تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (20)

صفة الدنيا

{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( 20 ) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 21 ) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 22 ) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 23 ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 24 ) }

20

المفردات :

اللعب : ما لا ثمرة له كلعب الصبيان .

اللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمّه .

زينة : كالملابس الفاخرة يتزين بها أهلها .

تفاخر : بالأنساب والأموال ، أو تكبّر وتعال .

تكاثر في الأموال : مباهاة بكثرة العدد والعُدَد .

الغيث : المطر .

الكفار : الزرّاع .

يهيج : يبتدئ في اليبس والجفاف بعد خضرته ونضارته .

حطاما : هشيما متكسرا من يبسه .

الغرور : الخديعة .

التفسير :

20-{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .

الدنيا إلى فناء ، وهي مزرعة للآخرة ، وينبغي أن يعرف المؤمنون حقيقة الدنيا ، هي مظاهر كلعب الأطفال ، ولهو الشباب ، وزينة النساء ، وتفاخر بين أهل الدنيا بالملبس والمظهر ، أو التفاخر بالأموال والأولاد ، أو التباهي بما ملك الإنسان أو حازه ، فالدنيا ليست مذمومة في ذاتها ، لأنها يمكن أن تكون وسيلة لمرضاة الله ، وللصدقة وعمل الخير ، ولكن المذموم هو الغرور بالدنيا وحبها ، والرغبة المسرفة في المظهر والمنصب ، والجاه والسلطان ، بدون نية صالحة .

روي عن سعيد بن جبير أنه قال : الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة . فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى ، وطلب الآخرة ، فنعم المتاع ونعم الوسيلة .

مثال الدنيا

الدنيا إذا حلت أوحلت ، وإذا كست أوكست ، فهي تحلى لتمرّ ، وتعطي لتأخذ ، وقد حذرنا القرآن من الغرور بالدنيا والتشبع بها ، فالمغرور من غرته الدنيا عن الآخرة ، ومن اعتبر الدنيا غايته فأخذ يركض وراء ما فيها من مال وجاه وسلطان مع أنه زائل ، والمتعلق بالدنيا كالطفل المتعلق باللعب واللهو ، والزينة والمظهر ، فإذا بلغ مرحلة الرجولة العقلية رأى بعين قلبه أن الدنيا إلى فناء ، وأن الآخرة إلى بقاء ، وإذا غرّت الدنيا الكفار والفجار والسطحيين في إيمانهم ، فينبغي ألا تغر المؤمنين الصادقين .

{ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا . . . . }

أي : ما مثل الدنيا في سرعة تحوّلها وفنائها وانقضائها ، إلا كمثل زرع أصابه غيث من المطر النافع ، فاخضرّ ونما ، وصار بهجة للناظرين ، يعجب الزراع ويجعلهم في غبطة وحبور ، وبهجة وسرور ، لكن خضرة الزرع وجماله وشبابه لا تدوم ، فبعد فترة محدودة يقترب موسم الحصاد ، فيصفرّ الزرع ، ويدنو قطف الثمرة ، وتتحول الأوراق إلى قش متكسّر يابس ، ثم تكون هشيما تذروه الرياح .

ملحوظة :

الكفار : الزرّاع ، وسمي الزارع كافرا ، لأنه يكفر النبات ، فيستره بالأرض ، ويسقيه حتى ينبت ، وسمي الكافر بالله كافرا ، لأنه ستر نعمة الله عليه وجحدها ، فلم يؤمن بالله .

ثم ذكر القرآن هنا عاقبة المنهمكين في الدنيا ، المغترين بلهوها وعبثها وزينتها ، المنشغلين بها عن الإيمان والجهاد وطلب ما عند الله ، وذكر عاقبة المتقين المعرضين عن الغرور بالدنيا ، الطالبين لرضوان ربّهم ، فقال : { وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ . . . }

أي : هذه هي الدنيا الفانية ، ثم يفتح القرآن العيون على الآخرة ، والناس فيها صنفان : صنف في عذاب شديد دائم لمن كفر بالله وأهمل تعاليمه ، وصنف في مغفرة من الله تعالى ، وبحبوحة من رضوانه ، لأنه أطاع ربّه وعمل بأوامره ، وجعل دنياه مزرعة لآخرته .

