سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون
هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ؛ ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة ، حتى ليصح أن يقال : إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها ؛ وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعاً لتلك الحقيقة الرئيسية فيها
هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية ، وتعرضها من جوانب متعددة ؛ كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها ؛ ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها . وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها . كما تلم بقضية الرزق : بسطه وقبضه ؛ وصفة الإنسان في السراء والضراء .
ولكن حقيقة الوحي والرسالة ، وما يتصل بها ، تظل - مع ذلك - هي الحقيقة البارزة في محيط السورة ، والتي تطبعها وتظللها . وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها .
ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة ، وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة . فهي تعرض من جوانب متعددة . يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق . أو وحدانية الرازق . أو وحدانية المتصرف في القلوب . أو وحدانية المتصرف في المصير . . ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحي - سبحانه - ووحدة الوحي . ووحدة العقيدة . ووحدة المنهج والطريق . وأخيراً وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة .
ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزاً واضحاً ، بشتى معانيه وشتى ظلاله وشتى إيحاءاته ، من وراء موضوعات السورة جميعاً . . ونضرب بعض الأمثلة من السورة إجمالاً ، قبل أن نأخذ في التفصيل :
تبدأ بالأحرف المقطعة : حا . ميم . عين . سين . قاف . . يليها : ( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) . . مقرراً وحدة مصدر الوحي في الأولين والآخرين : ( إليك وإلى الذين من قبلك ) . .
ثم يستطرد السياق في صفة الله العزيز الحكيم : ( له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم ) . . مقرراً وحدانية المالك لما في السماوات والأرض واستعلاءه وعظمته على وجه الانفراد .
ثم يستطرد استطراداً آخر في وصف حال الكون تجاه قضية الإيمان بالمالك الواحد ، وتجاه الشرك الذي يشذ به بعض الناس : ( تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن ، والملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لمن في الأرض ، ألا إن الله هو الغفور الرحيم ، والذين اتخذوا من دونه أولياء ، الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل ) . . فإذا الكون كله مشغول بقضية الإيمان والشرك حتى إن السماوات ليكدن يتفطرن من شذوذ بعض أهل الأرض ، بينما الملائكة يستغفرون لمن في الأرض جميعاً من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين !
وبعد هذه الجولة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى : ( وكذلك أوحينا إليك ، قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها ، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير ) . .
ثم يستطرد مع ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) . . فيقرر أن لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة . ولكن مشيئته اقتضت - بما له من علم وحكمة - أن يدخل من يشاء في رحمته ( والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ) . . ويقرر أن الله وحده هو الولي ( وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ) . .
ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، حقيقة الوحي والرسالة ، فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو الله الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلاف : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت ، وإليه أنيب ) . .
ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق ، وتفرد ذاته . ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض ، وفي بسط الرزق وقبضه . وفي علمه بكل شيء : ( فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ، ومن الأنعام أزواجاً ، يذرؤكم فيه ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه بكل شيء عليم ) . .
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب . وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب . فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب . . . الخ . .
وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة ؛ محوطة بمثل هذا الجو ، وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى ، المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي .
وهذا النسق واضح وضوحا كاملاً في هذا الدرس الأول من السورة . فالقارئ يلتقي بعد كل بضع آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها .
فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة ، فيبدأ باستعراض بعض آيات الله في بسط الرزق وقبضه وفي تنزيل الغيث برحمته( وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام . ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم . فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب : ( يقولون هل إلى مرد من سبيل ، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي ) . . واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين :
( وقال الذين آمنوا : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ) . . وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان : ( استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ، ما لكم من ملجأ يومئذ ، وما لكم من نكير ) . .
ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة . حقيقة الوحي والرسالة . في جانب من جوانبها : ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ . . . ) .
ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة ، مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة ، حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ، إنه عليّ حكيم . وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ؛ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) . .
وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع .
هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة ، ورسولها ، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم .
وتبدأ أول إشارة مع مطلع السورة( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) . . لتقرر أن الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل ، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم .
وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل : ( وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها ) . . لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد .
وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) . .
وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع ، مخالفاً لهذه التوصية ، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم . وقع بغيا وظلما وحسدا : ( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) . .
ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا : ( وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ) . .
وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب ، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم . . فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها . والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة .
ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها [ صلى الله عليه وسلم ] لهذه القيادة : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم . وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ، وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم . . . الخ . . ومن ثم تجيء صفة الجماعة المؤمنة المميزة لها طبيعية في سياق هذه السورة - في الدرس الثاني - بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية على ذلك النهج الثابت القويم .
وعلى ضوء هذه الحقيقة يصبح سياق السورة وموضوعها الرئيسي والموضوعات الأخرى فيه واضحة القصد والاتجاه . وتتبع هذا السياق بالتفصيل يزيد هذا الأمر وضوحا . .
( حم . عسق . كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم . له ما في السماوات وما في الأرض ، وهو العلي العظيم . تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن ، والملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لمن في الأرض . ألا إن الله هو الغفور الرحيم . والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل ) . .
سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور بما فيه الكفاية . وهي تذكر هنا في مطلع السورة ، ويليها قوله تعالى :
سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون ، نزلت بعد سورة فصلت . وسميت " الشورى " لإرشاد الله المؤمنين إلى السير في تصريف أمور مجتمعهم على أساس الشورى بقوله تعالى { وأمرهم شورى بينهم } . وذلك لإحقاق الحق ، وإقامة العدل بين الناس . وتعالج السورة قضية العقيدة كسائر السور المكية ، وتركّز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة ، وتأتي سائر الموضوعات في ثناياها . وهي تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية ، وتعرضها من جوانب متعددة ، كما تتحدث عن القيامة والإيمان بها وتعرضُ صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها ، وتلمّ بقضية الرزق وبَسطه وقبضه .
افتُتحت السورة بتقرير مصدر الوحي ومصدر الرسالة وهو ربّ العالمين الذي بعث الأنبياء والمرسلين لهداية البشرية وإخراجها من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان بالله ، الملك الواحد الدّيان .
وردّت طعن الكافرين ، وحَرصَت على تسلية الرسول الكريم ثم بيّنت قدرة الله الذي له ما في السموات والأرض ، وكُفرَ بعض الناس مع وضوح الأدلة على أن رسالة محمد من عند الله . ثم أكدت قدرته تعالى على كل شيء ، وأثبتت وحدة الدين مشيرة إلى إرشاد الكتب السماوية إلى الحق ، وندّد بشرك المشركين واختلافهم في الحق ظلما ، واستعجال المكذبين بالقيامة استهزاء . بعد ذلك أرشدت إلى ما يجب اتّباعه في دعوة الناس إلى الدين ، كما بينت عِظَم لطف الله بعباده ، وحذّرت من الانهماك في طلب الدنيا ، وبيّنت الحكمة في توزيع الرزق بين الناس بتقدير محكَم .
وأوضحت السورة عظم بركات الغيث ، ودلائل قدرة الله في هذا الوجود ، وأن كثيرا من مصائب الدنيا بسبب المعاصي ، ودعت الناس إلى المبادرة إلى إجابة دعوة الله وطاعة رسوله قبل أن تنتهي الحياة ويفاجئهم ذلك اليوم العظيم . كما عُنيت السورة بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان قدرته تعالى على هبة الإناث لمن يشاء ، وحرمان فريق آخر منهما بسبب حكمته .
وفي الختام يعود السياق إلى الحقيقة الأولى ، حقيقة الوحي والرسالة ، فتكشف السورة عن طبيعة هذا الاتصال بين الله ومن اختارهم من عباده لهذه المهمة العظيمة ، وانتداب الرسالة الأخيرة وحاملَها صلى الله عليه وسلم لهذه القيادة . { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } . صراط الله وأوامره وتشريعاته .
حم عسق : تقرأ هكذا : حاميم عَين سِين قاف ، وقد تقدم الكلام على مثلها أكثر من مرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة:"قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة..." إلى آخرها...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
سميت بالشورى، لإشعار آياتها بذلة الدنيا وعزة الآخرة، وصفات طالبيها، مع اجتماع قلوبهم بكل حال، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايميّ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية؛ ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة، حتى ليصح أن يقال: إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها؛ وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعاً لتلك الحقيقة الرئيسية فيها.
هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية، وتعرضها من جوانب متعددة؛ كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها؛ ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها. وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها. كما تلم بقضية الرزق: بسطه وقبضه؛ وصفة الإنسان في السراء والضراء.
ولكن حقيقة الوحي والرسالة، وما يتصل بها، تظل -مع ذلك- هي الحقيقة البارزة في محيط السورة، والتي تطبعها وتظللها. وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها.
ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة، وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة. فهي تعرض من جوانب متعددة. يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق. أو وحدانية الرازق. أو وحدانية المتصرف في القلوب. أو وحدانية المتصرف في المصير.. ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحي -سبحانه- ووحدة الوحي. ووحدة العقيدة. ووحدة المنهج والطريق. وأخيراً وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة.
ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزاً واضحاً، بشتى معانيه وشتى ظلاله وشتى إيحاءاته، من وراء موضوعات السورة جميعاً.. ونضرب بعض الأمثلة من السورة إجمالاً، قبل أن نأخذ في التفصيل:
تبدأ بالأحرف المقطعة: حا. ميم. عين. سين. قاف.. يليها: (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم).. مقرراً وحدة مصدر الوحي في الأولين والآخرين: (إليك وإلى الذين من قبلك)..
ثم يستطرد السياق في صفة الله العزيز الحكيم: (له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم).. مقرراً وحدانية المالك لما في السماوات والأرض واستعلاءه وعظمته على وجه الانفراد.
ثم يستطرد استطراداً آخر في وصف حال الكون تجاه قضية الإيمان بالمالك الواحد، وتجاه الشرك الذي يشذ به بعض الناس: (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن، والملائكة يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم، والذين اتخذوا من دونه أولياء، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل).. فإذا الكون كله مشغول بقضية الإيمان والشرك حتى إن السماوات ليكدن يتفطرن من شذوذ بعض أهل الأرض، بينما الملائكة يستغفرون لمن في الأرض جميعاً من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين!
وبعد هذه الجولة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى: (وكذلك أوحينا إليك، قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه، فريق في الجنة وفريق في السعير)..
ثم يستطرد مع (فريق في الجنة وفريق في السعير).. فيقرر أن لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة. ولكن مشيئته اقتضت -بما له من علم وحكمة- أن يدخل من يشاء في رحمته (والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير).. ويقرر أن الله وحده هو الولي (وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير)..
ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى، حقيقة الوحي والرسالة، فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو الله الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلاف: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله. ذلكم الله ربي عليه توكلت، وإليه أنيب)..
ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق، وتفرد ذاته. ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض، وفي بسط الرزق وقبضه. وفي علمه بكل شيء: (فاطر السماوات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً، ومن الأنعام أزواجاً، يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. له مقاليد السماوات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم)..
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم إليه. الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب. وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب. فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب... الخ..
وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة؛ محوطة بمثل هذا الجو، وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى، المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي.
وهذا النسق واضح وضوحا كاملاً في هذا الدرس الأول من السورة. فالقارئ يلتقي بعد كل بضع آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها.
فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة، فيبدأ باستعراض بعض آيات الله في بسط الرزق وقبضه وفي تنزيل الغيث برحمته (وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام. ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم. فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب: (يقولون هل إلى مرد من سبيل، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي).. واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين:
(وقال الذين آمنوا: إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. ألا إن الظالمين في عذاب مقيم).. وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان: (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، ما لكم من ملجأ يومئذ، وما لكم من نكير)..
ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة. حقيقة الوحي والرسالة. في جانب من جوانبها: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ...).
ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة، مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة، حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، إنه عليّ حكيم. وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان؛ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور)..
وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع.
هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة، ورسولها، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم.
وتبدأ أول إشارة مع مطلع السورة (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم).. لتقرر أن الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم.
وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها).. لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد.
وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)..
وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع، مخالفاً لهذه التوصية، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم. وقع بغيا وظلما وحسدا: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم)..
ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب)..
وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم.. فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها. والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة.
ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها [صلى الله عليه وسلم] لهذه القيادة: فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم. وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم. الله ربنا وربكم... الخ.. ومن ثم تجيء صفة الجماعة المؤمنة المميزة لها طبيعية في سياق هذه السورة -في الدرس الثاني- بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية على ذلك النهج الثابت القويم.
وعلى ضوء هذه الحقيقة يصبح سياق السورة وموضوعها الرئيسي والموضوعات الأخرى فيه واضحة القصد والاتجاه. وتتبع هذا السياق بالتفصيل يزيد هذا الأمر وضوحا..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اشتهرت تسميتها عند السلف حم عسق، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير والترمذي في جامعه، وكذلك سميت في عدة من كتب التفسير وكثير من المصاحف.
وتسمى سورة الشورى بالألف واللام كما قالوا سورة المؤمن، وبذلك سميت في كثير من المصاحف والتفاسير، وربما قالوا سورة شورى بدون ألف ولام حكاية للفظ القرآن.
وتسمى سورة عسق بدون لفظ حم لقصد الاختصار.
ولم يعدها في الإتقان في عداد السور ذات الاسمين فأكثر. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في تسميتها.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعدها في الإتقان في عداد السور المكية، وقد سبقه إلى ذلك الحسن بن الحصار في كتابه في الناسخ والمنسوخ كما عزاه إليه في الإتقان.
وعن ابن عباس وقتادة استثناء أربع آيات أولاها قوله {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} إلى آخر الأربع الآيات.
وعن مقاتل استثناء قوله تعالى {ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا} إلى قوله {إنه عليم بذات الصدور}. رؤي أنها نزلت في الأنصار وهي داخلة في الآيات الأربع التي ذكرها ابن عباس. وفي أحكام القرآن لابن الفرس عن مقاتل: أن قوله تعالى {ولو بسط الله الرزق لعباده} الآية نزل في أهل الصفة فتكون مدنية، وفيه عنه أن قوله تعالى {والذين أصابهم البغي هم ينتصرون} إلى قوله {ما عليهم من سبيل} نزل بالمدينة...
وعدت آيها عند أهل المدينة ومكة والشام والبصرة خمسين، وعند أهل الكوفة ثلاثا وخمسين.
أول أغراضها الإشارة إلى تحدي الطاعنين في أن القرآن وحي من الله بأن يأتوا بكلام مثله، فهذا التحدي لا تخلو عنه السور المفتتحة بالحروف الهجائية المقطعة، كما تقدم في سورة البقرة.
واستدل الله على المعاندين بأن الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كالوحي إلى الرسل من قبله لينذر أهل مكة ومن حولها بيوم الحساب.
وأن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض لا تعارض قدرته ولا يشك في حكمته، وقد خضعت له العوالم العليا ومن فيها وهو فاطر المخلوقات فهو يجتبي من يشاء لرسالته فلا بدع أن يشرع للأمة المحمدية من الدين مثل ما شرع لمن قبله من الرسل، وما أرسل الله الرسل إلا من البشر يوحي إليهم فلم يسبق أن أرسل ملائكة لمخاطبة عموم الناس مباشرة.
وأن المشركات بالله لا حجة لهم إلا تقليد أئمة الكفر الذين شرعوا لهم الإشراك وألقوا إليهم الشبهات.
وحذرهم يوم الجزاء واقتراب الساعة وما سيلقى المشركون يوم الحساب من العذاب مع إدماج التعريض بالترغيب فيما سيلقاه المؤمنون من الكرامة، وأنهم لو تدبروا لعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي عن الله من تلقاء نفسه لأن الله لا يقره على أن يقول عليه ما لم يقله.
وذكرت دلائل الوحدانية وما هو من تلك الآيات نعمة على الناس مثل دليل السير في البحر وما أوتيه الناس من نعم الدنيا.
وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله هو متولي جزاء المكذبين وما على الرسول صلى الله عليه وسلم من حسابهم من شيء فما عليه إلا الاستمرار على دعوتهم إلى الحق القويم. ونبههم إلى أنه لا يبتغي منهم جزاء على نصحه لهم وإنما يبتغي أن يراعوا أواصر القرابة بينه وبينهم.
