وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون ، أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .
إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان ، والانحياز النهائي للصف المتميز ، والتجرد من كل عائق وكل جاذب ، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد .
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) . .
فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين : ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله ! فإما إيمان أو لا إيمان . أما هما معا فلا يجتمعان .
( ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) . .
فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان . إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين : لواء الله ولواء الشيطان . والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد . ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر . وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن . وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير . وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم . متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله .
( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) . .
فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن . فلا زوال له ولا اندثار ، ولا انطماس فيه ولا غموض !
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله . وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق ، ويصلهم بمصدر القوة والإشراق .
( ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) . .
جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ؛ ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية .
( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) . .
وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة ، ترسم حالة المؤمنين هؤلاء ، في مقام عال رفيع . وفي جو راض وديع . . ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم . انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به ؛ فتقبلهم في كنفه ، وأفسح لهم في جنابه ، وأشعرهم برضاه . فرضوا . رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه . .
فهم جماعته . المتجمعة تحت لوائه . المتحركة بقيادته . المهتدية بهديه . المحققة لمنهجه . الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه . فهي قدر من قدر الله .
( ألا إن حزب الله هم المفلحون ) .
ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون ?
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين : حزب الله وحزب الشيطان . وإلى رايتين اثنتين : راية الحق وراية الباطل . فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق ، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل . . وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان ! !
لا نسب ولا صهر ، ولا أهل ولا قرابة ، ولا وطن ولا جنس ، ولا عصبية ولا قومية . . أنما هي العقيدة ، والعقيدة وحدها . فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله . تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم ، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم ، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله ، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة . ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل ، فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة . لا من أرض ، ولا من جنس ، ولا من وطن ولا من لون ، ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر . . لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا . .
ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة ، مما تعالجه هذه الآية في النفوس ، وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم ، والمفاضلة القاطعة . . إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة ، ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام .
وهذه الصورة هي أنسب ختام للسورة التي بدأت بتصوير رعاية الله وعنايته بهذه الأمة في واقعة المرأة الفقيرة التي سمع الله لها وهي تجادل رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] في شأنها وشأن زوجها !
فالانقطاع لله الذي يرعى هذه الأمة مثل هذه الرعاية هو الاستجابة الطبيعية . والمفاضلة بين حزب الله وحزب الشيطان هي الأمر الذي لا ينبغي غيره للأمة التي اختارها الله للدور الكوني الذي كلفها إياه .
يوادّون : يتقربون إليهم بالمودة والمحبة .
بروح منه : بنور وعزم من عنده .
ثم بين تعالى أن الإيمانَ الحقّ لا يجتمع مع موالاة أعداء الله ، مهما قرُبَ بهم النسبُ ولو كانوا آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو من العشيرة القريبة . وهذا معنى قوله تعالى :
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله . . . . } ، لا تجدُ قوما يجمعون بين الإيمان باللهِ ورسولهِ واليوم الآخر ، ومَودَّةِ أعدائه مهما كانت قرابتُهم .
{ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، فهؤلاء الذين يُخلِصون لله ولا يوالون الجاحدين الذين يحادُّون الله ثَبَّتَ اللهُ في قلوبهم الإيمانَ وأيَّدهم بقوّة منه ، ويُدخِلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها لا ينقطع نعيمها ، قد أحبَّهم اللهُ وأحبّوه ورضيَ عنهم ورضُوا عنه .
{ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } ، لأنهم أهلُ السعادة والفلاح والنصر في الدنيا والآخِرة ونِعْمَة الخاتمة .
{ 22 } { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
يقول تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : لا يجتمع هذا وهذا ، فلا يكون العبد مؤمنا بالله واليوم الآخر حقيقة ، إلا كان عاملا على مقتضى الإيمان{[1022]} ولوازمه ، من محبة من قام بالإيمان وموالاته ، وبغض من لم يقم به ومعاداته ، ولو كان أقرب الناس إليه .
وهذا هو الإيمان على الحقيقة ، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه ، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي : رسمه وثبته وغرسه غرسا ، لا يتزلزل ، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك .
وهم الذين قواهم الله بروح منه أي : بوحيه ، ومعونته ، ومدده الإلهي وإحسانه الرباني .
وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار ، ولهم جنات النعيم في دار القرار ، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وتختار ، ولهم أكبر النعيم وأفضله ، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا ، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات ، ووافر المثوبات ، وجزيل الهبات ، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية ، ولا فوقه نهاية{[1023]} .
وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله ، محب لمن ترك الإيمان{[1024]} وراء ظهره ، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له ، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه ، فمجرد الدعوى ، لا تفيد شيئا ولا يصدق صاحبها .
قوله عز وجل : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } الآية . أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمناً لا يوالي من كفر ، وإن كان من عشيرته . قيل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وسيأتي في سورة الممتحنة ، إن شاء الله عز وجل . وروى مقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال : { ولو كانوا آباءهم } يعني : أبا عبيدة ابن الجراح ، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد { أو أبناءهم } يعني : أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال رسول الله دعني أكن في الرحلة الأولى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : متعنا بنفسك يا أبا بكر ، { أو إخوانهم } يعني : مصعب ابن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد ، { أو عشيرتهم } يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وعلياً وحمزة وعبيدة قتلوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عبة . { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة ، وقيل : حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه ، { وأيدهم بروح منه } قواهم بنصر منه . قال الحسن : سمى نصره إياهم روحاً لأن أمرهم يحيا به . وقال السدي : يعني بالإيمان . وقال الربيع : يعني بالقرآن وحجته ، كما قال : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } ( الشورى- 52 ) وقيل برحمة منه . وقيل أمدهم بجبريل عليه السلام . { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } .
{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } الآية ، أخبر الله في هذه الآية أن المؤمن لا يوالي الكافر وإن كان أباه أو أخاه أو قريبه وذلك أن المؤمنين عادوا آباءهم وعشائرهم وأقاربهم فمدحهم الله على ذلك فقال :{ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أي أثبته ، { وأيدهم بروح منه } بنور الإيمان وقيل بالقرآن ثم وعدهم الإدخال في الجنة فقال { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } .
الأولى- قوله تعالى :{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون }أي يحبون ويوالون { من حاد الله ورسوله } تقدم{[14801]} ، { ولو كانوا آباءهم } قال السدي : نزلت في عبدالله بن{[14802]} عبدالله بن أبي ، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء ، فقال له : بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي ، لعل الله يطهر بها قلبه ؟ فأفضل له فأتاه بها ، فقال له عبدالله : ما هذا ؟ فقال : هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها . فقال له أبوه : فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها ، فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ! أما أذنت لي في قتل أبي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل ترفق به وتحسن إليه ) .
وقال ابن جريج : حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر ابنه صَكَّةً فسقط منها على وجهه ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : ( أو فعلته ، لا تعد إليه ) فقال : والذى بعثك بالحق نبيا لو كان السيف مني قريبا لقتلته . وقال ابن مسعود : نزلت في أبي عبيدة بن الجراح ، قتل أباه عبدالله بن الجراح يوم أحد وقيل : يوم بدر . وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة وأبوعبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله ، فأنزل الله حين قتل أباه : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر } الآية . قال الواقدي : كذلك يقول أهل الشام . ولقد سألت رجالا من بني الحرث بن فهر فقالوا : توفي أبوه من قبل الإسلام .
{ أو أبناءهم } يعني أبا بكر دعا ابنه عبدالله إلى البراز يوم بدر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر ) . { أو إخوانهم } يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر ، { أو عشيرتهم } يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وعلي وحمزة قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر . وقيل : إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، على ما يأتي بيانه أول سورة " الممتحنة " إن شاء الله تعالى . بين أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب .
الثانية- استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم . قال أشهب عن مالك : لا تجالس القدرية وعادهم في الله ، لقوله تعالى :{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } .
قلت : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان . وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان ، وعن عبد العزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت ) { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر - إلى قوله - أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أي خلق في قلوبهم التصديق ، يعني من لم يوال من حاد الله . وقيل : كتب أثبت ، قاله الربيع بن أنس . وقيل : جعل ، كقوله تعالى : " فاكتبنا مع الشاهدين{[14803]} " [ آل عمران : 53 ] أي اجعلنا . وقوله : { فسأكتبها للذين يتقون{[14804]} } [ الأعراف : 156 ] وقيل :{ كتب } أي جمع ، ومنه الكتيبة ، أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض . وقراءة العامة بفتح الكاف من { كتب }ونصب النون من { الإيمان } بمعنى كتب الله وهو الأجود ، لقوله تعالى :{ وأيدهم بروح منه } ، وقرأ أبو العالية وزر بن حبيش والمفضل عن عاصم " كتب " على ما لم يسم فاعله " الإيمان " برفع النون . وقرأ زر بن حبيش { وعشيراتهم } بألف وكسر التاء على الجمع ، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم . وقيل : { كتب في قلوبهم } أي على قلوبهم ، كما في قلوبهم { في جذوع النخل{[14805]} } [ طه : 71 ] وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان . { وأيدهم بروح منه } قواهم ونصرهم بروح منه ، قال الحسن : وبنصر منه . وقال الربيع بن أنس : بالقرآن وحججه . وقال ابن جريج : بنور وإيمان وبرهان وهدى . وقيل : برحمة من الله . وقال بعضهم : أيدهم بجبريل عليه السلام . { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم } أي قبل أعمالهم { ورضوا عنه } فرحوا بما أعطاهم ، { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه ، قال داود عليه السلام : إلهي ! مَن حزبك وحول عرشك ؟ فأوحى الله إليه : ( يا داود الغاضة أبصارهم ، النقية قلوبهم ، السليمة أكفهم ، أولئك حزبي وحول عرشي ) .
ولما ظهر بهذا كالشمس أن من والاه{[63517]} سبحانه كان فائزاً ، ومن عاداه كان خاسراً ، كانت نتيجته قطعاً التحذير من موالاة أعداء الله في سياق النفي المفيد للمبالغة في النهي عنه والزجر عن قربانه فقال{[63518]} : { لا تجد } أي بعد هذا البيان { قوماً } أي ناساً لهم قوة على {[63519]}ما يريدون محاولته{[63520]} { يؤمنون } أي يجددون الإيمان ويديمونه { بالله } أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى { واليوم الآخر } الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما{[63521]} عمل ، الذي هو محط الحكمة ، { يوادون } أي يحصل منهم ود لا{[63522]} ظاهراً و{[63523]}لا باطناً - بما أشار إليه الإدغام وأقله الموافقة في المظاهرة{[63524]} ، { من حاد الله } أي عادى{[63525]} بالمناصبة في الحدود الملك{[63526]} الأعلى لذلك فالمحادة{[63527]} لا تخفى وإن كانت باطنة يستتر بها صاحبها لأن الظاهر عنوان الباطن ، والأفعال دليل [ على-{[63528]} ] الأقوال ، وهذا حامل على زيادة{[63529]} النفرة منهم ، { ورسوله } فإن من حاده فقد حاد الذي أرسله ، بل لا تجدهم إلا يحادونهم ، لا أنهم يوادونهم ، وزاد ذلك تأكيداً بقوله :{ ولو كانوا آباءهم } الذين أوجب الله على الأبناء{[63530]} طاعتهم بالمعروف ، وذلك كما فعل أبو عبيدة عامر{[63531]} بن الجراح رضي الله عنه ، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ، { أو آبناءهم } الذي جبلوا على محبتهم ورحمتهم كما فعل أبو بكر رضي الله عنه فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة ، وقال : دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" متعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنك بمنزلة سمعي وبصري " {[63532]} ، { أو إخوانهم } الذين{[63533]} هم أعضادهم{[63534]} كما فعل مصعب بن عمير رضي الله عنه ، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخرق سعد{[63535]} بن أبي وقاص رضي الله عنه الصفوف يومئذ على أخيه عتبة بن أبي وقاص غير مرة ليقتله فراع عنه روعان{[63536]} الثعلب ، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتريد أن تقتل نفسك وقتل محمد{[63537]} بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير ، { أو عشيرتهم } الذين هم أنصارهم وأمدادهم{[63538]} كما فعل عمر رضي الله عنه ، قتل خاله العاصي بن هشام بن المغيرة{[63539]} يوم بدر وعلي{[63540]} وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني{[63541]} ربيعة والوليد بن عتبة ، وعن الثوري{[63542]} {[63543]}أن السلف{[63544]} كانوا يرون أن الآية نزلت فيمن يصحب السلطان - انتهى . ومدار ذلك على أن الإنسان يقطع رجاءه من غير{[63545]} الله ، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصاً في إيمانه .
