سورة الشورى مكية ، نزلت بعد الإسراء وقبل الهجرة ، وآياتها 53 آية ، نزلت بعد سورة فصلت .
ولها اسمان ( عسق ) لافتتاحها بها ، وسورة ( الشورى ) لقوله سبحانه : { وأمرهم شورى بينهم . . . } ( الشورى : 38 ) .
هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ، ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة ، حتى ليصح أن يقال إن هذه الحقيقة هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها ، وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعا لتلك الحقيقة الرئيسية فيها .
هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية ، وتعرضها من جوانب متعددة ، كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها ، ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها ، وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها ، كما تلم بقضية الرزق ، بسطه وقبضه ، وصفة الإنسان في السراء والضراء ، ولكن حقيقة الوحي والرسالة وما يتصل بهما ، تظل- مع ذلك- هي الحقيقة البارزة في محيط السورة ، والتي تطبعها وتظللها ، وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها .
ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة ، وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة ، " فهي تعرض من جوانب متعددة ، يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق ، أو وحدانية الرازق ، أو وحدانية المتصرف في القلوب ، أو وحدانية المتصرف في المصير . . ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحى –سبحانه- ووحدة الوحي ، ووحدة العقيدة ، ووحدة المنهج والطريق ، وأخيرا وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة .
ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزا واضحا ، بشتى معانيه ، وشتى إيحاءاته من وراء موضوعات السورة جميعا " . 1
يمكن أن نقسم سورة الشورى إلى فصلين رئيسيين : يتناول الفصل الأول وحدة الأهداف الرئيسية للرسالات السماوية ، ويتناول الفصل الثاني بعض صفات المؤمنين ودلائل الإيمان .
الفصل الأول : وحدة أهداف الرسالات
يتناول النصف الأول من السورة الآيات من ( 1-24 ) ، ويبدأ عن الوحي ، ثم يعالج قضية الوحي منذ النبوات الأولى ، ليقرر وحدة الدين ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق ، وليعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة .
وتشير السورة إلى هذه الوحدة في مطلعها : { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } . ( الشورى : 3 ) .
لتقرر أن الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل ، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم .
وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل : { وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر به أم القرى ومن حولها . . . } ( الشورى : 7 ) .
لتقرر مركز القيادة الجديدة ، فقد اختار الله بلاد العرب لتكون مقر الرسالة الأخيرة التي جاءت للبشرية جميعا ، والتي تتضح عالميتها منذ أيامها الأولى .
كانت الأرض المعمورة عند مولد الرسالة الأخيرة تكاد تتقاسمها إمبراطوريات أربع ، هي : الرومانية ، والفارسية ، والهندية ، والصينية .
وفي هذا الوقت جاء الإسلام لينقذ البشرية كلها ، مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد ، وجاهلية عمياء في كل مكان من المعمورة ، جاء ليهيمن على حياة البشرية ، ويقودها في الطريق إلى الله على هدى ونور .
ولم يكن هنالك بد من أن يبدأ الإسلام رحلته من أرض حرة ، لا سلطان فيها لإمبراطورية من تلك الإمبراطوريات ، وكانت الجزيرة العربية وأم القرى وما حولها بالذات هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ ، وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية .
لم تكن في بلاد العرب حكومات منظمة ، ولا ديانة ثابتة واضحة المعالم ، وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة ، إلى جانب خلخلة النظام الديني ، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد ، ليكون متحررا من كل سلطان عليه في نشأته .
وهكذا جاء القرآن عربيا لينذر أم القرى ومن حولها ، فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام ، حملت الراية وشرقت لها وغربت ، وقدمت الرسالة للبشرية جميعها ، وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ، وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ، وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة : { الله أعلم حيث يجعل رسالته . . . } ( الأنعام : 124 ) .
وفي آية مشهورة من سورة الشورى تطالعنا وحدة الرسالات جميعا ، ووحدة الرسل ، ووحدة الدين ، ووحدة الهدف للجميع ، وهو توحيد الله ، وتدعيم القيم والأخلاق ، ومحاربة الرذائل والانحراف .
قال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ( 13 ) } . ( الشورى : 13 ) .
وتقرر الآيات بعد ذلك أن التفرق قد وقع مخالفا لهذه الوصية ، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم ، وقع بغيا وحسدا : { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم . . . } ( الشورى : 14 ) .
