تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (20)

الآية 20 وقوله تعالى : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد } / 550 – ب/ ففي ظاهر ما ذكر من هذه الآية ونحوها من الآيات لأهل الإلحاد طعن عظيم ؛ فإنهم يقولون : إن كانت الحياة لعبا ولهوا فلم أنشأها الله لعبا ولهوا ، ولا منشئ سواه ؟

فلهم موضع الطعن على الوجه ، ولهم دعوى التناقض أيضا فيه لما ذكر في بعض الآيات ، فقال : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين }[ الدخان : 38 ] وقال : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا } [ ص : 27 ] وقال في هذه الآية وغيرها : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } .

فنقول : إن الآية تخرج على وجوه :

أحدها : على التقديم والتأخير مع الإضمار ؛ كأنه قال : اعلموا أنّ مثل الحياة الدنيا وزينتها وتفاخرها وتكاثرها ولعبها ولهوها ، أي [ ما ]{[20641]} تتزينون به{[20642]} ، وتتفاخرون بالأولاد والأموال ، وتتلهون به{[20643]} ، وتلعبون { كمثل غيث أعجب الكفار نباته } ثم يصير ما ذكر حتى لا ينتفع به . فعلى ذلك الحياة الدنيا .

والثاني : أنما الحياة على ما هي عندكم وعلى ما اتخذتموها وعلى ما ظننتم أنه لا بعث ولا حياة بعده ، كان إنشاؤها عبثا ولهوا ؛ إذ لو كان على ما ظنوا لم يكن إنشاؤها إلا للإفناء والإهلاك خاصة ، وبناء البناء المحكم للإفناء خاصة عبث وسفه ، ليس بحكمة ، وهو ما ذكر : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفرا فويل للذين كفرا }[ ص : 27 ] وكان ظنهم أن لا بعث ولا حياة بعده .

فعلى ما كان ظنهم كان إنشاؤها لعبا ولهوا [ وعلى{[20644]} ما كان عند أهل الإلحاد ، هو{[20645]} سفه وباطل ]{[20646]} .

فأما الحياة الدنيا على ما هي عند أهل التوحيد [ فهي ]{[20647]} حكمة وحق وصواب وقدرة الله تعالى عليهم بقوله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] .

[ والثالث ]{[20648]} : جائز أن يكون معنى قوله : { أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } أي لو قوبلت بالحياة الآخرة لكان عبثا ولهوا ، لأن الدنيا بنيت على الفناء والانقطاع والزوال عن قريب ، والآخرة على الدوام والبقاء ، وهو ما ذكر : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } [ النساء : 77 ] لأنها باقية . أو يقول : { أنما الحياة الدنيا } للدنيا خاصة [ لعب ولهو ، أي من جعل الحياة الدنيا للدنيا خاصة ]{[20649]} فتكون لعبا ولهوا ، ومن جعل الحياة الدنيا زادا للآخرة وبلغة إليها ، فهي{[20650]} ليست بلعب ، وهي{[20651]} ما قال تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم } [ آل عمران : 117 ] .

أخبر أن الإنفاق للدنيا كمثل ريح فيها صرّ [ وقال ]{[20652]} في النفقة التي تكون في الدنيا لحياة الآخرة : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } الآية [ البقرة : 261 ] والله أعلم .

وقوله تعالى : { كمثل غيث أعجب الكفار نباته } الإشكال أنه كيف خص الكفار بإعجابهم بالنبات ؟ وقد أعجب النبات أهل الإيمان ؟

فنقول : لأن الكفار يعجبهم ظاهر ذلك النبات وما يرون من النزهة ، لا يرون إلى ما ضمن في ذلك النبات ، وجعل فيه من المنفعة في العاقبة ، لكن ينظرون إلى ظاهره .

وأما المؤمنون فإنما{[20653]} يعجبهم ما في ذلك النبات من المنفعة في العاقبة ، وإلى ذلك يكون نظرهم لا إلى ظاهره ، وهو كما شبه إنفاق الكفرة بالريح التي فيها صر ، يصيب حرث قوم لما لا يقصدون بإنفاقهم سوى نفس الإنفاق ، وشبه نفقة أهل الإيمان بالحبة التي تنبت { سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } { البقرة : 261 } لما كان مقصدهم في الإنفاق عاقبته لا عين الإنفاق .

