ثم يقرر أصل القضية ، وحقيقة الوضع فيها :
( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم . إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم . وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، وإن الله لعفو غفور ) . .
فهو علاج للقضية من أساسها . إن هذا الظهار قائم على غير أصل . فالزوجة ليست أما حتى تكون محرمة كالأم . فالأم هي التي ولدت . ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أما بكلمة تقال . إنها كلمة منكرة ينكرها الواقع . وكلمة مزورة ينكرها الحق . والأمور في الحياة يجب أن تقوم على الحق والواقع ، في وضوح وتحديد ، فلا تختلط ذلك الاختلاط ، ولا تضطرب هذا الاضطراب . . ( وإن الله لعفو غفور )فيما سلف من هذه الأمور .
والظهار هنا : أن يقول الرجل لزوجته : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، يريد أنها حرمت عليه كما تحرم أمه عليه .
وقد أبطل الإسلامُ هذه العادةَ ، فالذي يقول لزوجته أنت عليَّ كظهرِ أمي كلامُهُ باطل ، ولا تحرم زوجته عليه ولا تكون كأمه . فإن أمه هي التي ولدَتْهُ ، وإن الذين يستعملون هذه الألفاظ من الظهار { لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } يأباه اللهُ ورسوله .
فالله تعالى أبطلَ هذا الطلاق { وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } لما سلَفَ من الذنوب ، وهذا من فضل الله ولطفه بعباده .
قرأ عاصم : يظاهرون من ظاهَرَ ، يظاهِر ، بكسر الهاء بغير تشديد . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو يظَّهَّرون ، بفتح الظاء والهاء المشددتين من ظهَّر يظهر . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : يَظّاهرون بفتح الظاء المشددة بعدها ألف ، من اظّاهرَ يظاهر .
قال: مالك: ليس على النساء تظاهر، إنما قال الله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} ولم يقل: واللاتي يظاهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الذين يحرّمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم، فيقولون لهنّ: أنتن علينا كظهور أمهاتنا، وذلك كان طلاق الرجل امرأته في الجاهلية...
وقوله:"ما هُنّ أمّهاتِهِمْ "يقول تعالى ذكره: ما نساؤهم اللائي يُظاهرن منهنّ بأمهاتهم، فيقولوا لهنّ: أنتن علينا كظهر أمهاتنا، بل هنّ لهم حلال.
وقوله: "إنْ أُمّهاتُهُمْ إلاّ اللاّئي وَلَدْنَهُمْ" لا اللائي قالوا لهنّ ذلك.
وقوله: "وإنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرا مِنَ القَوْلِ وَزُورا" يقول جلّ ثناؤه: وإن الرجال ليقولون منكرا من القول الذي لا تُعرف صحته "وزورا": يعني كذبا...
"وَإنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ" يقول جلّ ثناؤه: إن الله لذو عفو وصفح عن ذنوب عباده إذا تابوا منها وأنابوا، غفور لهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وحرمة النساء في الأصل غير حرمة الأمهات، فإن الأم حرام الاستمتاع بها على التأبيد، لكن يباح للرجل أن يدخل على أمه، ويخدمها ويسافر بها، ويباح [له] النظر والمس والإركاب والإنزال والخلوة بها والمقام معها. والمرأة متى حرمت بالطلاق بالثلاث أو بالبينونة لا يثبت شيء من هذه الحقوق...