وتصف أتباع الأديان وحملة الكتب السماوية بأنهم في حيرة وشك لاضطراب أحوال الديانات ، وخروجها عن الهدف الذي جاءت له : { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } . ( الشورى : 14 ) .
وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب ، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم ، ومن ثم يعلن القرآن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها النبي صلى الله عليه وسلم لهذه القيادة : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 15 ) } ( الشورى : 15 ) .
الفصل الثاني : صفات الجماعة المسلمة
يشتمل النصف الثاني من السورة على الآيات من ( 25-53 ) ، ويتحدث عن صفات الجماعة المسلمة ، التي انتدبها الله لحمل هذه الرسالة ، ويبدأ هذا الفصل باستعراض آيات الله في بسط الرزق وقبضه ، وفي تنزيل الغيث برحمته ، وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة ، وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام ، ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم ، ومع أن سورة الشورى مكية ، نزلت قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة ، إلا أنها تذكر أن الشورى من صفات المؤمنين ، فتقول : { وأمرهم شورى بينهم . . . } ( الشورى : 38 ) .
مما يوحى بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن يكون نظاما سياسيا للدولة ، فهو طابع أساسي للجماعة كلها ، يقوم على أمرها كجماعة ، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة ، بوصفها ممثلة للجماعة .
والتأمل في صفات المؤمنين يوحي بأن الإسلام دين القيم ، دين يهتم بالجوهر لا بالعرض ، وبتكوين النفس البشرية لا بالقيم الزائلة .
إنها الإيمان والتوكل ، واجتناب كبائر الإثم والفواحش ، والمغفرة عند الغضب ، والاستجابة لله ، وإقامة الصلاة ، والشورى الشاملة ، والإنفاق مما رزق الله ، والانتصار من البغي ، والعفو ، والإصلاح ، والصبر .
وبهذه القيم تحول العرب من أشتات مختلفين إلى أمة متماسكة متراحمة ، مؤمنة بالله ، مستقيمة على هدى الله وتعاليمه ، فوطأ الله لهم أكناف الأرض ، وصاروا خير أمة أخرجت للناس .
وبعد تقرير صفة المؤمنين وما ينتظرهم من عون وإنعام ، تعرض الآيات في الصفحة المقابلة صورة الظالمين الضالين ، وما ينتظرهم من ذل وخسران في يوم القيامة : { يقولون هل إلى مرد من سبيل * وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي . . . } ( الشورى : 44 ، 45 ) .
وفي ظل هذا المشهد نجد القرآن يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان : { استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله . . . } ( الشورى : 47 ) .
ويمضي سياق السورة حتى ختامها ، يدور حول محور الوحي والرسالة ، وأثرهما في صفات المؤمنين ، مع بعض الاستطراد إلى وصف الكافرين ، وبيان صفات الله الخالق الوهاب ، القابض الباسط ، قال تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } . ( الشورى : 49 ، 50 ) .
ويعود السياق في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته ، وهناك ارتباط ظاهر بين الحديث عن الوحي في القسم الأول من السورة ، وبين الحديث عن صفات المؤمنين ، ودلائل الإيمان في القسم الثاني منها ، فإن الهداية والإيمان من آثار الوحي وبركات الرسالة ، أي أن القسم الثاني وهو السلوك مترتب على القسم الأول وهو العقيدة والوحي .
حم عسق : حروف للتنبيه ، أو للتحدي والإعجاز .
افتتح الله تعالى بعض السور بحروف مقطعة ، قد تكون مكونة من حرف واحد مثل : ن ، ص ، ق .
وقد تكون مكونة من حرفين مثل : حم ، طه ، يس .
وقد تكون مكونة من ثلاثة أحرف مثل : طسم ، آلم .
وقد تكون مكونة من أربعة أحرف مثل : المر ، المص .
وقد تكون مكونة من خمسة أحرف مثل : حم عسق . وهو أكثر ما افتتحت به سورة من حروف ، ومثل : كهيعص .
هي مما استأثر الله تعالى بعلمه ، وقيل : هي أسماء للسور ، وقيل : هي أدوات للتنبيه كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة ، وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز ، وبيان أن القرآن مكون من حروف عربية تنطقون بها مثل : { حم * عسق } . وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر ، ولكنه تنزيل من حكيم حميد .