ويجسم هذا الذكر ويمزجه بشخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيجعل شخصه الكريم هو الذكر ، أو بدلا منه في العبارة : ( رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ) . .
وهنا لفتة مبدعة عميقة صادقة ذات دلائل منوعة . .
إن هذا الذكر الذي جاء من عند الله مر إليهم من خلال شخصية الرسول الصادق حتى لكأن الذكر نفذ إليهم مباشرة بذاته ، لم تحجب شخصية الرسول شيئا من حقيقته .
والوجه الثاني لإيحاء النص هو أن شخصية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قد استحالت ذكرا ، فهي صورة مجسمة لهذا الذكر صنعت به فصارت هو . وهو ترجمة حية لحقيقة القرآن . وكذلك كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهكذا وصفته عائشة - رضي الله عنها - وهي تقول : " كان خلقه القرآن " . . وهكذا كان القرآن في خاطره في مواجهة الحياة . وكان هو القرآن يواجه الحياة !
وفوق نعمة الذكر والنور والهداية والصلاح ، وعد بنعيم الجنات خالدين فيها أبدا . وتذكير بأن هذا الرزق هو أحسن الرزق ، فلا يقاس إليه رزق الأرض : ( قد أحسن الله له رزقا ) . . وهو الرازق في الدنيا والآخرة ، ولكن رزقا خير من رزق ، واختياره للأحسن هو الاختيار الحق الكريم .
وهكذا يلمس نقطة الرزق مرة أخرى ، ويهون بهذه الإشارة من رزق الأرض ، إلى جانب رزق الجنة . بعدما وعد في المقاطع الأولى بسعة رزق الأرض أيضا . .
رسولا : هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام .
وأرسل إليكم رسولا كريما هو محمد بن عبد الله عليه صلوات الله ، { يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ } فيها هدى لكم ، وبذلك أخرجكم من الظلمات وعبادة الأوثان إلى النور ، دين الله القويم الذي بيّن لكم الحقَّ من الباطل .
{ وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } .
فالإيمان مشروط بالعمل ، وأي جزاء أحسنُ من الجنة وأي رزق أحسن من رزقها !
ثم ذكر عباده المؤمنين بما أنزل عليهم من كتابه ، الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ليخرج الخلق من ظلمات الكفر والجهل والمعصية ، إلى نور العلم والإيمان والطاعة ، فمن الناس ، من آمن به ، ومنهم من لم يؤمن [ به ] ، { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا } من الواجبات والمستحبات . { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } فيها من النعيم المقيم ، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا } [ أي : ] ومن لم يؤمن بالله ورسوله ، فأولئك أصحاب النار ، هم فيها خالدون .
قوله تعالى : " رسولا " قال الزجاج : إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل ، أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا . وقيل : إن المعنى قد أنزل الله إليكم صاحب ذكر رسولا ، " فرسولا " نعت للذكر على تقدير حذف المضاف . وقيل : إن رسولا معمول للذكر لأنه مصدر ، والتقدير : قد أنزل الله إليكم أن ذكر رسولا . ويكون ذكره الرسول قوله : " محمد رسول الله " [ الفتح : 29 ] . ويجوز أن يكون " رسولا " بدل من ذكر ، على أن يكون " رسولا " بمعنى رسالة ، أو على أن يكون على بابه ويكون محمولا على المعنى ، كأنه قال : قد أظهر الله لكم ذكرا رسولا ، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء وهو هو . ويجوز أن ينتصب " رسولا " على الإغراء كأنه قال : اتبعوا رسولا . وقيل : الذكر هنا الشرف ، نحو قوله تعالى : " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم{[15110]} " [ الأنبياء : 10 ] ، وقوله تعالى : " وإنه لذكر لك ولقومك{[15111]} " [ الزخرف : 44 ] ، ثم بين هذا الشرف ، فقال : " رسولا " . والأكثر على أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم . وقال الكلبي : هو جبريل ، فيكونان جميعا منزلين . " يتلو عليكم آيات الله " نعت لرسول . و " آيات الله " القرآن . " مبينات " قراءة العامة بفتح الياء ، أي بينها الله . وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسرها ، أي يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام . والأولى قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقوله تعالى : " قد بينا لكم الآيات " [ الحديد : 17 ] .
قوله تعالى : " ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي من سبق له ذلك في علم الله . " من الظلمات " أي من الكفر . " إلى النور " الهدى والإيمان . قال ابن عباس : نزلت في مؤمني أهل الكتاب . وأضاف الإخراج إلى الرسول لأن الإيمان يحصل منه بطاعته . " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا " قرأ نافع وابن عامر بالنون ، والباقون بالياء . " قد أحسن الله له رزقا " أي وسع الله له في الجنات .
وهذا الذكر هو الرسول يقرأ عليكم آيات الله موضحات لكم الحق من الباطل ؛ كي يخرج الذين صدقوا الله ورسوله ، وعملوا بما أمرهم الله به وأطاعوه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ومن يؤمن بالله ويعمل عملا صالحًا ، يدخله جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار ، ماكثين فيها أبدا ، قد أحسن الله للمؤمن الصالح رزقه في الجنة .
قوله : { رسولا يتلوا عليكم آيات مبيّنات } رسولا ، منصوب من عدة وجوه . فقد قيل : منصوب بفعل مقدر ، وتقديره : وأرسل رسولا . وقيل : بدل ، من { نكرا } ويكون رسولا بمعنى رسالة ، وهو بدل الشيء من الشيء . وقيل : منصوب على الإغراء . أي اتبعوا رسولا . وقيل : منصوب بتقدير ، أعني{[4570]} أي أعني رسولا يتلوا عليكم آيات من الله ظاهرات لمن تدبرها وتفكر فيها .
قوله : { ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } يعني أرسل الله رسوله للناس ليخرج به أهل الإيمان والتصديق والطاعة من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان واليقين والاستقامة .
قوله : { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } ذلك وعد من الله لعباده المؤمنين الطائعين الذين لا يعصون الله ويفعلون ما أمرهم به ، بأن يجزيهم خير الجزاء وهي جنات النعيم تجري خلالها ومن تحت أشجارها الأنهار السائحة العذبة ، وهم ماكثون فيها مقيمون لا يبرحون { قد أحسن الله له رزقا } أي وسّع الله لهم في الجنات ما أعطاهم من أصناق المطاعم والمشارب وغير ذلك من وجوه الخير والنعمة{[4571]} .