وإنه لم يجعل لنسائهم حرمة أمهاتهم اللاتي ولدنهم، فما بالهم يخترعون من أنفسهم شيئا لم أجعله، ولم أشرعه؟ فرد صنيعهم بهذا. وعلى هذا يخرج تأويل قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} إنما كذبهم بما قالوا من إيجاب تلك الحقوق والأحكام على أنفسهم في نسائهم من غير أن جعل الله تعالى ذلك، أي {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} في إيجاب الحقوق فيهن كما في الأمهات وتشبيههم إياهن بالأمهات في الأحكام والحقوق والحرمة، وإن كان كلامهم وقولهم من حيث ظاهر التشبيه ليس بمنكر ولا بزور...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الذين يظاهرون مِنكُمْ} في {مِنكُمْ} توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم {مَّا هُنَّ أمهاتهم}... والمعنى: أن من يقول لامرأته أنت عليّ كظهر أمي: ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم، وجاعلها مثلها. وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين {إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هنّ الوالدات وغيرهنّ ملحقات بهنّ لدخولهنّ في حكمهنّ، فالمرضعات أمّهات؛ لأنهنّ لما أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمهات، وكذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين؛ لأن الله حرّم نكاحهن على الأمة فدخلن بذلك في حكم الأمهات. وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة لأنهنّ لسن بأمّهات على الحقيقة. ولا بداخلات في حكم الأمهات، فكان قول المظاهر: منكراً من القول تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية وزوراً وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} لما سلف منه إذا تيب منه ولم يعد إليه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ويعلم من الآيات أن الظهار حرام بل قالوا: إنه كبيرة لأن فيه إقداماً على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه، وهذا أخطر من كثير من الكبائر إذ قضيته الكفر لولا خلو الاعتقاد عن ذلك، واحتمال التشبيه لذلك وغيره، ومن ثم سماه عز وجل {مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهو علاج للقضية من أساسها. إن هذا الظهار قائم على غير أصل. فالزوجة ليست أما حتى تكون محرمة كالأم. فالأم هي التي ولدت. ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أما بكلمة تقال. إنها كلمة منكرة ينكرها الواقع. وكلمة مزورة ينكرها الحق. والأمور في الحياة يجب أن تقوم على الحق والواقع، في وضوح وتحديد، فلا تختلط ذلك الاختلاط، ولا تضطرب هذا الاضطراب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ما هن أمهاتهم} خبر عن {الذين}، أي ليس أزواجهم أمهات لهم بقول أحدهم: أنت عليّ كظهر أمّي، أي لا تصير الزوج بذلك أمًّا لقائل تلك المقالة. وهذا تمهيد لإِبطال أثر صيغة الظهار في تحريم الزوجة، بما يشير إلى أن الأمومةَ حقيقةٌ ثابتة لا تُصنع بالقول إذ القول لا يبدل حقائق الأشياء...
{إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} أي فليست الزوجاتُ المظاهَرُ منهن بصائرات أمهات بذلك الظهار لانعدام حقيقة الأمومة منهن إذ هن لم يلدن القائلين: أنتِ عليّ كظهر أمي، فلا يحرمْن عليهم، فالقصر في الآية حقيقي، أي فالتحريم بالظهار أمر باطل لا يقتضيه سبب يؤثِّر إيجاده. وتأكيد الخبر {بإنّ} واللامِ، للاهتمام بإيقاظ الناس لشناعته إذ كانوا قد اعتادوه فنُزلوا منزلة من يتردد في كونه منكراً أو زوراً، وفي هذا دلالة على أن الظهار لم يكن مشروعاً في شَرع قديم ولا في شريعة الإِسلام، وأنه شيء وضعَه أهل الجاهلية كما نبه عليه عَدُّه مع تكاذيب الجاهلية في قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظّهّرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم} وقد تقدم في سورة [الأحزاب: 4].
وبعد هذا التوبيخ عَطف عليه جملة {وإن الله لعفو} كناية عن عدم مواخذتهم بما صدر منهم من الظهار قبل هذه الآية، إذ كان عذرهم أن ذلك قول تابعوا فيه أسلافهم وجرَى على ألسنتهم دون تفكر في مدلولاته. وأما بعد نزول هذه الآية فمذهب المالكية: أن حكم إيقاعه الحُرمة
السياق القرآني هنا يوجّه الحديث لهؤلاء الذين يقعون في هذا القول المحرّم وهذا التشبيه الآثم، يقول لهم: احذروا هذا القول وفرّقوا بين الأم والزوجة، الأم هي التي ولدت، فالزوجة لا تكون أمّا أبداً ولا يليق أنْ نُسميها أماً.
