( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ) . .
والعلم - بغير إيمان - فتنة . فتنة تعمي وتطغي . ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور ، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة ، ويملك مقدرات عظيمة ، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها ! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها . وهي موجودة في هذا الكون ؛ ولا سلطان له عليها . بل لا إحاطة له بها . بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة . وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته . ويستخفه علمه وينسى جهله . ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه ، وخفف من فرحه الذي يستخفه .
وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم . واستهزأوا بمن يذكرهم بما وراءه :
{ فرحوا بما عندهم من العلم } : أي فرح الكافرون بما عندهم من العلم الذي هو الجهل بعينه .
أما الآية الثانية ( 83 ) فهي قوله تعالى { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات } يخبر تعالى عن المكذبين الهالكين أنهم لما جاءتهم رسلهم بالحجج والأدلة الظاهرة على توحيد الله والبعث والجزاء وصدقهم في النبوة والرسالة { فرحوا بما عندهم من العلم } المادي وسخروا من العلم الروحي واستهزأوا بأهله فرحاً ومرحاً ، { وحاق بهم } أي أحاط بهم العذاب الذي كان نتيجة كفرهم وتكذيبهم واستهزائهم .
- بيان سنة بشرية وهي أن الماديين يغترون بمعارفهم المادية ليستغنوا بها عن العلوم الروحية في نظرهم إلا أنها لا تغني عنهم شيئاً عند حلول العذاب بهم في الدنيا وفي الآخرة .
ثم ذكر جرمهم الكبير فقال : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } من الكتب الإلهية ، والخوارق العظيمة ، والعلم النافع المبين ، للهدي من الضلال ، والحق من الباطل { فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } المناقض لدين الرسل .
ومن المعلوم ، أن فرحهم به ، يدل على شدة رضاهم به ، وتمسكهم ، ومعاداة الحق ، الذي جاءت به الرسل ، وجعل باطلهم حقًا ، وهذا عام لجميع العلوم ، التي نوقض بها ، ما جاءت به الرسل ، ومن أحقها بالدخول في هذا ، علوم الفلسفة ، والمنطق اليوناني ، الذي رُدَّت به كثير من آيات القرآن ، ونقصت قدره في القلوب ، وجعلت أدلته اليقينية القاطعة ، أدلة لفظية ، لا تفيد شيئًا من اليقين ، ويقدم عليها عقول أهل السفه والباطل ، وهذا من أعظم الإلحاد في آيات الله ، والمعارضة لها ، والمناقضة ، فالله المستعان .
{ وَحَاقَ بِهِمْ } أي : نزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } من العذاب .
قوله تعالى : " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات " أي بالآيات الواضحات . " فرحوا بما عندهم من العلم " في معناه ثلاثة أقوال . قال مجاهد : إن الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم قالوا : نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث . وقيل : فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا نحو " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا " [ الروم : 7 ] . وقيل : الذين فرحوا الرسل لما كذبهم قومهم أعلمهم الله عز وجل أنه مهلك الكافرين ومنجيهم والمؤمنين ف " فرحوا بما عندهم من العلم " بنجاة المؤمنين " وحاق بهم " أي بالكفار " ما كانوا به يستهزئون " أي عقاب استهزائهم بما جاء به الرسل صلوات الله عليهم .
ولما أخبر عن كثرتهم وقوتهم وآثارهم الدالة على مكنتهم ، سبب عنه شرح حالهم ، الذي أدى إلى هلاكهم واغتيالهم ، فقال مبيناً لما أغنى : { فلما جاءتهم رسلهم } أي الذين أرسلناهم إليهم وهم منهم يعرفون صدقهم وأمانتهم { بالبينات } أي الدالة على صدقهم لا محالة { فرحوا } أي القوم الموصوفون { بما عندهم من العلم } الذي أثروا به تلك الآثار في الأرض من إنباط المياه وجر الأثقال وهندسة الأبنية ومعرفة الأقاليم وإرصاد الكواكب لأجل معرفة أحوال المعاش ، وغير ذلك من ظواهر العلوم المؤدية إلى التفاخر والتعاظم والتكاثر وقوفاً مع الوهم ، وتقييداً بالحاضر من الرسم من علم ظاهر الحياة الدنيا وقناعة بالفاني كما قال في التي قبلها
{ ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم }[ الزمر : 49 ] وكما قال قارون لما قيل له { وأحسن كما أحسن الله إليك } : " قال " : { إنما أوتيته على علم عندي } وفرحهم به لأنه أداهم إلى التوسع في الدنيا والتلذذ بما فيها واستهزؤوا بما اتتهم به الرسل من علم الباطن الداعي إلى الإعراض عن الفاني والإقبال على الباقي والخوف مما بعد الموت من الأمور الغائبة والأهوال الآتية والكوائن العظيمة المستورة بحجاب هذه الحياة الدنيا الواهي ، على ما فيها من الذوات والمعاني والأحوال والأوجال والدواهي ، والذي حركهم إلى الفرح بما عندهم هو ما هم فيه من الزهرة مع ما يرون من تقلل الرسل وأتباعهم من الدنيا ، وإسراع المصائب إليهم ، وكثرة ما يعانونه من الهموم والأنكاد ، ويكابدونه من الأنداد والأضداد ، فاشتد استهزاؤهم بهم وبما أتوا به بعدّهم ذلك محالاً وباطلاً وضلالاً ، وكانوا لا ينفكون من فعل الفرح الأشر البطر بالتضاحك والتمايل كما قال الله تعالى { فلما جاءهم إذا هم منها يضحكون } ونصبوا للرسل واتباعهم المكايد ، وأحاطوا بهم المكر والغوايل ، وهموا بأخذهم فأنجينا رسلنا ومن آمن بهم منهم وأتيناهم بما أزال فرحهم ، وأطال غمهم وترحهم { وحاق } أي أحاط على وجه الشدة { بهم ما كانوا } أي عادة مستمرة .
