{ فلا أقسم بمواقع النجوم } أي فأقسم بمواقع النجوم . و " لا " مزيدة للتأكيد في قول أكثر المفسرين ؛ مثلها في قوله : " لئلا يعلم أهل الكتاب " . وقيل : زيدت جريا على سنن العرب من زيادتها قبل القسم بها ، كما ف : لا وأبيك ! كأنهم ينفون ما سوى المقسم عليه فيفيد التأكيد . وقيل : هي للنفي ؛ أي لا أقسم بها ، إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ؛ أي أنه لا يحتاج إلى قسم أصلا فضلا عن هذا القسم العظيم . ومواقع النجوم : مساقطها ومغاربها في السماء . جمع موقع ؛ من الوقوع بمعنى السقوط والغروب . وأقسم بها لما فيها من الدلالة على وجود مؤثر دائم لا يزول تأثيره . وجواب القسم
فلا أقسم : هذا قسَم تستعمله العرب في كلامها ، ولا للتأكيد .
مواقع النجوم : مَداراتها ومراكزها .
بعد ذِكر الأدلة على الألوهية والخلْق والبعث والجزاء جاء بذِكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم . وقد أقسم الله تعالى على هذا بما يشاهدونه من مواقع النجوم ، وإن هذا القسَم لعظيم حقا ، لأن هذا الكون وما فيه شيء كبير
لا نعلم عنه إلا القليل القليل . ويقول الفلكيون : إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين ، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، ومنها ما لا يرى إلا بالمكبّرات ، وقد يكون أكبر من شمسنا بآلاف المرات ولكننا لبعده الشاسع
لا نراه . وهي تسبح في هذا الفلك الواسع الذي لا نعلم عنه شيئا . والبحث في هذا واسع جدا .
الأولى- قوله تعالى : " فلا أقسم " " لا " صلة في قول أكثر المفسرين ، والمعنى فأقسم ، بدليل قوله : " وإنه لقسم " . وقال الفراء : هي نفي ، والمعنى ليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف " أقسم " . وقد يقول الرجل : لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين ، بل يريد به نفي كلام تقدم . أي ليس الأمر كما ذكرت ، بل هو كذا . وقيل : " لا " بمعنى إلا للتنبيه كما قال{[14673]} :
ألا عِمْ صباحا أيها الطللُ البالي
ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه ، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا . وقرأ الحسن وحميد وعيسى بن عمر فلأقسم " بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حال ويقدر مبتدأ محذوف ، التقدير : فلأنا أقسم بذلك . ولو أريد به الاستقبال للزمت النون ، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ .
الثانية- قوله تعالى : " بمواقع النجوم " مواقع النجوم مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره . عطاء بن أبي رباح : منازلها . الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة . الضحاك : هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا . الماوردي : ويكون قوله تعالى : " فلا أقسم " مستعملا على حقيقته من نفي القسم . القشيري : هو قسم ، ولله تعالى أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة .
قلت : يدل على هذا قراءة الحسن " فلأقسم " وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه . وقال ابن عباس : المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما ، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين ، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة ، فهو ينزل على الأحداث من أمته ، حكاه الماوردي عن ابن عباس والسدي . وقال أبو بكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا همام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة ، ثم نزل إلى الأرض نجوما ، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر ، فذلك قول الله تعالى : " فلا أقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم لو تعلمون عظيم . إنه لقرآن كريم " وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن . وقرأ حمزة والكسائي " بموقع " على التوحيد ، وهي قراءة عبدالله بن مسعود والنخعي والأعمش وابن محيصن ورويس عن يعقوب . الباقون على الجمع فمن أفرد فلأنه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع ، ومن جمع فلاختلاف أنواعه .
{ فلا أقسم بمواقع النجوم } لا في هذا الموضع وأمثاله زائدة وكأنها زيدت لتأكيد القسم أو لاستفتاح الكلام نحو ألا وقيل : هي نافية لكلام الكفار كأنه يقول لا صحة لما يقول الكفار وهذا ضعيف ، والأول أحسن لأن زيادة لا كثيرة معروفة في كلام العرب ومواقع النجوم فيه قولان : أحدهما : قال ابن عباس : إنها نجوم القرآن إذ نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مقطعا بطول عشرين سنة فكل قطعة منه نجم .
