في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (83)

78

( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ) . .

والعلم - بغير إيمان - فتنة . فتنة تعمي وتطغي . ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور ، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة ، ويملك مقدرات عظيمة ، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها ! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها . وهي موجودة في هذا الكون ؛ ولا سلطان له عليها . بل لا إحاطة له بها . بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة . وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته . ويستخفه علمه وينسى جهله . ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه ، وخفف من فرحه الذي يستخفه .

وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم . واستهزأوا بمن يذكرهم بما وراءه :

( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) . .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (83)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فلما جاءتهم رسلهم بالبينات} يعني بخبر العذاب أنه نازل بهم.

{فرحوا} في الدنيا يعني رضوا {بما عندهم من العلم} فقالوا: لن نعذب.

{وحاق بهم} يعني وجب العذاب لهم ب {ما كانوا به} بالعذاب.

{يستهزئون} أنه غير كائن.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فلما جاءت هؤلاء الأمم الذين من قبل قريش المكذّبة رسلها رسلهم الذين أرسلهم الله إليهم "بالبينات"، يعني: بالواضحات من حجج الله عزّ وجلّ "فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ "يقول: فرحوا جهلاً منهم بما عندهم من العلم وقالوا: لن نبعث، ولن يعذّبنا الله... وقوله: "وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ" يقول: وحاق بهم من عذاب الله ما كانوا يستعجلون رسلهم به استهزاء وسخرية.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

يقال: فرحوا بما عندهم من العلم أي: رضوا بما عندهم من العلم، ولم يطلبوا العلم الذي أنزله الله على الأنبياء وقنعوا بما عندهم، وهو كان جهلا على الحقيقة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم} فيه وجوه: منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} [النمل: 66]: وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون: لا نبعث ولا نعذب، {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50]...

ومنها: أن يوضع قوله {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم} ولا علم عندهم البتة، موضع قوله: لم يفرحوا بما جاءهم من العلم، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء.

ومنها أن يراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي فرحين مرحين ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ}...

ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى:

{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غافلون} [الروم: 7]، فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات -وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات- لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم).. والعلم -بغير إيمان- فتنة. فتنة تعمي وتطغي. ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها. وهي موجودة في هذا الكون؛ ولا سلطان له عليها. بل لا إحاطة له بها. بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة. وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته. ويستخفه علمه وينسى جهله. ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه. وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم. واستهزأوا بمن يذكرهم بما وراءه: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون)...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جملة {فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلُهم بالبينات} الآية مفرعة على جملة {كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم} أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يُصدقوهم فرأوا بأسنا. وجعلها في « الكشاف» جارية مجرى البيان والتفسير لقوله: {فَمَا أغنى عَنْهُم}، وما سلَكْتُه أنا أحسن ومَوقع الفاء يؤيده.

ولِما في (لَمَّا) من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله. وجواب (لمّا) جملة {فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلْمِ} وما عطف عليها.

واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قِدداً، والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على {الَّذِينَ مِن قَبلِهم} وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد، فالذين (فَرحوا بما عندهم من العلم) هم (الذين جَاءتهم رُسُلهم بالبينات)، وهم الذين (حَاق بهم ما كانوا به يستهزئون)، والذين رأوا بأس الله، فما بنا إلا أن نُبين معنى {فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ}.

فالفَرَح هنا مكنّى به عن آثاره وهي الازدهاء كما في قوله تعالى: {إذ قال له قومه لا تفرح} [القصص: 76] أي بما أنت فيه مكنىًّ به هنا عن تمسكهم بما هم عليه، فالمعنى: أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر. وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أَهل الضلالة من أسلافهم.

قال مجاهد: قالوا لرسلهم: نحن أعلم منكم لن نُبعث ولن نُعذب اهـ. وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل. وقال السُدّي: فرحوا بما عندهم من العلم بجهلهم يعني فهو من قبيل قوله تعالى: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} [الأنعام: 148].

وحاق بهم: أحاط، يقال: حاق يحيق حيقا، إذا أحاط، وهو هنا مستعار للشدة التي لا تنفيس بها لأن المحيط بشيء لا يدع له مَفرجاً.

و {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ} هو الاستئصال والعذاب. والمعنى: أن رسلهم أوعدوهم بالعذاب فاستهزؤوا بالعذاب، أي بوقوعه وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء بوعيد الرسل كان شنشنة لهم، وفي الإتيان ب {يستهزؤون} مُضارعاً إفادة لتكرر استهزائهم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... قوله: {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ..} هذا نوع من الفرح الذي ذكرناه، وقلنا: إنه غير مشروع وفرح أحمق. والمراد: فرحوا بما عندهم من العلم الذي يُحاجُّون به القرآن كقولهم: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ..} [الجاثية: 24] وهكذا يقول العلمانيون، ومثل قولهم: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا..} [الأنعام: 148].

