واللمسة الثالثة في هذا الشوط تجيء تعقيبا على دعوة الإيمان والبذل ، ودعوة الفداء والتضحية . تعقيبا يصور الدنيا كلها بصورة هزيلة زهيدة تهون من شأنها وترفع النفوس عنها ، وتعلقها بالآخرة وقيمها :
( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ، وتفاخر بينكم ، وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرا ، ثم يكون حطاما . وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) . .
والحياة الدنيا حين تقاس بمقاييسها هي وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرا عظيما هائلا . ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود وتوزن بميزان الآخرة تبدو شيئا زهيدا تافها . وهي هنا في هذا التصوير تبدوا لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة !
لعب . ولهو . وزينة . وتفاخر . وتكاثر . . . هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدوا فيها من جد حافل واهتمام شاغل . . ثم يمضي يضرب لها مثلا مصورا على طريقة القرآن المبدعة . . ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ) . . والكفار هنا هم الزراع . فالكافر في اللغة هو الزارع ، يكفر أي يحجب الحبة ويغطيها في التراب . ولكن اختياره هنا فيه تورية وإلماع إلى إعجاب الكفار بالحياة الدنيا ! ( ثم يهيج فتراه مصفرا )للحصاد . فهو موقوت الأجل ، ينتهي عاجلا ، ويبلغ أجله قريبا ( ثم يكون حطاما ) . . وينتهي شريط الحياة كلها بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشر المألوفة . . ينتهي بمشهد الحطام !
فأما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن ، شأن يستحق أن يحسب حسابه ، وينظر إليه ، ويستعد له : ( وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ) . . فهي لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا . وهي لا تنتهي إلى حطام كذلك النبات البالغ أجله . . إنها حساب وجزاء . . ودوام . . يستحق الاهتمام !
( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) . .
فما لهذا المتاع حقيقة ذاتية ، إنما يستمد قوامه من الغرور الخادع ؛ كما أنه يلهي وينسي فينتهي بأهله إلى غرور خادع .
وهي حقيقة حين يتعمق القلب في طلب الحقيقة . حقيقة لا يقصد بها القرآن العزلة عن حياة الأرض ، ولا إهمال عمارتها وخلافتها التي ناطها بهذا الكائن البشري . إنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية والقيم النفسية ، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل وجاذبيته المقيدة بالأرض . هذا الاستعلاء الذي كان المخاطبون بهذه السورة في حاجة إليه ليحققوا إيمانهم . والذي يحتاج إليه كل مؤمن بعقيدة ، ليحقق عقيدته ؛ ولو اقتضى تحقيقها أن يضحي بهذه الحياة الدنيا جميعا .
{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو . . . } بيان لحال الحياة الدنيا التي ركن إليها الكفار المكذبون ، واطمأنوا بها ، وقصروا همهم عليها ، ولم يبالوا بأنها من المحقرات التي لا يركن إليها العقلاء . إذ هي لعب لا ثمرة له سوى التعب ، ولهو شاغل عما يعنى ويهم ، وزينة لا يحصل منها شرف ذاتي ؛ كالملابس الجميلة والمراكب البهية . وتفاخر بالأنساب والعظام البالية ، وتكاثر بالعدد والعدد . { كمثل غيث أعجب الكفار نباته . . . } تقرير لما وصفت به الدنيا ، وتمثيل لها في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها وقلة جدواها ؛ للتنفير عن العكوف عليها ، وجعلها الغاية والمقصد الأعلى – بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث ، ثم هاج – أي – يبس – بعاهة بعد نضارته . أو ثار ونما إلى أقصى ما يتأتى له ؛ فاصفر بعد الخضرة ؛ ثم صار حطاما هشيما من اليبس . و " كمثل " خبر مبتدأ محذوف ؛ أي مثلها كمثل . و " الكفار " الزراع الذين يحرثون الأرض ويبذرون فيها البذر .
وسموا كفارا من الكفر وهو الستر ؛ لسترهم البذر في الأرض للإنبات . وقيل : هم الكافرون بالله سبحانه . وخصوا بالذكر لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا واغترارا بها . و " يهيج " [ آية 21 الزمر ص 253 ] .
الكفار : هنا الزرّاع ، يقال : كفر الزارعُ البذرَ بالتراب ، غطاه .
يهيج : ييبس ويصفرّ ، وفعلُ هاجَ له معنى آخر ، يقال : هاج القومُ هَيْجا وهيَجانا : ثاروا لمشقة أو ضرر . وللفعل هاجَ معانٍ أخرى .