والآخر : قول كثير من المفسرين : أن النجوم الكواكب ومواقعها مغاربها ومساقطها ، وقيل : مواضعها من السماء ، وقيل : انكدارها يوم القيامة .
فثبت أن الله تعالى أرسل الآتي بهذا القرآن صلى الله عليه وسلم بالهدى وبالحق ، لا أنه آتاه كل ما ينبغي له ، فآتاه الحكمة وهي البراهين القاطعة واستعمالها على وجوهها ، والموعظة الحسنة ، وهي الأمور المرققة للقلوب المنورة للصدور ، والمجادلة التي هي على أحسن الطرق في نظم معجز موجب{[62237]} للإيمان ، فكان من سمعه ولم يؤمن لم يبق له من الممحلات إلا أن يقول : هذا البيان ليس لظهور المدعى وثبوته بل لقوة عارضة المدعي وقوته على تركيب الأدلة وصوغ{[62238]} الكلام وتصريف وجوه المقال ، وهو يعلم أنه يغلب لقوة جداله لا لظهور مقاله{[62239]} ، كما أنه ربما يقول أحد المتناظرين عند انقطاعه لخصمه : أنت تعلم أن الحق معي لكنك تستضعفني ولا تنصفني ، فحينئذ لا يبقى للخصم جواب إلا الإقسام بالإيمان التي لا مخرج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف ، وإنما يفزع{[62240]} إلى الإيمان لأنه لو أتى بدليل آخر لكان معرضاً لمثل هذا ، فيقول : وهذا غلبتني فيه لقوة جدالك وقدرتك على سوق الأدلة ببلاغة مقالك ، فلذلك كانوا إذا أفحمهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : إنه يريد أن يتفضل علينا فيما نعلم خلافه ، فلم يبق إلا الإقسام ، فأنزل الله أنواعاً من الأقسام بعد الدلائل العظام ، ولهذا كثرت الآيات{[62241]} في أواخر القرآن ، وفي السبع الأخيرة خاصة أكثر ، فلذلك سبب عن هذه الأدلة الرائعة والبراهين القاطعة قوله : { فلا أقسم } بإثبات " لا " النافية{[62242]} ، إما على أن يكون مؤكدة بأن ينفي{[62243]} ضد ما أثبته القسم ، فيجمع الكلام بين إثبات المعنى المخبر به ونفي ضده ، وإما على تقدير أن هذا المقام يستحق لعظمته وإنكاركم له أن يقسم عليه بأعظم من هذا على ما له من العظمة لمن له علم{[62244]} - والله أعلم .
ولما كان الكلام{[62245]} السابق في الماء الذي جعله سبحانه مجمعاً للنعم الدنيوية الظاهرة وقد رتب سبحانه لإنزاله الأنواء على منهاج دبره وقانون أحكمه ، وجعل إنزال القرآن نجوماً مفرقة وبوارق متلالئة متألقة قال : { بمواقع النجوم * } أي بمساقط الطوائف القرآنية المنيرة النافعة المحيية للقلوب ، وبهبوطها الذي ينبني عليه ما ينبني من الآثار الجليلة وأزمان ذلك وأماكنه وأحواله ، وبمساقط الكواكب وأنوائها وأماكن ذلك وأزمانه في تدبيره على ما ترون من الصنع المحكم والفعل المتقن المقوم ، الدال بغروب الكواكب على القدرة على الطي بعد النشر والإعدام بعد الإيجاد ، وبطلوعها الذي يشاهد أنها ملجأة إليه إلجاء الساقط من علو إلى سفل لا يملك لنفسه شيئاً ، لقدرته على الإيجاد بعد الإعدام ، وبآثار الأنواء على مثل ذلك بأوضح منه - إلى غير ذلك من الدلالات التي تضيق عنها العبارات ، وتقصر دون علياها مديد الإشارات ، ولمثل هذه المعاني الجليلة والخطوب العظيمة جعل في الكلام اعتراضاً بين القسم وجوابه ، وفي الاعتراض اعتراضاً بين الموصوف وصفته تأكيداً للكلام ، وهزاً لنافذ الأفهام تنبيهاً على أن الأمر عظيم والخطب فادح جسيم ،