فهذا هو ذا يختم السورة بنداء جديد ، يحمل طابعا جديدا ، وإغراء جديدا ، وموحيا جديدا :
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة . فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين . .
والحواريون هم تلاميذ المسيح - عليه السلام - قيل : الاثنا عشر الذين كانوا يلوذون به ، وينقطعون للتلقي عنه . وهم الذين قاموا بعد رفعه بنشر تعاليمه وحفظ وصاياه .
والآية هنا تهدف إلى تصوير موقف لا إلى تفصيل قصة ، فنسير نحن معها في ظلالها المقصودة إلى الغاية من سردها في هذا الموضع من السورة .
( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ) . . في هذا الموضع الكريم الذي يرفعكم إليه الله . وهل أرفع من مكان يكون فيه العبد نصيرا للرب ? ! إن هذه الصفة تحمل من التكريم ما هو أكبر من الجنة والنعيم . . كونوا أنصار الله ، ( كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون : نحن أنصار الله ) . . فانتدبوا لهذا الأمر ونالوا هذا التكريم . وعيسى جاء ليبشر بالنبي الجديد والدين الأخير . . فما أجدر أتباع محمد أن ينتدبوا لهذا الأمر الدائم ، كما انتدب الحواريون للأمر الموقوت ! وهذه هي اللمسة الواضحة في عرض هذا الحوار في هذا السياق .
( فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) . .
وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين : إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام هم المسيحيون إطلاقا من استقام ومن دخلت في عقيدته الانحرافات ، وقد أيدهم الله على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا كما حدث في التاريخ . وإما أن الذين آمنوا هم الذين أصروا على التوحيد في وجه المؤلهين لعيسى والمثلثين وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد . ومعنى أنهم أصبحوا ظاهرين أي بالحجة والبرهان . أو أن التوحيد الذي هم عليه هو الذي أظهره الله بهذا الدين الأخير ؛ وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض كما وقع في التاريخ . وهذا المعنى الأخير هو الأقرب والأرجح في هذا السياق .
والعبرة المستفادة من هذه الإشارة ومن هذا النداء هي العبرة التي أشرنا إليها ، وهي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير ، الأمناء على منهج الله في الأرض ، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية . المختارين لهذه المهمة الكبرى . استنهاض همتهم لنصرة الله ونصرة دينه ( كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون : نحن أنصار الله ) . . والنصر في النهاية لأنصار الله المؤمنين .
إنها الجولة الأخيرة في السورة ، واللمسة الأخيرة في السياق ؛ وهي ذات لون وذات طعم يناسبان جو السورة وسياقها ، مع ما فيها من تجدد في اللون وتنوع في المذاق . .
{ للحواريين } أصفياء عيسى عليه السلام وخواصه . وكانوا اثني عشر رجلان وهم أول من آمن به من بني إسرائيل [ آية 52 آل عمران ص 109 ] . { من أنصاري إلى الله } من جندي متوجها إلى نصرة الله . { نحن أنصار الله } أي نحن الذين ينصرون دين الله .
{ فأيدنا الذين آمنوا . . . } أي قوينا الذين آمنوا بعيسى ، وأنه عبد الله ورسوله . { فأصبحوا ظاهرين } غالبين مؤيدين بالحجج والدلائل بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم على الكافرين بالله ، الزاعمين أن عيسى هو الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة ؛ تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا ! والله أعلم
الحواريون : الأصفياء والخلاّن .
ثم أمر الله تعالى المؤمنين أن يعملوا ويجدّوا ويكونوا أنصار الله في كل حين ، فلا يتخاذلوا ولا يتناحروا ويتحاربوا ، وأن لا يتوكلوا فيقعدوا ويطلبوا النصر ، بل عليهم أن يعملوا ويجاهدوا حتى يكتب الله لهم النصر . فقال : { يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله } فاستعدّوا وأعدّوا من قوتكم ما استطعتم ، ولا تنتظروا من أعدائكم أن يحلّوا لكم قضيتكم وينصروكم .
وكيف ينصرونكم والبلاء منهم ، وهم الذين يدعمون عدوكم ويمدّونه بالمال والسلاح ! ! .
وخلاصة القول : كونوا أنصار الله في جميع أعمالكم وأقوالكم واستعدّوا دائما ، كما استجاب الحواريّون لعيسى .
{ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } ، وأنتم أيها المسلمون ، في هذا العصر إذا كنتم تريدون أن تبقوا في بلادكم وأن تستردوا الأراضي المقدسة وما اغتُصب من وطنكم ، على يد اليهود والدولة الكبرى حليفتهم والمؤيدة لهم ، فجاهدوا جهادا حقيقيا في سبيل الله ينصركم الله ، وتصبحوا ظاهرين غالبين .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : كونوا أنصارا لله بالتنوين . وقرأ الباقون : كونوا أنصار الله بالإضافة . وقرأ نافع وحده : من أنصاريَ إلى الله بفتح الياء . والباقون : أنصاري إلى الله .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ } [ أي : ] بالأقوال والأفعال ، وذلك بالقيام بدين الله ، والحرص على إقامته{[1089]} على الغير ، وجهاد من عانده ونابذه ، بالأبدان والأموال ، ومن نصر الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق ، بدحض حجته ، وإقامة الحجة عليه ، والتحذير منه .