يبين الله تعالى هنا حقارة الدنيا وسرعة زوالها . اعلموا أيها الناس أنما الحياة الدنيا لعبٌ لا ثمرة له ، ولهوٌ يشغَل الإنسانَ عما ينفعه ، وزينةٌ لا بقاء لها ، وتفاخرٌ بينكم بأنساب زائلة وعظامٍ باليةٍ ، وتكاثرٌ بالعَدد في الأموال والأولاد . مِثْلُها في ذلك مثل مطرٍ نزل في أرضِ قومٍ وأنبت زرعاً طيباً أعجبَ الزّراع ، ثم يكمُل ويهيج ويبلغ تمامه ، فتراه بعدَ ذلك مصفرّا ثم يصير حطاماً منكسرا
لا يبقى منه ما ينفع . فمن آمن وعملَ في الدنيا عملاً صالحاً واتخذ الدنيا مزرعةً للآخرة نجا ، ودخل الجنة . وفي الآخرة عذابٌ شديد لمن آثر الدنيا وأخذها بغير حقها ، وفيها مغفرة لمن عمل صالحاً وآثر آخرته على دنياه . { وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } متاع زائل وخديعة باطلة لا تدوم .
{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } في انقضائها وقلة حاصلها { وزينة } يتزينون بها { وتفاخر بينكم } يفخر بها بعضكم على بعض { وتكاثر في الأموال والأولاد } مباهاة بكثرتها ثم ضرب لها مثلا فقال { كمثل غيث } مطر { أعجب } { أعجب الكفار } أي الزراع { نباته } ما أنبته ذلك الغيث { ثم يهيج } ييبس { فتراه مصفرا }
بعد يبسه { ثم يكون حطاما } هشيما متفتتا كذلك الانسان يهرم ثم يموت ويبلى { وفي الآخرة عذاب شديد } للكفار { ومغفرة من الله ورضوان } لأوليائه
قوله تعالى : " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل ، وخوفا من لزوم الموت ، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى . و " ما " صلة تقديره : اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي . وقال قتادة : لعب ولهو : أكل وشرب . وقيل : إنه على المعهود من اسمه ، قال مجاهد : كل لعب لهو . وقد مضى هذا المعنى في " الأنعام{[14719]} " وقيل : اللعب ما رغب في الدنيا ، واللهو ما ألهى عن الآخرة ، أي شغل عنها . وقيل : اللعب الاقتناء ، واللهو النساء . " وزينة " الزينة ما يتزين به ، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة ، وكذلك من تزين في غير طاعة الله . " وتفاخر بينكم " أي يفخر بعضكم على بعض بها . وقيل : بالخلقة والقوة . وقيل : بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب ) الحديث . وقد تقدم جميع هذا . " وتكاثر في الأموال والأولاد " لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال ، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة . قال بعض المتأخرين : " لعب " كلعب الصبيان " ولهو " كلهو الفتيان " وزينة " كزينة النسوان " وتفاخر " كتفاخر الأقران " وتكاثر " كتكاثر الدُِّهقَان{[14720]} . وقيل : المعنى إن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء . وعن علي رضي الله عنه قال لعمار : لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء : مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح ، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة ، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان ، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة ، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة ، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال ، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال ، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها . ثم ضرب الله تعالى لها مثلا بالزرع في غيث فقال : " كمثل غيث " أي مطر " أعجب الكفار نباته " الكفار هنا : الزراع لأنهم يغطون البذر{[14721]} . والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن ، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن . وقد مضى معنى هذا المثل في " يونس{[14722]} " و " الكهف{[14723]} " . وقيل : الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل ، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين . وهذا قول حسن ، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم ، ومنهم يظهر ذلك ، وهو التعظيم للدنيا وما فيها . وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم ، وتتقلل عندهم وتدِق إذا ذكروا الآخرة . وموضع الكاف رفع على الصفة . " ثم يهيج " أي يجف بعد خضرته " فتراه مصفرا " أي متغيرا عما كان عليه من النضرة . " ثم يكون حطاما " أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه ، كذلك دنيا الكافر . " وفي الآخرة عذاب شديد " أي للكافرين . والوقف عليه حسن ، ويبتدئ " ومغفرة من الله ورضوان " أي للمؤمنين . وقال الفراء : " وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة " تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة ، فلا يوقف على " شديد " . " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " هذا تأكيد ما سبق ، أي تغر الكفار ، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة . وقيل : العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا ، وترغيبا في العمل للآخرة .