روى ابن جرير ، وجاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " موضع سوط في الجنة ، خير من الدنيا وما فيها ، اقرؤوا : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ . 18 }

وأخرج البخاري ، وأحمد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَلجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك " 19

قال ابن كثير في تفسير الآية :

هكذا الدنيا ، تكون أولا شابة ، ثم تكتهل ، ثم تكون عجوز شوهاء ، والإنسان يكون كذلك في أوّل عمره وعنفوان شبابه ، غضا طريّا ، لين الأعطاف ، بهيّ المنظر ، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى . أ . ه .

قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } . ( الروم : 54 ) .

{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .

ما هذه الحياة الدنيا إلى متاع فان زائل ، خادع لمن ركن إليها واغترّ بها ، وظن أنها غاية ونهاية ، فمن ألهته الدنيا عن الآخرة فهو المغبون ، ومن نظر إلى الدنيا نظرة فاحصة ، فاعتبرها وسيلة وتزوّد منها بالصالحات فهو الناجح .

إن لله عبادا فطنا *** طلقوا الدنيا وعافوا الفتنا

لما رأوها ليست *** لحي سكنا

حسبوها لجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا

ويقول الآخر :

إنما الدنيا كبيت *** نسجته العنكبوت

كل ما فيها لعمري *** عن قريب سيموت

إنما يكفيك منها *** أيها الراغب قوت

ونحن إذا نظرنا إلى روح الإسلام ، نجد أنه لا يدعو إلى الانعزالية ، ولا إلى رفض الدنيا ، وإنما يريد الإسلام مسلما متوازنا ، يعمر الدنيا بالعلم والزراعة والصناعة ، والتفوق الطبي والعلمي والأخلاقي ليكون نموذجا رائعا يعمر الدنيا بالقيم والعمل والأمل . ولذلك قال الله تعالى : { ولا تنس نصيبك من الدنيا . . . } ( القصص : 77 ) .

وفي الحديث الصحيح : " إن لربك عليك حقا ، وإن لبدنك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لضيفك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقّه " 20

وفي القرون الوسطى الإسلامية وردت مواعظ كثيرة ، وأشعار متعددة ، تزهّد الناس في الدنيا ، والغنى والتفوّق والتقدم ، وأصيب الناس بالتواكل والكسل ، والزهد والانحطاط ، ولا أقول التواضع ، بينما نهض الغرب وقويت جيوشه وأساطيله ، فاستعمر بلاد الإسلام ، ورأينا مصر والسودان والعراق تحت حكم إنجلترا ، ورأينا الجزائر والمغرب والشام تحت حكم فرنسا ، ثم جاءت الصحوة الإسلامية الحديثة ، فاختفت نغمة الزهد الأبله ، والمسكنة والانحطاط ، ورأينا دعوة للأمة الإسلامية إلى استرداد مكانها ومكانتها ، لتكون بحق كما قال الله تعالى : { كنتم خير أمة أُخرجت للناس . . . }( آل عمران : 110 ) .

وكما قال سبحانه : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا . . . } ( البقرة : 143 ) .

ومن هذه الوسطية ألا نترك الدنيا للآخرة ، ولا الآخرة للدنيا ، بل نعمل للدنيا لنكون فيها سادة وقادة ، وأعزّاء أقوياء ، ونجعل من الدنيا وسيلة لإعزاز ديننا وأنفسنا .

وفي الحديث الشريف : " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " .

وقد تكرر في القرآن الكريم وصف الدنيا ، وسرعة تحوّلها ، وغرور أهلها بها ، ثم تفلّتها من بين أيديهم ، مثل قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } . ( الكهف : 45-46 ) .

وإلى جوار ذلك دعوة رائدة إلى العمل والتفوّق .

قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } . ( الكهف : 30 ) .

والخلاصة :

علينا أن نملك الدنيا ثم نزهد فيها ، ونجعلها وسيلة لعزّ الدنيا وسعادة الآخرة ، وأن يكون المسلم صاحب شخصية متوازنة ، تعمل للدنيا بدون طمع أو جشع ، وتعمل للآخرة بكل قصد سليم ونية صالحة ، ودعاء خالص لله : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . ( البقرة : 201 ) .