وذكرهم نعم الله عليهم، وحذرهم من التسبب في قطعها بسوء أعمالهم، وحرضهم على السعي في أسباب الفوز في الآخرة والمبادرة إلى ذلك قبل الفوات، فقد فاز المؤمنون المتوكلون، ونوه بجلائل أعمالهم وتجنبهم التعرض لغضب الله عليهم.
وتخلل ذلك تنبيه على آيات كثيرة من آيات انفراده تعالى بالخلق والتصرف المقتضي انفراده بالإلهية إبطالا للشرك.
وختمها بتجدد المعجزة الأمية بأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بهدى عظيم من الدين وقد علموا أنه لم يكن ممن تصدى لذلك في سابق عمره وذلك أكبر دليل على أن ما جاء به أمر قد أوحي إليه به فعليهم أن يهتدوا بهديه فمن اهتدى بهديه فقد وافق مراد الله.
وختم ذلك بكلمة جامعة تتضمن التفويض إلى الله وانتظار حكمه وهي كلمة {ألا إلى الله تصير الأمور}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ إطلاق اسم «الشورى» على هذه السورة المباركة يعود إلى محتوى الآية (38) منها والتي تدعو المسلمين إلى المشورة في أُمورهم...
... اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيق، وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه، فالأولى أن يفوض علمها إلى الله.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
إن الحروف المقطعة التي جاءت في أوائل السور حروف تنبيه نحو ألا ويا ونحوهما، يؤتى بها لإيقاظ السامع وتنبيهه إلى ما سيلقى إليه من الأمور العظام المشتملة عليها هذه السورة، وينطق بأسمائها هكذا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ابتدئت بالحروف المقَطَّعة على نحو ما ابتدئت به أمثالها مثل أول سورة البقرة؛ لأن ابتداءها مشير إلى التحدّي بعجزهم عن معارضة القرآن وأن عجزهم عن معارضته دليل على أنه كلام منزل من الله تعالى...
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا أربع آيات منها أنزلت بالمدينة : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " {[1]} إلى آخرها . وهي ثلاث وخمسون آية .
قوله تعالى : " حم . عسق " قال عبد المؤمن : سألت الحسين بن الفضل : لم قطع " حم " من " عسق " ولم تقطع " كهيعص " و " المر " و " المص " ؟ فقال : لأن " حم . عسق " بين سور أولها " حم " فجرت مجرى نظائرها قبلها وبعدها ، فكأن " حم " مبتدأ و " عسق " خبره . ولأنها عدت آيتين ، وعدت أخواتها اللواتي كتبت جملة آية واحدة . وقيل : إن الحروف المعجمة كلها في معنى واحد ، من حيث إنها أس البيان وقاعدة الكلام ، ذكره الجرجاني . وكتبت " حم . عسق " منفصلا و " كهيعص " متصلا لأنه قيل : حم ، أي حم ما هو كائن ، ففصلوا بين ما يقدر فيه فعل وبين ما لا يقدر . ثم لو فصل هذا ووصل ذا لجاز . حكاه القشيري . وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس " حم . سق " قال ابن عباس : وكان علي رضي الله عنه يعرف الفتن بها . وقال أرطاة بن المنذر : قال رجل لابن عباس وعنده حذيفة بن اليمان : أخبرني عن تفسير قوله تعالى : " حم . عسق " ؟ فأعرض عنه حتى عاد عليه ثلاثا فأعرض عنه . فقال حذيفة بن اليمان : أنا أنبئك بها ، قد عرفت لم تركها ، نزلت في رجل من أهل بيته يقال له : عبد الإله أو عبد الله ، ينزل على نهر من أنهار المشرق ، يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقا ، فإذا أراد الله زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ، بعث على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة ، فتحرق كلها كأنها لم تكن مكانها ، فتصبح صاحبتها متعجبة ، كيف قلبت ! فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا ، فذلك قوله : " حم . عسق " أي عزمة{[13455]} من عزمات الله ، وفتنة وقضاء حم : حم . " ع " : عدلا منه ، " س " : سيكون ، " ق " : واقع في هاتين المدينتين .