ويحتمل أن يكون المراد من الكفار الزراع ، وبه فسر بعض أهل الأدب ، وهو كقوله : { يعجب الزراع }[ الفتح : 29 ] فعلى هذا التأويل يرجع إلى الكل ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وفي الآخرة عذاب شديد } أي لهؤلاء الذين اتخذوا الدنيا لعبا ولهوا ، وصيروها تفاخرا وتكاثرا دون أن يتخذوها زاد وبلغة إلى الآخرة .

وقوله تعالى : { ومغفرة من الله ورضوان } فهو للمؤمنين الذين اتخذوا الدنيا للآخرة ، وعقلوا الآيات التي بينها لهم للنظر فيها والتفكر والتأمل [ فتأملوها ، ووضعوها مواضعها ]{[20654]} والله أعلم .

وقوله تعالى : { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله تعالى : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } قال إمام الهدى رضي الله عنه في قوله : { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } : إن الحياة الدنيا وحبها لنفسه وعلى ما أنشئت ، وجعلت له ، حكمة وحق وسرور ، ليست بغرور ، وأما اختيارها وحبها لغيره واستعمالها لغير الذي أنشئت ، وجعلت [ فهو ]{[20655]} غرور و لعب ولهو ، لأن من أحب شيئا استكثر منه ، وحبسه لنفسه{[20656]} ، وحفظه من تلفه وضياعه ، واستبقاه لوقت حاجته ويوم فقره . فعلى ذلك من جمع الدنيا لنفسه ، وأحبها ، واستعملها في ما أذن له ، وأمر ، وهو أن يجعلها زادا للآخرة وبلغة إليها . فإذا علم ذلك استكثر منها عند الله ليوم فاقته .

فمن أحبها واختارها لهذا فهو ليس بغرور ولا لعب ، بل سرور وبهجة ، ومن طلبها لغيره ، واستعملها في غير ما أنشئت كان غرورا ولعبا على ما ذكر . فخرج قوله : { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } على ما يختارونها ، ويحبونها .

وذلك أن الله تعالى أنشأ لنا هذه النعم حين{[20657]} قال : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } [ البقرة : 29 ] وقال : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } [ الجاثية : 13 ] يجب أن ينظر إلى ذلك بالتعظيم لها والإجلال لا بعين الاستخفاف والهوان .

ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو أكرم أحدا بكرامة ، وأهدى هدية ، ثم علم منه الاستخفاف بهديته ، يسلب منه هديته ، ويستحقره ؟

فعلى ذلك يجب أن يتلقى نعم الله تعالى بالتعظيم والتبجيل والقبول الحسن لا على الاستخفاف بها والإهانة .

ثم الناس بعد هذا رجلان : رجل يرغب في نعم الدنيا وجمعها وجعلها عند الله ذخرا وزادا ليوم فقره وحاجته ، ورجل زهد فيها خوفا للتقصير في عبادة الله تعالى في حقوقه أن يشتغل بها ، ويمنعه ذلك عن أداء ما عليه والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ما أمره ، وله أسوة حسنة بنبيه صلى الله عليه وسلم .

من ترك الدنيا وما أنشأ الله تعالى فيها من النعم استخفافا بها وهوانا فهو الجاهل المستخف بنعم الله تعالى الغافل عما أنشئت له الدنيا وما فيها .

فهذا والذي طلب الدنيا للدنيا مذمومان{[20658]} ، والذي طلبها لنفسه زادا للآخرة والذي زهد فيها محمودان ، والله أعلم .

وعلى ذلك يخرج ما ذكر أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وأن من أحبها لغيره أي{[20659]} لغير الذي جعلت له فيكون رأس كل خطيئة . ومن أحبها لنفسه ، واتخذها زادا للآخرة فهو{[20660]} رأس كل حسنة وطاعة ، والله أعلم .


[20641]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
[20642]:في الأصل و م: بها.
[20643]:في الأصل و م: بها.
[20644]:في الأصل و م: فعلى.
[20645]:في الأصل و م: وهو.
[20646]:أدرجت هذه العبارة في الأصل و م بعد: وصواب.
[20647]:ساقطة من الأصل و م.
[20648]:في الأصل و م: و.
[20649]:من م، ساقطة من الأصل.
[20650]:في الأصل و م: وهي.
[20651]:في الأصل و م: وهو.
[20652]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
[20653]:الفاء ساقطة من الأصل و م.
[20654]:من م، في الأصل: فتأملوا و وضعوها.
[20655]:ساقطة من الأصل و م.
[20656]:اللام ساقطة من الأصل.
[20657]:في الأصل و م: حيث.
[20658]:في الأصل و م: مأمونان.
[20659]:في الأصل و م.
[20660]:في الأصل و م: فهي.