في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى :

( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) . .

والأمشاج : الأخلاط . وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح . وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة ، والتي يمثلها ما يسمونه علميا " الجينات " وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولا ولصفات الجنين العائلية أخيرا . وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان ، لا جنين أي حيوان آخر . كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة . . ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى . .

خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج ، لا عبثا ولا جزافا ولا تسلية ، ولكنه خلق ليبتلي ويمتحن ويختبر . والله سبحانه يعلم ما هو ? وما اختباره ? وما ثمرة اختباره ? ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود ، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود ، وأن تتبعه آثاره المقدرة . ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه .

ومن ثم جعله سميعا بصيرا . أي زوده بوسائل الإدراك ، ليستطيع التلقي والاستجابة . وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار . ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار . .

وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها ، وهي خلقته من نطفة أمشاج . . كانت وراءها حكمة . وكان وراءها قصد . ولم تكن فلتة . . كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره . ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة ، والمعرفة والاختبار . . وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة . . بمقدار !

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

{ من نطفة } من مني ، وهو ماء الرجل وماء المرأة ، ممتزج أحدهما بالآخر ؛ كما قال تعالى : { أمشاج } أي أخلاط بمعنى مختلط من الماءين . أو من عناصر شتى يقال : مشج بينهما – من باب ضرب – خلط ومزج . وهو جمع مشج كسبب ، أو مشيج ككتف ، أو مشيج كنصير . وقيل : مختلطة ، وأمشاج مفرد جاء على أفعاله ؛ كأعشار في قولهم : برمة أعشار ، أي منكسرة . { نبتليه } مبتلين له ؛ أي مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف حين يتأهل لذلك . { فجعلناه سميعا بصيرا } ليتمكن من الاستماع للآيات التنزيلية ، والنظر في الآيات التكوينية .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

ثم لما أراد الله تعالى خلقه ، خلق [ أباه ] آدم من طين ، ثم جعل نسله متسلسلا { مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } أي : ماء مهين مستقذر { نَبْتَلِيهِ } بذلك لنعلم هل يرى حاله الأولى ويتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه ؟

فأنشأه الله ، وخلق له القوى الباطنة والظاهرة ، كالسمع والبصر ، وسائر الأعضاء ، فأتمها له وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

قوله تعالى : " إنا خلقنا الإنسان " أي ابن آدم من غير خلاف " من نطفة " أي من ماء يقطر وهو المني ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، كقول عبدالله بن رواحة يعاتب نفسه :

مالي أراكِ تكرهينَ الجنة *** هل أنت إلا نطفةٌ في شَنَّهْ{[15657]}

وجمعها : نطف ونطاف . " أمشاج " أخلاط . واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين ، قال رؤبة :

يَطْرَحْنَ كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجِ *** لم يُكسَ جِلْدًا في دمٍ أمشاجِ

ويقال : مشجت هذا بهذا أي خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ، مثل مخلوط وخليط . وقال المبرد : واحد الأمشاج : مشيج ، يقال : مشج يمشج : إذا خلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، قال الشماخ :

طَوَتْ أحشاء مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ *** على مَشَجٍ سلالتُه مَهِينُ

وقال الفراء : أمشاج : أخلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة . ويقال للشيء من هذا إذا خلط : مشيج كقولك خليط ، وممشوج كقولك مخلوط . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : الأمشاج : الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة . وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة ، قال الهذلي{[15658]} :

كان الرِّيشَ والفُوقَيْنِ منه *** خلافَ النصلِ سِيطَ به مَشِيجُ

وعن{[15659]} ابن عباس أيضا قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة . وقد روي هذا مرفوعا ، ذكره البزار .

وروي عن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة . وعنه : ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان . وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء . وقال ابن عباس : خلق من ألوان ، خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم . ونحوه قال قتادة : هي أطوار الخلق : طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما ، كما قال في سورة " المؤمنون " " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " [ المؤمنون : 12 ] الآية . وقال ابن السكيت : الأمشاج الأخلاط ؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة . وقال أهل المعاني : الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد ؛ لأنه نعت للنطفة ، كما يقال : برمة أعشار وثوب أخلاق . وروي عن أبي أيوب الأنصاري : قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال : [ ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ] فقال الحبر : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة " البقرة " .

قوله تعالى : " نبتليه " أي نختبره . وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار . وفيما يختبر به وجهان : أحدهما : نختبره بالخير والشر . قاله الكلبي . الثاني : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء . قاله الحسن . وقيل : " نبتليه " نكلفه . وفيه أيضا وجهان : أحدهما : بالعمل بعد الخلق . قاله مقاتل . الثاني : بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي . وروي عن ابن عباس : " نبتليه " : نصرفه خلقا بعد خلق ؛ لنبتليه بالخير والشر . وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال : المعنى والله أعلم " فجعلناه سميعا بصيرا " لنبتليه ، وهي مقدمة معناها التأخير .

قلت : لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة . وقيل : " جعلناه سميعا بصيرا " : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى ، وبصرا يبصر به الهدى .


[15657]:الشنة: القربة.
[15658]:هو عمرو بن الداخل الهذلي. وفي (اللسان: مشج) زهير بن حرام الهذلي. سيط به: أي خرج قذذ من الريش مختلط من الدم والماء.
[15659]:وفي حاشية الجمل نقلا عن القرطبي ما يأتي: والمعنى: "من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام، والخواص تجتمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة، ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له".
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

{ من نطفة أمشاج } أي : أخلاط واحدها مشج بفتح الميم وشين ، وقيل : مشج بوزن عدل ، وقال الزمخشري : ليس أمشاج بجمع وإنما هو مفرد كقولهم برمة أعشار ، ولذلك أوقع صفة للمفرد واختلف في معنى الأخلاط هنا ، فقيل : اختلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، وقيل : اختلاط ماء الرجل والمرأة وروي : أن عظام الإنسان ، وعصبه من ماء الرجل ، وأن لحمه وشحمه من ماء المرأة ، وقيل : معناه ألوان وأطوار أي : يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة .

{ نبتليه } أي : نختبره وهذه الجملة في موضع الحال أي : خلقناه مبتلين له وقيل : معناه نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة .

{ فجعلناه سميعا بصيرا } هذا معطوف على خلقنا الإنسان ومن جعل نبتليه وهذا تكلف بعيد .