ونظير هذا التفسير ما روى جرير بن عبد الله البجلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقُطْرَبُّل{[13456]} والصراة ، يجتمع فيها جبابرة الأرض تجبى إليها الخزائن يخسف بها - وفي رواية بأهلها - فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الجيد في الأرض الرخوة ) . وقرأ ابن عباس : " حم . سق " بغير عين . وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود . حكاه الطبري . وروى نافع عن ابن عباس : " الحاء " حلمه{[13457]} ، و " الميم " مجده ، و " العين " علمه ، و " السين " سناه ، و " القاف " قدرته ، أقسم الله بها . وعن محمد بن كعب : أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناه وقدرته ألا يعذب من عاذ بلا إله إلا الله مخلصا من قلبه . وقال جعفر بن محمد وسعيد بن جبير : " الحاء " من الرحمن ، والميم " من المجيد " ، و " العين " من العليم ، و " السين " من القدوس ، و " القاف " من القاهر . وقال مجاهد : فواتح السور . وقال عبد الله بن بريدة : إنه اسم الجبل المحيط بالدنيا . وذكر القشيري ، واللفظ للثعلبي : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجه ، فقيل له : يا رسول الله ، ما أحزنك ؟ قال : ( أخبرت ببلايا تنزل بأمتي من خسف وقذف ونار تحشرهم وريح تقذفهم في البحر وآيات متتابعات متصلات بنزول عيسى وخروج الدجال ) . والله أعلم . وقيل : هذا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ف " الحاء " حوضه المورود ، و " الميم " ملكه الممدود ، و " العين " عزه الموجود ، و " السين " سناه المشهود ، و " القاف " قيامه في المقام المحمود ، وقربه في الكرامة{[13458]} من الملك المعبود .
{ حم عسق* } هذه الحروف يجوز أن تكون إشارة إلى كلمات منتظمة من كلام عظيم يشير إلى أن معنى هذا الجمع يجوز أن يقال : حكمة محمد علت وعمت فعفت سقام القلوب ، وقسمت حروفها قسمين موافقة لبقية أخواتها وبعدها آيتين ، ولم تقسم { كهيعص } لأنها آية واحدة ولا أخت لها ولم تقسم { المص } مثلاً وإن كان لها أخوات لأنها آية واحدة ، ولم يعد في شيء من القرآن حرف واحد آية ، ويجوز أن يعتبر مفردة فتكون إشارة إلى أسرار تملأ الأقطار ، وتشرح الصدور والأفكار ، فإن نظرت إلى مخارجها وجدتها قد حصل الابتداء فيها بأدنى وسط الحلق إلى اللسان باسم الحاء ، وثنى بأوسط حروف الشفة وهي الميم ، وحصل الرجوع إلى وسط الحلق بأقصاه من اللسان في اسم العين ، وهو جامع للحلق واللسان ، وقصد رابعاً إلى اللسان بالسين التي هي من أدناه إلى الشفتين وهو رأسه ولها التصاق بالشفتين واتصال بأعلى الفم ، ففيها بهذا الاعتبار جمع ، ثم جعل بعد هذا الظهور بطوناً إلى أصل اللسان ، وهو أقصاه من الشفة بالقاف ، ولاسم هذا الحرف جمع بالابتداء بأصل اللسان مع سقف الحلق والاختتام بالشفة العليا والثنيتين السفليين ، ففي هذه الحروف ثلاثة وهي أكثرها لها نظر بما فيها من الجمع إلى مقصود السورة ، وقد اتسق الابتداء فيها فيما كان من حرفين جمعهما مخرج بالأعلى ثم بالأدنى إشارة إلى أنه يكون لأهل هذا الدين بعد الظهور بطون كما كان في أول الإسلام حيث حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأقاربه في الشعب ، وذلك أيضاً إشارة إلى أنه من تحلية الظاهر ينتقل إلى تصفية الباطن من زين ظاهره بجمع الأعمال الصالحة صحح الله باطنه بالمراقبة الخالصة الناصحة على أن في هذا التدلي بشرى بأن الحال الثاني يكون أعلى من الأول ، كما كان عند الظهور من الشعب