ثم يبدأ جولة جديدة مع الحقيقة الأولى :
( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . وما يدريك لعل الساعة قريب . يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ، ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد . الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز . من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها ، وما له في الآخرة من نصيب ) . .
فالله أنزل الكتاب بالحق وأنزل العدل ؛ وجعله حكما فيما يختلف فيه أصحاب العقائد السالفة ، وفيما تختلف فيه آراء الناس وأهواؤهم ؛ وأقام شرائعه على العدل في الحكم . العدل الدقيق كأنه الميزان توزن به القيم ، وتوزن به الحقوق . وتوزن به الأعمال والتصرفات .
وينتقل من هذه الحقيقة . حقيقة الكتاب المنزل بالحق والعدل . إلى ذكر الساعة . والمناسبة بين هذا وهذه حاضرة ، فالساعة هي موعد الحكم العدل والقول الفصل . والساعة غيب . فمن ذا يدري إن كانت على وشك :
( وما يدريك لعل الساعة قريب ? ) . .
والناس عنها غافلون ، وهي منهم قريب ، وعندها يكون الحساب القائم على الحق والعدل ، الذي لا يهمل فيه شيء ولا يضيع . .
{ 17-18 } { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ }
لما ذكر تعالى أن حججه واضحة بينة ، بحيث استجاب لها كل من فيه خير ، ذكر أصلها وقاعدتها ، بل جميع الحجج التي أوصلها إلى العباد ، فقال : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } فالكتاب هو هذا القرآن العظيم ، نزل بالحق ، واشتمل على الحق والصدق واليقين ، وكله آيات بينات ، وأدلة واضحات ، على جميع المطالب الإلهية والعقائد الدينية ، فجاء بأحسن المسائل وأوضح الدلائل .
وأما الميزان ، فهو العدل والاعتبار بالقياس الصحيح والعقل الرجيح ، فكل الدلائل العقلية ، من الآيات الآفاقية والنفسية ، والاعتبارات الشرعية ، والمناسبات والعلل ، والأحكام والحكم ، داخلة في الميزان الذي أنزله الله تعالى ووضعه بين عباده ، ليزنوا به ما اشتبه من الأمور ، ويعرفوا به صدق ما أخبر به وأخبرت رسله ، مما خرج عن هذين الأمرين عن الكتاب والميزان مما قيل إنه حجة أو برهان أو دليل أو نحو ذلك من العبارات ، فإنه باطل متناقض ، قد فسدت أصوله ، وانهدمت مبانيه وفروعه ، يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها ، وعرف التمييز بين راجح الأدلة من مرجوحها ، والفرق بين الحجج والشبه ، وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة ، والألفاظ المموهة ، ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد ، فإنه ليس من أهل هذا الشأن ، ولا من فرسان هذا الميدان ، فوفاقه وخلافه سيان .
ثم قال تعالى مخوفا للمستعجلين لقيام الساعة المنكرين لها ، فقال : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } أي : ليس بمعلوم بعدها ، ولا متى تقوم ، فهي في كل وقت متوقع وقوعها ، مخوف وجبتها .
قوله تعالى :{ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } قال قتادة ، ومجاهد ، ومقاتل : العدل وسمي العدل ميزاناً لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمر الله تعالى بالوفاء ، ونهى عن البخس . { وما يدريك لعل الساعة قريب } ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي ، ومجازه : الوقت . وقال الكسائي : إتيانها قريب . قال مقاتل : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الساعة ذات يوم ، وعنده قوم من المشركين ، فقالوا تكذيباً : متى تكون الساعة ؟ فأنزل الله هذه الاية .
قوله تعالى : " الله الذي أنزل الكتاب " وما يريدك لعل الساعة قريب يعني القرآن وسائر الكتب المنزلة . " بالحق " أي بالصدق . " والميزان " أي العدل . قاله ابن عباس وأكثر المفسرين . والعدل يسمى ميزانا ؛ لأن الميزان آلة الإنصاف والعدل . وقيل : الميزان ما بين في الكتب مما يجب على الإنسان أن يعمل به . وقال قتادة : الميزان العدل فيما أمر به ونهي عنه . وهذه الأقوال متقاربة المعنى . وقيل : هو الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب . وقيل : إنه الميزان نفسه الذي يوزن به ، أنزله من السماء وعلم العباد الوزن به ؛ لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس . قال الله تعالى : " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " {[13483]} [ الحديد : 25 ] . قال مجاهد : هو الذي يوزن به . ومعنى أنزل الميزان . هو إلهامه للخلق أن يعملوه ويعملوا به . وقيل : الميزان محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينكم بكتاب الله . " وما يدريك لعل الساعة قريب " فلم يخبره بها . يحضه على العمل بالكتاب والعدل والسوية ، والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئ اليوم الذي يكون فيه المحاسبة ووزن الأعمال ، فيوفى لمن أوفى ويطفف لمن طفف . ف " لعل الساعة قريب " أي منك وأنت لا تدري . وقال : " قريب " ولم يقل قريبة ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت . قاله الزجاج . والمعنى : لعل البعث أو لعل مجيء الساعة قريب . وقال الكسائي : " قريب " نعت ينعت به المذكر والمؤنث والجمع بمعنى ولفظ واحد . قال الله تعالى : " إن رحمة الله قريب من المحسنين " {[13484]} [ الأعراف : 56 ] قال الشاعر :
وكنا قريبا والديار بعيدة *** فلما وصلنا نُصْب أعينهم غِبْنَا