيل : " نبتليه " نكلفه . وفيه أيضا وجهان : أحدهما : بالعمل بعد الخلق . قاله مقاتل . الثاني : بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي . وروي عن ابن عباس : " نبتليه " : نصرفه خلقا بعد خلق ؛ لنبتليه بالخير والشر . وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال : المعنى والله أعلم " فجعلناه سميعا بصيرا " لنبتليه ، وهي مقدمة معناها التأخير .

قلت : لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة . وقيل : " جعلناه سميعا بصيرا " : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى ، وبصرا يبصر به الهدى .


[15657]:الشنة: القربة.
[15658]:هو عمرو بن الداخل الهذلي. وفي (اللسان: مشج) زهير بن حرام الهذلي. سيط به: أي خرج قذذ من الريش مختلط من الدم والماء.
[15659]:وفي حاشية الجمل نقلا عن القرطبي ما يأتي: والمعنى: "من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام، والخواص تجتمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة، ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له".
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

{ من نطفة أمشاج } أي : أخلاط واحدها مشج بفتح الميم وشين ، وقيل : مشج بوزن عدل ، وقال الزمخشري : ليس أمشاج بجمع وإنما هو مفرد كقولهم برمة أعشار ، ولذلك أوقع صفة للمفرد واختلف في معنى الأخلاط هنا ، فقيل : اختلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، وقيل : اختلاط ماء الرجل والمرأة وروي : أن عظام الإنسان ، وعصبه من ماء الرجل ، وأن لحمه وشحمه من ماء المرأة ، وقيل : معناه ألوان وأطوار أي : يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة .

{ نبتليه } أي : نختبره وهذه الجملة في موضع الحال أي : خلقناه مبتلين له وقيل : معناه نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة .

{ فجعلناه سميعا بصيرا } هذا معطوف على خلقنا الإنسان ومن جعل نبتليه وهذا تكلف بعيد .