بما حصل من نقض الصحيفة الظالمة الذي كان الضيق سبباً له ، لأن الثاني من مراتب هذه الحروف أقوى صفة مما هو أعلى منه مخرجاً ، فإن الحاء لها من الصفات الهمس والرخاوة والاستفال والانفتاح والميم له من الصفات الجهر والانفتاح والاستفال وبين الشدة والرخاوة ، والعين لها من الصفات ما للميم سواء ، والسين لها من الصفات ما للحاء ، وتزيد بالصفير ، والقاف له من الصفات الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة فالحرف الأول أكثر صفاته الضعف ، ويزيد بالإمالة التي قرأ بها كثير من القراء ، والثاني والثالث على السواء ، وهما إلى القوة أرجح قليلاً ، وذلك كما تقدم من وسط الحال عند الخروح من الشعب ، والرابع فيه قوة وضعف وضعفه أكثر ، فإن فيه للضعف ثلاث صفات وللقوة صفتين ، وذلك كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم عند آخر أمره بمكة المشرفة حين مات الوزيران خديجة رضي الله عنها وأبو طالب لكن ربما كانت الصفتان القويتان عاليتين على الصفات الضعيفة بما فيهما بالانتشار بالصفير والجمع الذي مضت الإشارة إليه من الإشارة إلى ضخامة تكون باجتماع أنصار كما وقع من بيعة الأنصار ، والخامس وهو الأخير كله قوة كما وقع بعد الهجرة عند اجتماع الكلمة وظهور العظمة ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
" فلما هاجرنا انتصفنا من القوم وكانت سجال الحرب بيننا وبينهم " ثم تكاملت القوة عند تكامل الاجتماع بعد قتال أهل الردة بعد موته صلى الله عليه وسلم لا جرم انتشر أهل هذا الدين في الأرض يميناً وشمالاً ، فما قام لهم مخالف ، ولا وافقتهم أمه من الأمم على ضعف حالهم وقلتهم وقوة غيرهم وكثرتهم إلا دمروا عليهم فجعلوهم كأمس الدار ، وقد جمعت هذه الحروف كما مضى وصفي المجهورة والمهموسة كانت المجهورة أغلبها إشارة إلى ظهور هذا الدين على كل دين كما حققه شاهد الوجود ، وصنفي المنقوطة والعاطلة ، وكانت كلها عاطلة إلا حرفاً واحداً ، إشارة إلى أن أحسن أحوال المؤمن أن يكون أغلب أحواله محواً لا يرى له صفة من الصفات بل يعد في زمرة الأموات وإلى أن المتحلي بالأعمال الصالحة الخالصة من أهل القلوب من أرباب هذا الدين قليل جداً ، وكان المنقوط آخرها إشارة إلى أن نهاية المراتب عند أهل الحق الجمع بعد المحو والفرق وكان حرف الشفة من بين حروفها الميم ، وهي ذات الدائرة المستوية الاستدارة إشارة إلى أن لأهل هذا الدين من الاجتماع فيه والانطباق عليه والإطافة به والإسراع إليه ما ليس لغيرهم ، وإلى أن هم من القدم الراسخ في القول المقتطع من الفم المختتم بالشفتين ما لا يبلغه غيرهم بحيث أنه لا نهاية له مع حسن استنارته بتناسب استدارته ، ثم إنك إذا بلغت نهاية الجمع في هذه الأحرف بأن جمعت أعداد مسمياتها وهو مائتان وثمانية وسبعون إلى أعداد أسمائها ، وهو خمسمائة وأحد وثلاثون بلغ تسعا وثمانمائة ، وفي السنة الموافقة لهذا العدد كانت ولادتي ، فكان الابتداء في هذا الكتاب الديني حينئذ بالقوة القريبة من الفعل ، وسنة ابتدائي فيه بالفعل وهي سنة إحدى وستين في شعبان كان سني إذا ذاك قد شارف أربعاً وخمسين سنة ، وهو موافق لعدد حرفي { دن } أمراً من الدين الذي هو مقصود السورة ، فكأنه أمر إذ ذاك بالشروع في الكتاب ليحصل مقصودها ، وسنة وصولي إلى هذه السورة وهي سنة إحدى وسبعين في شعبان منها كان سني قد شارف أربعاً وستين سنة ، وهو عدد موافق لعدد أحرف { دين } الذي هو مقصود السورة ، فأنا أرجو بهذا الاتفاق الغريب أن يكون ذلك مشيراً إلى أن الله تعالى يجمع بكتابي هذا الذي خصني بإلهامه وادخر لي المنحة بحله وإبرامه ، واعتناقه والتزامه ، أهل هذا الدين القيم جمعاً عظيماً جليلاً جسيماً ، يظهر له أثر بالغ في اجتماعهم وحسن تأسيهم برؤوس نقلته وأتباعه ، ومن الآثار الجليلة في لحظها للجمع أنه لما كان مقصود سورة مريم عليها السلام بيان اتصاف الرحمن ، المنزل لهذا القرآن ، بشمول الرحمة لجميع الأكوان ، وكانت هذه السورة لرحمة خاصة من آثار تلك الرحمة العامة ، وهي الاجتماع على هذا الدين المراد ظهوره وعلوه على كل دين وقهره لكل أمر ، فكان لذلك محيطاً قاهراً لحظ كل قاهر وظالم ، وكانت هذه الرحمة الخاصة - لنسبتها إلى الخلق - ثانية لتلك العامة ومنشعبة منها ، كانت لكونها من أوصاف الخلق بمنزلة اليسار ، وتلك لكونها من صفة الحق بمنزلة اليمين ، فلذلك - والله أعلم - قال الاستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب له في الحرف : ولما كان ذلك - أي هذه الاسم المجتمع من هذه الأحرف المقطعة - أول هذه السورة مما ينسب إلى أمر الشمال كان متى وضع على أصابع اليسار ثم وضعت على هانجة ظلم أو جور استولى عليه بحكم إحاطة حكمة الله ، وكانت خمسها مضافة إلى خمس { كهيعص } المستولية على حكمة اليمين محيطاً ذلك بالعشر المحيط بكل الحكمة التي مسندها الياء الذي هو أول العشر ومحل الاستواء بما هو عائد وحدة الألف - انتهى .
هذه السورة مكية باستثناء أربع آيات . وهي تتضمن فيضا من عظيم الحقائق والأوامر والعبر والأخبار ، كالتذكير بجلال الله وعظيم شأنه وسلطانه ، والتنبيه إلى جلال القرآن الذي أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لينذر به يوم الجمع لا ريب فيه . وفي السورة بيان باتفاق النبيين وأديانهم على عقيدة التوحيد الخالص لله وحده ، وإنْ اختلفت شرائعهم ومناهجهم تبعا لاختلاف الأعراف والملابسات والأزمان .
وفي السورة تنديد بالذين يستعجلون بقيام الساعة ، على سبيل الإنكار والاستسخار . مع أن الساعة حقيقة كونية راسخة لا ريب فيها .
وتتضمن السورة بيانا بأن الناس من حيث الاهتمامات والأهواء قسمان :
أولهما : الذين يبتغون حرث الآخرة : فأولئك يضاعف الله لهم حرثهم ويزيدهم من فضله .
وثانيهما : الذين يبتغون حرث الدنيا ، أي زينتها ومتاعها ، فأولئك يعطيهم الله منها ما شاء ، وهم من نعيم الآخرة محرومون . وتتضمن السورة قاعدة الشورى بين المسلمين لترسّخ فيهم مبدأ التشاور وعدم الاستئثار بالرأي .
وفي السورة تقرير راسخ لحقيقة العدل وما يتلوه من جمال الفضل ، في العقوبات ؛ فقد شرع الله عقوبة القصاص حقًّا للمعتدى عليه إلا أن يعفو عن المعتدي الجاني . ومجرد الاقتصاص من الجاني عدل ، لكن العفو عنه سخاء وصبر وترفع واستعلاء على الهوى وحفظ النفس وذلك فضل . وهو قوله عزّ من قائل : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ } إلى غير ذلك من عظيم المعاني والأخبار والحكم كالتنبيه إلى يوم القيامة وما يتخللها من البلايا والأحزان والأفزاع .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : { حم ( 1 ) عسق ( 2 ) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 ) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 4 ) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 5 ) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } .
تقدم الكلام عما قيل في معاني حروف الهجاء من فواتح بعض السور . وجملة القول في ذلك أن الله أعلم بما يراد في هذه الحروف .