ومن نصر دين الله ، تعلم كتاب الله وسنة رسوله ، والحث على ذلك ، [ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ] .
ثم هيج الله المؤمنين بالاقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله : { كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } أي : قال لهم عارضا ومنهضا{[1090]} من يعاونني ويقوم معي في نصرتي لدين الله ، ويدخل مدخلي ، ويخرج مخرجي ؟ . فابتدر الحواريون ، فقالوا : { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } فمضى عيسى عليه السلام على أمر الله ونصر دينه ، هو ومن معه من الحواريين ، { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } بسبب دعوة عيسى والحواريين ، { وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } منهم ، فلم ينقادوا لدعوتهم ، فجاهد المؤمنون الكافرين ، { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ } أي : قويناهم ونصرناهم عليهم .
{ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } عليهم وقاهرين [ لهم ] ، فأنتم يا أمة محمد ، كونوا أنصار الله ودعاة دينه ، ينصركم الله كما نصر من قبلكم ، ويظهركم على عدوكم .
تمت ولله الحمد{[1091]} .
ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال : { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو : أنصاراً ، بالتنوين لله بلام الإضافة ، وقرأ الآخرون : { أنصار الله } بالإضافة ، كقوله نحن أنصار الله ، { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين } أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام : { من أنصاري إلى الله } أي : من ينصرني مع الله ؟ { قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } قال ابن عباس : يعني في زمن عيسى عليه السلام ، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق : فرقة قالوا : كان الله فارتفع ، وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه الله إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المؤمنون ، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس ، فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين ، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة ، فذلك قوله تعالى : { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } غالبين عالين ، وروى مغيرة عن إبراهيم قال : فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه .
أكد أمر الجهاد ، أي : كونوا حواريي نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواريي عيسى على من خالفهم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع " أنصارا لله " بالتنوين . قالوا : لأن معناه اثبتوا وكونوا أعوانا لله بالسيف على أعدائه وقرأ الباقون من أهل البصرة والكوفة والشام " أنصار الله " بلا تنوين ، وحذفوا لام الإضافة من اسم الله تعالى . واختاره أبو عبيدة لقوله : { نحن أنصار الله } ولم ينون ، ومعناه كونوا أنصارا لدين الله . ثم قيل : في الكلام إضمار ، أي قل لهم يا محمد كونوا أنصار الله . وقيل : هو ابتداء خطاب من الله ، أي كونوا أنصارا كما فعل أصحاب عيسى فكانوا بحمد الله أنصارا وكانوا حواريين . والحواريون خواص الرسل . قال معمر : كان ذلك بحمد الله ؛ أي نصروه وهم سبعون رجلا ، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة . وقيل : هم من قريش . وسماهم قتادة : أبا بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد بن مالك وأبا عبيدة - واسمه عامر - وعثمان بن مظعون وحمزة بن عبد المطلب ، ولم يذكر سعيدا فيهم ، وذكر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين .
قوله تعالى : { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين } وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلا ، وقد مضت أسماؤهم في " آل عمران{[14949]} " ، وهم أول من آمن به من بني إسرائيل ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القَصَّارُون{[14950]} فاسألهم النصرة ، فأتاهم عيسى وقال : من أنصاري إلى الله ؟ قالوا : نحن ننصرك . فصدقوه ونصروه ، { من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله } أي من أنصاري مع الله ، كما تقول : الذود إلى الذود إبل ، أي مع الذود . وقيل : أي من أنصاري فيما يقرب إلى الله ، { قال الحواريون نحن أنصار الله } وقد مضى هذا في آل عمران{[14951]} " { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } والطائفتان في زمن عيسى افترقوا بعد رفعه إلى السماء ، على ما تقدم في " آل عمران " بيانه . { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم } الذين كفروا بعيسى ، { فأصبحوا ظاهرين } أي غالبين . قال ابن عباس : أيد الله الذين آمنوا في زمن عيسى بإظهار محمد على دين الكفار . وقال مجاهد : أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى ، وقيل أيدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين ، من قال كان الله فارتفع ، ومن قال كان ابن الله فرفعه الله إليه ؛ لأن عيسى ابن مريم لم يقاتل أحدا ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال ، وقال زيد بن علي وقتادة : " فأصبحوا ظاهرين " غالبين بالحجة والبرهان ؛ لأنهم قالوا فيما روي : ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام ، وأن عيسى كان يأكل والله تعالى لا يأكل ! . وقيل : نزلت هذه الآية في رسل عيسى عليه الصلاة والسلام . قال ابن إسحاق : وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والأتباع فطرس وبولس إلى رومية ، واندراييس ومشى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس . وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق . وفيلبس إلى قرطاجنة وهي أفريقية ، ويحنس إلى دقسوس قرية أهل الكهف . ويعقوبس إلى أورشليم وهي بيت المقدس ، وابن تلما إلى العرابية وهي أرض الحجاز . وسيمن إلى أرض البربر . ويهودا وبردس إلى الإسكندرية وما حولها{[14952]} فأيدهم الله بالحجة ، { فأصبحوا ظاهرين } أي عالين ، من قولك : ظهرت على الحائط أي علوت عليه ، والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب{[14953]} .