ولما ذكر سبحانه{[62541]} حال الفريقين : الأشقياء والسعداء ، فتقرر{[62542]} بذلك أمر الآخرة ، فعلموا أنها الحيوان الذي لا انقضاء له من إكرام أو هوان ، وكان الموجب للهوان فيها إنما هو الإقبال على الدنيا لحضورها ونسيان الآخرة لغيابها{[62543]} ، قال منتجاً مما{[62544]} مضى مبيناً لحقيقة ما يرغب فيه المكلف المركب على الشهوة من العاجلة بما نزهه فيه مصدّراً له بما يوجب غاية اليقظة والحضور{[62545]} : { اعلموا } أي أيها العباد المبتلون ، وأكد المعنى بزيادة { ما } لما{[62546]} للناس من الغفلة عنه فقال قاصراً قصر قلب : { إنما الحيوة الدنيا } أي الحاضرة التي رغبت في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن { لعب } أي تعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان { ولهو } أي شيء يفرح الإنسان به فيلهيه ويشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان ، ثم أتبع ذلك عظم ما يلهي في الدنيا فقال : { وزينة } أي شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان ، وأتبعها ثمرتها فقال : { وتفاخر } أي كتفاخر{[62547]} الأقران يفتخر بعضهم على بعض .
ولما كان ذلك مخصوصاً بأهل الشهوات قال : { بينكم } أي يجر إلى الترفع الجارّ إلى الحسد والبغضاء ، ثم أتبع ذلك ما يحصل به الفخر فقال : { وتكاثر } أي من الجانبين { في الأموال } أي التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة { والأولاد } الذين لا يغتر بهم إلا سفيه لأنهم الأعداء ، وأن جميع ما ذكر زائل وأن الدنيا آفاتها هائلة ، وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشاكر من غيره ، ثم إلى ذلك كله {[62548]}قد يكون{[62549]} ذهابه عن قرب فتكون على أضداد ما كان عليه ، فيكون أشد في الحسرة ، ومطابقة ذلك لما بعده ان الإنسان ينشأ في حجر وليه فيشب ويقوى ويكسب المال والولد وتغشاه الناس فيكون بينهم أمور معجبة وأحوال ملهية مطربة ، فإذا تم شبابه وأطفأه مجيئه وذهابه وأشكاله وأترابه ، أخذ في الانحطاط ولا يزال حتى يشيب ويسقم ويضعف ويهرم وتصيبه النوائب والقوارع والمصائب في ماله وجسمه وأولاده وأصحابه ، ثم في آخر ذلك يموت ، فإذا قد اضمحل أمره ونسي عما قليل ذكره ، وصار ماله لغيره وزينته متمتعاً بها سواه فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها وأقل منها خطر المزاحم فيها ، فما هي إلا جيفة ، وطلاب الجيفة ليس لهم خطر ، وأخسهم من بخل بها ، قال القشيري : وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخر فكل ما يشغله عن الآخرة{[62550]} فهو الدنيا - انتهى .
ولما قرر سبحانه أنها ظل زائل وعرض هائل ، وكان بعض الناس يتنبه فيشكر{[62551]} وبعضهم يعمى فيكفر ، كان القسم الثاني أكثر لأن وجودها وإقبالها يعمي أكثر القلوب عن حقارتها ، ضرب لذلك مثلاً مقرراً لما مضى من وصفها لأن للأمثال{[62552]} في تقرير الأشياء وتصويرها ما ليس لغيرها فقال تعالى : { كمثل } أي هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل { غيث } أي مطر حصل بعد جدب و{[62553]}سوء حال .
ولما كان المثل في سياق التحقير للدنيا والتنفير عنها ، عبر عن الزراع بما ينفر فقال : { أعجب الكفار } أي الزراع الذين حصل منهم{[62554]} الحرث والبذر الذي يستره الحارث بحرثه كما ستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان لما يحصل من الجحد والطغيان ولا يتناهى إعجاب{[62555]} الزارع إلى{[62556]} حد يلهي عن الله إلا مع الكفر به سبحانه فإن المؤمن وإن أعجبه ذلك يتذكر به قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته وما أعد لأهل طاعته في الآخرة ، فيحمله ذلك على الطاعة ، فالتعبير بالكفار الذي هو بمعنى الزراع دونه إشارة إلى عظمة ذلك النبات فإنه لا يعجب العارفين به الممارسين له الذين لهم غاية الإقبال على تلك الحرفة فالمنافسة فيها إلا ما يكون منها{[62557]} نهاية في الإعجاب ، وإلى أنه لا يعجب أحداً شيء من الدنيا إعجاباً يركن ويأنس به أنساً يؤدي إلى ما في الآية من اللهو وما معه إلا لكفر في نفسه أقله كفر النعمة التي من شأنها أن تدعو إلى تذكر الخالق{[62558]} وتذكر الجميل على الشكر ، وترك الشكر كفر { نباته } أي نبات ذلك الغيب كما يعجب الكافر في الكفر في الغالب بسط الدنيا له استدراجاً من الله تعالى .