ولما كان استهزاؤهم بالحق عظيماً جداً ، عد استهزاءهم بغيره عدماً ، وأشار إلى ذلك بتقديم الجار فقال : { به يستهزؤون * } من الوعيد الذي كانوا قاطعين ببطلانه فعلم قطعاً أنه إنما يفرح من العلم بما تضمن النجاة والسعادة الأبدية على أن سوق الكلام هكذا مليء بالاستهزاء بهم والتهكم عليهم لأنهم نصبوا أنفسهم منصب العالم المطيق المنطيق الذي إذا غلب خصمه فأسكته وألقمه الحجر فأخرسه وأفحمه بواضح الحجة وقويم المحجة ظهر عليه السرور وغلبه الفرح فإن عاند خصمه ووقف مع وهمه استهزأ به وتضاحك منه - هذا مع ما عنده من عمايات الجهل التي لا يقدرون على إنكارها بدليل اعتراف هؤلاء الذين أرسل إليهم هذا النبي الكريم أن أهل الكتاب أعلم منهم ، فكانوا يوجهون ركابهم إلى اليهود يسألونهم عن أمرهم وأمره على أنه قد أتاهم بما يعلي به قدرهم على أهل الكتاب ، ويجعلهم المخصوصين بالسيادة على مر الأحقاب ، وهم يأبون بمجادلتهم بالباطل إلا سفولاً وإعراضاً عن الصواب ، وعدولاً ونكوصاً ونكولاً ، والآية مرشدة إلى أنه لا يتعلم إلا من ظن من نفسه القصور ، ولهذا كان أقبل شيء للعلم الصغار ، والآية من الاحتباك : إثبات الفرح أولاً دليل عل حذف ضده ثانياً ، وإثبات الاستهزاء ثانياً دليل على حذف مثله أولاً .
ولما كانت هذه السورة في بيان العزة التي هي نتيجة كمال العلم وشمول القدرة ، وكان عظم العزة بحسب عظمة المأخوذ بها المعاند لها ، كرر ذكر المجادلة في هذه السورة تكريراً أذن بذلك فقال في أولها { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } ثم دل على أنهم مأخوذون من غير أن يغني عنهم جدالهم الذي أنتجه ضلالهم ، وعلى توابع ذلك ترغيباً وترهيباً إلى أن قال { هو الذي يريكم آياته } وذكر بعض ما اشتد إلفهم له حتى سقطت غرابته عندهم ، فنبههم على ما فيه ليكفهم عن الجدال ويغتنوا به عن اقتراح غيره ، ثم ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مذكراً لهم ما حصل من تعذيب المكذبين المجادلين بعد وقوع ما اقترحوا من الآيات بقولهم { فائت بآية إن كنت من الصادقين } ومضى يذكر وينذر ويحذر في تلك الأساليب التي هي أمضى من السيوف ، وأجلى من الشموس في الصحو دون الكسوف ، حتى قال { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا } ثم شرع في إتمام قصة موسى عليه السلام إلى أن قال { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } ثم شرع يعدد الآيات العظيمة التي تأبى لشدة وضوحها جدال المجادل ، وضلال المماحك المماحل ، لولا أنه قد أخرجتها شدة الإلف لها من حيز الغرابة من خلق الخافقين وتكوير الملوين ، وبسط الأرض ورفع السماء وتصوير الإنسان وما فيه من عظيم الشأن ، فكشف ستورها ، وبين دلالتها وظهورها ، ولفت الكلام إلى تهديد المجادلين بقوله منكراً عليهم { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } على عادة البلغاء في أنه إذا أخرس أحدهم خصمه بما هو من حججه كالشمس نوراً وطلعة وظهوراً أنكر بالاستفهام الذي هو أمر من وقع السهام .