فكل قضية تُعرض عليهم يريدون أنْ يعارضوها معارضةً هم مقتنعون بها رغم بطلانها، وهذا نوع من العلم عندهم.

أو المعنى: فرحوا بما عندهم من العلم بظواهر الحياة والحضارات التي أقاموها، فقالوا: لسنا في حاجة إلى الرسل، لأن ما عندنا من العلوم أي المادية فيه كفاية. ونقول: أنتم نظرتم إلى سطحيات الأمور وإلى الأشياء التي تبررون بها فكركم، فقلتم: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا..} [الأنعام: 148] يعني: تتهم الله، وهذا دليلٌ على أنك تريد ذلك...

ومعنى {يَسْتَهْزِئُونَ} من هُزْء الباطل من الحق، لماذا؟ قالوا: لأن الباطل حين يرى حقاً يدفعه فلا بُدَّ له أنْ يفُتَّ في عَضُد مَنْ يؤمن به، لأنه لو لم يَفُت في عضده جذبه هو إلى الحق؛ ولذلك سمعناهم يقولون: {لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].

والله لو لم يكونوا يعلمون حلاوة القرآن وأخْذه لمن سمعه واستيلاءه على الأسماع والقلوب، ولولا خوفهم من أنْ يأخذ القرآنُ منهم سيادتهم لما قالوا هذا الكلام، ولما حذَّروا الناس من سماعهم، ولو كان كلاماً عادياً ما وقفوا منه هذا الموقف. إذن: فهموا أن القرآن حَقٌّ، ومَنْ سمعه لا بدَّ أنْ يهتدي به. ومعنى سمعه يعني: بمواجيده...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الآية تنتقل للحديث عن تعاملهم مع الأنبياء ومعاجز الرسل البينة، حيث يقول تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبيّنات فرحوا بما عندهم من العلم) أيّ إنّهم فرحوا بما عندهم من المعلومات والأخبار، وصرفوا وجوههم عن الأنبياء وأدلتهم. وكان هذا الأمر سبباً لأن ينزل بهم العذاب الإلهي: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون).

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (83)

وقوله { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } رضوا بما عندهم من العلم وقالوا نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (83)

قوله تعالى : " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات " أي بالآيات الواضحات . " فرحوا بما عندهم من العلم " في معناه ثلاثة أقوال . قال مجاهد : إن الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم قالوا : نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث . وقيل : فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا نحو " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا " [ الروم : 7 ] . وقيل : الذين فرحوا الرسل لما كذبهم قومهم أعلمهم الله عز وجل أنه مهلك الكافرين ومنجيهم والمؤمنين ف " فرحوا بما عندهم من العلم " بنجاة المؤمنين " وحاق بهم " أي بالكفار " ما كانوا به يستهزئون " أي عقاب استهزائهم بما جاء به الرسل صلوات الله عليهم .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (83)

ولما أخبر عن كثرتهم وقوتهم وآثارهم الدالة على مكنتهم ، سبب عنه شرح حالهم ، الذي أدى إلى هلاكهم واغتيالهم ، فقال مبيناً لما أغنى : { فلما جاءتهم رسلهم } أي الذين أرسلناهم إليهم وهم منهم يعرفون صدقهم وأمانتهم { بالبينات } أي الدالة على صدقهم لا محالة { فرحوا } أي القوم الموصوفون { بما عندهم من العلم } الذي أثروا به تلك الآثار في الأرض من إنباط المياه وجر الأثقال وهندسة الأبنية ومعرفة الأقاليم وإرصاد الكواكب لأجل معرفة أحوال المعاش ، وغير ذلك من ظواهر العلوم المؤدية إلى التفاخر والتعاظم والتكاثر وقوفاً مع الوهم ، وتقييداً بالحاضر من الرسم من علم ظاهر الحياة الدنيا وقناعة بالفاني كما قال في التي قبلها

{ ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم }[ الزمر : 49 ] وكما قال قارون لما قيل له { وأحسن كما أحسن الله إليك } : " قال " : { إنما أوتيته على علم عندي } وفرحهم به لأنه أداهم إلى التوسع في الدنيا والتلذذ بما فيها واستهزؤوا بما اتتهم به الرسل من علم الباطن الداعي إلى الإعراض عن الفاني والإقبال على الباقي والخوف مما بعد الموت من الأمور الغائبة والأهوال الآتية والكوائن العظيمة المستورة بحجاب هذه الحياة الدنيا الواهي ، على ما فيها من الذوات والمعاني والأحوال والأوجال والدواهي ، والذي حركهم إلى الفرح بما عندهم هو ما هم فيه من الزهرة مع ما يرون من تقلل الرسل وأتباعهم من الدنيا ، وإسراع المصائب إليهم ، وكثرة ما يعانونه من الهموم والأنكاد ، ويكابدونه من الأنداد والأضداد ، فاشتد استهزاؤهم بهم وبما أتوا به بعدّهم ذلك محالاً وباطلاً وضلالاً ، وكانوا لا ينفكون من فعل الفرح الأشر البطر بالتضاحك والتمايل كما قال الله تعالى { فلما جاءهم إذا هم منها يضحكون } ونصبوا للرسل واتباعهم المكايد ، وأحاطوا بهم المكر والغوايل ، وهموا بأخذهم فأنجينا رسلنا ومن آمن بهم منهم وأتيناهم بما أزال فرحهم ، وأطال غمهم وترحهم { وحاق } أي أحاط على وجه الشدة { بهم ما كانوا } أي عادة مستمرة .

ولما كان استهزاؤهم بالحق عظيماً جداً ، عد استهزاءهم بغيره عدماً ، وأشار إلى ذلك بتقديم الجار فقال : { به يستهزؤون * } من الوعيد الذي كانوا قاطعين ببطلانه فعلم قطعاً أنه إنما يفرح من العلم بما تضمن النجاة والسعادة الأبدية على أن سوق الكلام هكذا مليء بالاستهزاء بهم والتهكم عليهم لأنهم نصبوا أنفسهم منصب العالم المطيق المنطيق الذي إذا غلب خصمه فأسكته وألقمه الحجر فأخرسه وأفحمه بواضح الحجة وقويم المحجة ظهر عليه السرور وغلبه الفرح فإن عاند خصمه ووقف مع وهمه استهزأ به وتضاحك منه - هذا مع ما عنده من عمايات الجهل التي لا يقدرون على إنكارها بدليل اعتراف هؤلاء الذين أرسل إليهم هذا النبي الكريم أن أهل الكتاب أعلم منهم ، فكانوا يوجهون ركابهم إلى اليهود يسألونهم عن أمرهم وأمره على أنه قد أتاهم بما يعلي به قدرهم على أهل الكتاب ، ويجعلهم المخصوصين بالسيادة على مر الأحقاب ، وهم يأبون بمجادلتهم بالباطل إلا سفولاً وإعراضاً عن الصواب ، وعدولاً ونكوصاً ونكولاً ، والآية مرشدة إلى أنه لا يتعلم إلا من ظن من نفسه القصور ، ولهذا كان أقبل شيء للعلم الصغار ، والآية من الاحتباك : إثبات الفرح أولاً دليل عل حذف ضده ثانياً ، وإثبات الاستهزاء ثانياً دليل على حذف مثله أولاً .

ولما كانت هذه السورة في بيان العزة التي هي نتيجة كمال العلم وشمول القدرة ، وكان عظم العزة بحسب عظمة المأخوذ بها المعاند لها ، كرر ذكر المجادلة في هذه السورة تكريراً أذن بذلك فقال في أولها { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } ثم دل على أنهم مأخوذون من غير أن يغني عنهم جدالهم الذي أنتجه ضلالهم ، وعلى توابع ذلك ترغيباً وترهيباً إلى أن قال { هو الذي يريكم آياته } وذكر بعض ما اشتد إلفهم له حتى سقطت غرابته عندهم ، فنبههم على ما فيه ليكفهم عن الجدال ويغتنوا به عن اقتراح غيره ، ثم ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مذكراً لهم ما حصل من تعذيب المكذبين المجادلين بعد وقوع ما اقترحوا من الآيات بقولهم { فائت بآية إن كنت من الصادقين } ومضى يذكر وينذر ويحذر في تلك الأساليب التي هي أمضى من السيوف ، وأجلى من الشموس في الصحو دون الكسوف ، حتى قال { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا } ثم شرع في إتمام قصة موسى عليه السلام إلى أن قال { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } ثم شرع يعدد الآيات العظيمة التي تأبى لشدة وضوحها جدال المجادل ، وضلال المماحك المماحل ، لولا أنه قد أخرجتها شدة الإلف لها من حيز الغرابة من خلق الخافقين وتكوير الملوين ، وبسط الأرض ورفع السماء وتصوير الإنسان وما فيه من عظيم الشأن ، فكشف ستورها ، وبين دلالتها وظهورها ، ولفت الكلام إلى تهديد المجادلين بقوله منكراً عليهم { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } على عادة البلغاء في أنه إذا أخرس أحدهم خصمه بما هو من حججه كالشمس نوراً وطلعة وظهوراً أنكر بالاستفهام الذي هو أمر من وقع السهام .