فضعوا الأمور في نصابها، الأم أم والزوجة زوجة، ولكلّ منهما حدود.
ثم يبيّن لهم أن هذا القول (أنت عليَّ كظهر أمي) قول منكر {وإنّهُم لَيَقُولُون مُنكراً منَ القوْل وزوراً..} المنكر هو القول الذي ينكره العقل وينكره الذوق السليم، والزور هو الكذب والباطل، فمن المنكر ومن الكذب أنْ تشبه الزوجة بالأم أو الأم بالزوجة، يريد سبحانه أنْ يلغي هذا القول من ألسنة المسلمين، كما ألغى عملية التبني في قصة سيدنا زيد بن حارثة التي تعرفونها.
وتختتم الآية بقوله تعالى: {وإنَّ الله لعَفُو غَفُورٌ} أي: لما سلف منكم وما سبق من تجاوزاتكم.
ثم ذم الظهار فقال { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم } أي ما اللواتي يجعلن من الزوجات كالأمهات بأمهات { إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } ما أمهاتهم الا الوالدات { وإنهم ليقولون } بلفظ الظهار { منكرا من القول } لاتعرف صحته { وزورا } وكذبا فإن المرأة لا تكون كالأم { وإن الله لعفو غفور } عفا وغفر للمظاهر بجعل الكفارة عليه .
الأولى- قوله تعالى : " الذين يظاهرون{[14745]} " قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف " يظاهرون " بفتح الياء وتشديد الظاء وألف . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب " يظهرون " بحذف الألف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء . وقرأ أبو العالية وعاصم وزر بن حبيش " يظاهرون " بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء . وقد تقدم هذا في " الأحزاب{[14746]} " . وفي قراءة أبى " يتظاهرون " وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة . وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب ، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنى عنه بالظهر ؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره ، فكنى بالظهر عن الركوب . ويقال : نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب . ومعنى أنت علي كظهر أمي : أي أنت علي محرمة لا يحل لي ركوبك .
الثانية- حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر ، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم ، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته : أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر . وأكثرهم على أنه إن قال لها : أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر . وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما . واختلف فيه عن الشافعي رضي الله عنه ، فروي عنه نحو قول مالك ؛ لأنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالأم . وروى عنه أبو ثور : أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها . وهو مذهب قتادة والشعبي . والأول قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري .
الثالثة- أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا . فإن قال : أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر ، أو قال : أنت علي مثل أمي ، فإن أراد الظهار فله نيته ، وإن أراد الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك ، وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا . ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق ، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار ، وكناية الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت .
الرابعة- ألفاظ الظهار ضربان : صريح وكناية ، فالصريح أنت علي كظهر أمي ، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي . وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه ، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر ، مثل قوله : يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه . وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يكون ظهارا . وهذا ضعيف منه ؛ لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافا لأبي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه . ومتى شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف . وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت ، والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء ، وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا . والكناية أن يقول : أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية . فإن أراد الظهار كان ظهارا ، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة . وقد تقدم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك ، والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا . أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فإن معنى اللفظ فيه موجود - واللفظ بمعناه - ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم ، قاله ابن العربي .
الخامسة- إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان مظاهرا ، خلافا لأبي حنيفة في قوله : إنه إن شبهها بعضو يحل له النظر إليه لم يكن مظاهرا . وهذا لا يصح ؛ لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له ، وفيه وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر ، وقد قال الإمام الشافعي في قوله : إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده . وهذا فاسد ؛ لأن كل عضو منها محرم ، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر ، ولأن المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى .
السادسة- إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الأول ، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا ، فمنهم من قال : يكون ظهارا . ومنهم من قال : يكون طلاقا . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يكون شيئا . قال ابن العربي : وهذا فاسد ؛ لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر ، والأسماء بمعانيها عندنا ، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم .
قلت : الخلاف في الظهار بالأجنبية قوي عند مالك . وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن . ومنهم من لا يجعله شيئا . ومنهم من يجعله في الأجنبية طلاقا . وهو عند مالك إذا قال : كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه . وقد روي عنه أيضا : أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء ، كما قال الكوفي والشافعي . وقال الأوزاعي : لو قال لها أنت علي كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها . والله أعلم .
السابعة- إذا قال : أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا ؛ لأن قوله : أنت حرام علي يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة ، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لأحد الاحتمالين يقضي به فيه .
الثامنة- الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه . وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه ، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يلزم . قال القاضي أبو بكر بن العربي : وهي مسألة عسيرة جدا علينا ؛ لأن مالكا يقول : إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم . فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته . ولكن تدخل الأمة في عموم قوله : " من نسائهم " لأنه أراد من محللاتهم . والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فصح في الأمة ، أصله الحلف بالله تعالى .
التاسعة- ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك . ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة ، لقوله تعالى : " من نسائهم " وهذه ليست من نسائه . وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة " التوبة " عند قوله تعالى " ومنهم من عاهد الله{[14747]} " [ التوبة : 75 ] الآية .
العاشرة- الذمي لا يلزم ظهاره . وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : يصح ظهار الذمي ، ودليلنا قوله تعالى : " منكم " يعني من المسلمين . وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب . فإن قيل : هذا استدلال بدليل الخطاب . قلنا : هو استدلال بالاشتقاق والمعنى ، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار ، وذلك كقوله تعالى : " وأشهدوا ذوي عدل منكم{[14748]} " [ الطلاق : 2 ] وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة ، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال .
الحادية عشرة- قوله تعالى : " منكم " يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه . وحكاه الثعلبي عن مالك ، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام .
وقال مالك رضي الله عنه : ليس على النساء تظاهر ، وإنما قال الله تعالى : الثانية عشرة- " والذين يظهرون منكم من نسائهم " ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن ، إنما الظهار على الرجال . قال ابن العربي : هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد . وهو صحيح معنى ؛ لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم{[14749]} في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شيء وهذا إجماع . قال أبو عمر : ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء . وقال الحسن بن زياد : هي مظاهرة . وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد : ليس ظهار المرأة من الرجل بشيء قبل النكاح كان أو بعده . وقال الشافعي : لا ظهار للمرأة من الرجل . وقال الأوزاعي إذا قالت المرأة لزوجها ، أنت علي كظهر أمي{[14750]} فلانة فهي يمين تكفرها . وكذلك قال إسحاق ، قال : لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها . وقال الزهري : أرى أن تكفر الظهار ، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها ، رواه عنه معمر . وابن جريج عن عطاء قال : حرمت ما أحل الله عليها كفارة يمين . وهو قول أبي يوسف . وقال محمد بن الحسن : لا شيء عليها .
الثالثة عشرة- من به لَمَمٌ وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره ، لما روي في الحديث : أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لَمَم فأصابه بعض لَمَمِه فظاهر من امرأته .
الرابعة عشرة- من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه . وفي بعض طرق هذا الحديث ، قال يوسف بن عبدالله بن سلام : حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت ، قالت : كان بيني وبينه شيء ، فقال : أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه . فقولها : كان بيني وبينه شيء ، دليل على منازعة أحرجته{[14751]} فظاهر منها . والغضب لغو لا يرفع حكما ولا يغير شرعا وكذلك السكران وهي :
الخامسة عشرة : يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظَم قوله ونظَم كلامه ، لقوله تعالى : { حتى تعلموا ما تقولون } [ النساء : 43 ] على ما تقدم في " النساء{[14752]} " بيانه ، والله أعلم .
