فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (20)

{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب } كلعب الصبيان { ولهو } كلهو الفتيان واللعب هو الباطل واللهو كل شيء يتلهى به ثم يذهب ، قال قتادة : لعب ولهو أكل وشرب . قال مجاهد : كل لعب لهو ، وقيل : اللعب ما رغب في الدنيا واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها ، وقيل : اللعب الاقتناء ، واللهو النساء ، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة الأنعام { وزينة } كزينة النسوان ، والزينة التزين بمتاع الدنيا من اللباس والحلي ونحوهما ، من دون عمل للآخرة { وتفاخر بينكم } كتفاخر الأقران قرأ الجمهور بتنوين تفاخر ، وقرئ بالإضافة أي يفتخر به بعضكم على بعض ، وقيل : يتفاخرون بالخلقة والقوة ، وقيل : بالأنساب والأحساب كما كانت عليه العرب .

{ وتكاثر } كتكاثر الدهقان ، والتكاثر إدعاء الاستكثار { في الأموال والأولاد } أي يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ويتطاولون بذلك على الفقراء ، والمعنى أن التشاغل ، وشغل البال بالحياة الدنيا ، دائر بين هذه الأمور الخمسة اجتمعت أم لا ، قال القشيري : وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخرة فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا ، وأما الطاعات وما يعين عليها فمن أمور الآخرة .

وقال علي كرم الله وجهه لعمار بن ياسر : لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح ، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة ، وأكثر شرابها الماء وهو يستوي فيه جميع الحيوان ، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسيج دودة ، وأفضل مشمومها المسك وهو دم فأرة ، وأفضل المركوب الفرس ، وعليها تقتل الرجال ، وأما المنكوح فهو النساء وهن مبال في مبال .

ثم بين سبحانه لهذه الحياة شبها ، وضرب لها مثلا ، فقال :

{ كمثل غيث } أي مطر { أعجب الكفار } أي الزراع ، لأنهم يكفرون البذر ، أي يغطونه بالتراب كما يستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان بما يحصل منه من الجحد والطغيان { نباته } الحاصل به { { ثم يهيج } أي يجف بعد نضارته وخضرته ، قاله أبو السعود ، وقيل : ييبس وفيه تسامح فإن حقيقته أن يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له ، فالمعنى يطول جدا { فتراه مصفرا } أي متغيرا عما كان عليه من الخضرة والرونق إلى لون الصفرة والذبول ، وقرئ مصفارا .

{ ثم يكون حطاما } أي متفتتا هشيما متكسرا متحطما بعد يبسه ، شبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي ، وأعجب به الناظرون إليه لخضرته ، وكثرة نضارته ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما تبنا كائن لم يكن ، وقيل : المعنى إن الحياة الدنيا كزرع أنبته الغيث وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات فبعث الله عليه العاهة فهاج واصفر ، وصار حطاما ، عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة . وصاحب الجنتين وقد تقدم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف . ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا وسرعة زوالها ذكر ما أعده للعصاة في الدار الآخرة وما أعده لأهل الطاعة فقال

{ وفي الآخرة عذاب شديد ، ومغفرة من الله ورضوان } أخبر بأن في الآخرة عذابا شديدا ، ومغفرة منه ورضوانا ، وهذا معنى حسن ، وهو أنه قابل العذاب بشيئين ، بالمغفرة والرضوان ، فهو من باب : لن يغلب عسر يسرين ، والتنكير فيهما للتعظيم . قال قتادة : عذاب شديد لأعداء الله ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته ، قال الفراء : التقدير في الآية إما عذاب شديد وإما مغفرة ، فلا يوقف على شديد ، ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب الترغيب حقارة الدنيا فقال :

{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } لمن اغتربها وركن إليها ، واعتمد عليها ، وعمل لها ، ولم يعمل للآخرة ، أي هي في نفسها غرور لا حقيقة به ، وهذا يقتضي أن الإضافة بيانية ، والمعنى وما التمتع بالدنيا إلا متاع أي تمتع هو الغرور ، أي الاغترار ، قال سعيد بن جبير : متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ومن اشتغل بطلبها فله متاع ، بلاغ إلى ما هو خير منه ، وهذه الجملة مقررة للمثل المقدم ، ومؤكدة له ، قال ذو النون : يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها ، فإن الزاد منها ، والمعيل في غيرها