ولما كان لا يحمل على البراءة ممن{[63546]} هذا شأنه إلا صريح الإيمان ، أنتج قوله : { أولئك } أي الأعظمون شأناً الأعلون همماً ، { كتب } أي وصل وأثبت وصلاً هو في لحمته كالخرز في الأديم ، وكالطراز{[63547]} في الثوب الرقيم ، فلا انفكاك له { في قلوبهم الإيمان } فجعلها{[63548]} أوعية له فأثمر ذلك نور الباطن واستقامة الأعمال في الظاهر ، { وأيدهم } أي قواهم وشددهم وأعانهم وشجعهم وعظمهم وشرفهم ، { بروح } أي نور شريف جداً يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من كنوز العلم والعمل{[63549]} فهو لقلوبهم كالروح للأبدان ، فلا يفعلون شيئاً من أحوال أهل{[63550]} الجاهلية كالمظاهرة ، وزاد هذا التأييد شرفاً بقوله : { منه } أي أحياهم به فلا انفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهراً{[63551]} وباطناً ، فقهروا بالدلائل والحجج ، وظهروا بالسيف المفني للمهج ، وعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسرج ، فلا تجد شيئاً أدخل {[63552]}في الإخلاص{[63553]} من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، بل هو عين الإخلاص ، ومن جنح إلى منحرف عن دينه أو داهن مبتدعاً في عقده نزع الله نور التوحيد من قلبه .
ولما أخبر بما آتاهم في الدنيا وهو غير مفارق لهم في الآخرة ، أخبر بما يؤتيهم{[63554]} في الآخرة فقال :{ ويدخلهم جنات } أي بساتين يستر داخلها من كثرة أشجارها ، وأخبر عن ريها بقوله :{ تجري } ولما كانت المياه لو عمت الأرض لم يكن بها مستقر ، أثبت الجار فقال{[63555]} :{ من تحتها الأنهار } أي فهي لذلك كثيرة الرياض والأشجار والساحات والديار . ولما كان ذلك لا يلذ إلا بالدوام قال :{ خالدين فيها } .
ولما كان ذلك لا يتم إلا برضا مالكها قال :{ رضي الله } أي الملك{[63556]} الأعظم الذي له الأمر كله فلا التفات إلى غيره { عنهم } ولما كان ذلك لا يكمل سروره إلا برضاهم ليتم حسن المجاورة قال : { ورضوا عنه } أي لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون . ولما أخبر عنهم بما يسر كل سامع فيشتاق{[63557]} إلى مصاحبتهم ومعاشرتهم ومرافقتهم ومقاربتهم{[63558]} ومدحهم وعرفهم بقوله : { أولئك } أي الذين هم في الدرجة العليا من العظمة لكونهم قصروا ودهم على الله علماً منهم بأنه ليس النفع والضر{[63559]} إلا بيده { حزب الله } أي جند الملك الأعلى{[63560]} الذي أحاط{[63561]} بجميع صفات الكمال وأولياءه ، فإنهم{[63562]} هم يغضبون له ولا يخافون فيه لومة لائم . ولما تبين مما{[63563]} أعد لهم وأعد لأضدادهم أنهم المختصون بكل خير ، قال على طريق الإنتاج مما{[63564]} مضى مؤكداً لما لأضدادهم من الأنكاد : { ألا إن حزب الله } أي جند الملك الأعلى وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم { هم } أي خاصة {[63565]}لا غيرهم{[63566]} { المفلحون * } أي الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين ، وقد علم من الرضى من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الانفكاك عن السعادة فأغنى ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد ، خصهم بذلك لأن له العزة والقوة والعلم والحكمة ، فلذلك علم أمر المجادلة ورحم شكواها لأنها من حزبه وسمع لها ، ومن سمع له فهو مرضي عنه ، وحرم الظهار بسبب شكواها إكراماً لها بحكمته لأنه منابذ للحكمة {[63567]}لأنه تشبيه{[63568]} خارج عن قاعدة التشبيهات{[63569]} ، وفيه امتهان للأم التي لها في دينه غاية الإكرام بالتسوية بالزوجة التي هي محل الافتراش ، وختم آيها{[63570]} بأن من تعدى حدوده فعاود{[63571]} أحوال الجاهلية فهو مجادله سبحانه فهو من حزب الشيطان ، فقد عاد {[63572]}آخرها إلى أولها{[63573]} بأدل دليل على أحسن سبيل ، لأن هذا القرآن العظيم أشرف حديث وأقوم قيل وهذا مقصود التي بعدها ، ولا شك أنه موجب للتنزيه مبعد عن التشريك والتشبيه ، فسبحان من أنزله آية دائمة البيان ، موجبة للإيمان ، قامعة للطغيان ، على مدى الدهور وتطاول الأزمان{[63574]} .