السادسة عشرة- ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر ، خلافا للشافعي في أحد قوليه ؛ لأن قوله : أنت علي كظهر أمي يقتضي تحريم كل استمتاع بلفظه ومعناه ، فإن وطئها قبل أن يكفر وهي :
السابعة عشرة : استغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة . وقال مجاهد وغيره : عليه كفارتان . روى سعيد عن قتادة ، ومطرف عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر : إذا وطئ قبل أن يكفر عليه كفارتان . ومعمر عن قتادة قال : قال قبيصة بن ذؤيب : عليه كفارتان . وروى جماعة من الأئمة منهم ابن ماجه والنسائي عن ابن عباس : أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال : ( ما حملك على ذلك ) فقال : يا رسول الله ! رأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمره ألا يقربها حتى يكفر . وروى ابن ماجه والدارقطني عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر أنه ظاهر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا .
الثامنة عشرة- إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة ، كقوله : أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا من كل واحدة منهن ، ولم يجز له وطء إحداهن وأجزأته كفارة واحدة . وقال الشافعي : تلزمه أربع كفارات . وليس في الآية دليل على شيء من ذلك ؛ لأن لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعول على المعنى . وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة ، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة . وهذا إجماع .
التاسعة عشرة- فإن قال لأربع نسوة : إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفر ، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن . وقد قيل : لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر . والأول هو المذهب .
الموفية العشرون- وإن قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة{[14753]} ، لزمه الطلاق والظهار معا ، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفر ، فإن قال لها : أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار ؛ لأن المبتوتة لا يلحقها طلاق .
الحادية والعشرون- قال بعض العلماء : لا يصح ظهار غير المدخول بها . وقال المزني : لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة ، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياسا ونظرا . والله أعلم .
الثانية والعشرون- قوله تعالى : " ما هن أمهاتهم " أي ما نساؤهم بأمهاتهم . وقراءة العامة " أمهاتهم " بخفض التاء على لغة أهل الحجاز ، كقوله تعالى : { ما هذا بشرا } [ يوسف : 31 ] . وقرأ أبو معمر والسلمي وغيرهما " أمهاتهم " بالرفع على لغة تميم . قال الفراء : أهل نجد وبنو تميم يقولون " ما هذا بشر " ، و " ما هن أمهاتهم " بالرفع . " إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم " أي ما أمهاتهم إلا الوالدات . وفي المثل : ولدك من دَمَّى عَقِبَيْكِ . وقد تقدم القول في اللائي في " الأحزاب{[14754]} " .
الثالثة والعشرون- " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " أي فظيعا من القول لا يعرف في الشرع . والزور الكذب " وإن الله لعفو غفور " إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر .
{ الذين يظاهرون منكم من نسائهم } قرئ يظاهرون بألف بعد الظاء وبحذفها وبالتشديد والتخفيف والمعنى واحد وهو إيقاع الظهار ، والظهار المجمع عليه هو أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ويجري مجرى ذلك عند مالك تشبيه الزوجة بكل امرأة محرمة على التأبيد كالبنت والأخت وسائر المحرمات بالنسب والمحرمات بالرضاع والمصاهرة سواء ذكر لفظ الظهر أو لم يذكره كقوله : أنت علي كأمي أو كبطن أمي أو يدها أو رجلها خلافا للشافعي فإن ذلك كله عنده ليس بظهار لأنه وقف عند لفظ الآية ، وقاس مالك عليها لأنه رأى أن المقصد تشبيه بحرام .
{ ما هن أمهاتهم } رد الله بهذا على من كان يوقع الظهار ويعتقده حقيقة وأخبر تعالى أن تصير الزوجة أما باطل فإن الأم في الحقيقة إنما هي الوالدة .
{ وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور ، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة والزور هو الكذب وإنما جعله كذبا لأن المظاهر يصير امرأته كأمه وهي لا تصير كذلك أبدا والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء :
أحدها : قوله تعالى : { ما هن أمهاتهم } فإن ذلك تكذيب للمظاهر .
والرابع : قوله : { وإن الله لعفو غفور } فإن العفو والمغفرة لا تقع إلا عن ذنب وهو مع ذلك لازم للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة .
قوله تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللاّئي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور 2 والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير 3 فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم 4 } .
هذه الآية أصل الظهار ، وهو مشتق من الظهر . وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها أنت علي كظهر أمي . وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقا كما كانوا عليه في جاهليتهم .
وقد أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته : أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر . أما إن قال لها : أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غيرهما من ذوات المحارم فإنه مظاهر كذلك في قول أكثر العلماء . وهو مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة وآخرين . وروي عن الشافعي قوله مثل ذلك . ووجهه أنه شبّه امرأته بظهر محرم عليه على التأبيد كالأم . وفي رواية عنه أخرى أنه لا يكون الظهار إلا بالأم وحدها .
على أن ألفاظ الظهار ضربان : صريح وكناية . أما الصريح فقوله لها : أنت علي كظهر أمي . أو أنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي . وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحو ذلك . وكذلك قوله لها : فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر . كما لو قال لها : يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق فإنها تطلق عليه . وهو قول المالكية والشافعية . أما الحنيفة فقالوا : إذا قال لها أنت عليّ كيد أمي أو كرأسها . أو ذكر شيئا يحل له النظر إليه منها لم يكن مظاهرا . وإن قال لها : أنت علي كبطنها أو فخذها ونحو ذلك كان مظاهرا ، لأنه لا يحل له النظر إليه كالظهر . أما الكناية فقوله لها : أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه ينظر إلى نيته . فإن أراد الظهار كان ظهار . وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا .
أما الظهار بغير ذوات المحارم كما لو ظاهر بالأجنبية فإنه ليس بشيء وهو قول الحنفية والشافعية وبعض المالكية . ووجه ذلك أن الأجنبية قد تحل له بتملك بعضها فتكون مثل زوجته وفي حكمها . وفي رواية عن مالك أن ذلك ظهار . وروي عنه أيضا أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء .
أما النساء فليس عليهن ظهار وإنما الظهار على الرجال فقط ، لصريح قوله : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } ولم يقل " اللاتي يظاهرن منكن من أزواجهن " وقد ذهب إلى ذلك عامة أهل العلم . وعلى هذا لو قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أمي فلا تكون متظاهرة وليس ذلك بشيء .
واختلفوا فيما يحرمه الظهار . فقد ذهبت الحنفية والمالكية وآخرون إلى أن المظاهر لا يلمس ولا يقبّل ولا ينظر إلى فرجها لشهوة حتى يكفر . وقال مالك : لا ينظر إلى شعرها ولا إلى صدرها حتى يكفّر . وقيل : يأتيها فيما دون الفرج . ولو ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة كان مظاهرا من كل واحدة منهن وليس له أن يطأ إحداهن حتى يكفر ، وتجزئه كفارة واحدة . وعند الإمام الشافعي أنه تلزمه أربع كفارات{[4474]} .
قوله : { ما هن أمهاتهم } يعني ما نساؤهم اللاتي يظاهرون منهن بأمهاتهم بل هن زوجاتهم وهن لهم حلال { إن أمهاتهم إلا اللاّئي ولدنهم } يعني ما أمهاتهم إلا اللائي ولدوا منهن أو والدتهم وليس اللائي ظاهروا منهن { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } منكرا وزورا منصوب على الوصف لمصدر محذوف وتقديره : وإنهم ليقولون قولا منكرا وقولا زورا{[4475]} يعني وإن هؤلاء الرجال المظاهرين ليقولون قولا مستقبحا لا تعرف صحته في الشرع { وزورا } أي كذبا { وإن الله لعفو غفور } الله يصفح عن ذنوب عباده ويستر عليهم سيئاتهم وقد جعل لهم الكفارة سبيلا للتخلص من هذه الخطيئة . وكذلك يعفو الله عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم كما روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته : يا أختي . فقال : " أختك هي ؟ " فهذا إنكار ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك ، لأنه لم يقصده ولو قصده لحرّمت عليه .