ولما كان الزرع يشيخ بعد مُدَيدة فيضمحل كما هو شأن الدنيا كلها قال{[62559]} : { ثم يهيج } أي يسرع تحركه فيتم جفافه فيحين حصاده { فتراه مصفراً } أي{[62560]} عقب ذلك وبالقرب منه على حالة لا ثمر معها بل{[62561]} ولا نبات ، ولذلك قال معبراً بالكون لأن السياق للتزهيد في الدنيا وأنها ظل زائل لا حقيقة لها{[62562]} : { ثم } أي بعد تناهي جفافه{[62563]} وابيضاضه { يكون } أي كوناً كأنه مطبوع عليه ، وأبلغ سبحانه في تقرير اضمحلاله بالإتيان مع فعل الكون هنا للمبالغة لأن السياق لتقرير أن الدنيا عدم وإن كانت في غاية الكثرة والإقبال والمؤاتاة{[62564]} بخلاف ما مضى في الزمر فقال : { حطاماً } كأن الحطامية{[62565]} كانت في جبلته وأصل طبعه .
ولما ذكر الظل الزائل ، ذكر أثره{[62566]} الثابت الدائم مقسماً له على قسمين ، فقال عاطفاً على ما تقديره هذا حال الدنيا في سرعة زوالها وتحقق فنائها واضمحلالها{[62567]} : { وفي } أي هذا الذي غر من حال الدنيا وهو في { الآخرة } على أحدهما { عذاب شديد } أي لمن أخذها بغير حقها معرضاً عن ذكر الله لأن الاغترار بها سببه ، فكان كأنه هو .
ولما قدم ما هو السبب الأغلب لأن أكثر الخلق هالك ، أتبعه الصنف الناجي . فقال : { ومغفرة } أي لأهل الدرجة الأولى في الإيمان { من الله } أي الملك الأعظم لمن يذكر بما صنعه له في الدنيا عظمته سبحانه وجلاله فتاب من ذنوبه ، ورجع إليه في التطهير من عيوبه { ورضوان } لأهل الدرجة العليا وهم من أقبل عليه سبحانه فشكره حق شكره ببذل وسعه{[62568]} فيما يرضيه ، فآخر الآية تقسيم للدنيا على الحقيقة لئلا يظن من حصرها فيما ذكر أول الآية أنها لا تكون إلا كذلك ، فالمعنى أن الذي ذكره أولاً هو الأغلب لأحوالها وعاقبته النار ، وما كان منها من إيمان وطاعة ونظر توحيد لله وتعظيم ومعرفة تؤدي إلى أخذها تزوداً{[62569]} ونظرها اعتباراً وتعبداً ، فهو{[62570]} آخرة لا دنيا ، وقد تحرر أن مثل الغيث المذكور الحطام وتارة يعقبه نكد لازم وأخرى سرور دائم ، فمن عمل في ذلك عمل الحزمة فحرس الزرع مما يؤذيه وحصده في وقته وعمل فيه ما ينبغي ولم ينس حق الله فيه سره أثره وحمدت عاقبته ، ومن أهمل ذلك أعقبه الأسف ، وذلك هو مثل الدنيا : من عمل فيها بأمر الله أعقبته حطاميتها سروراً دائماً ، ومن أهمل ذلك{[62571]} أورثته حزناً لازماً ، وكما كان التقدير : فما الآخرة لمن سعى لها سعيها وهو مؤمن إلا حق مشهور وسعي مشكور ، عطف عليه قوله : { وما الحياة الدنيا } أي لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة{[62572]} { إلا متاع الغرور * } أي لهو في{[62573]} نفسه غرور{[62574]} لا حقيقة له إلا ذلك ، لأنه لا يجوز لمن أقبل على التمتع إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر .