ويختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى الله ، ووصف روحه ولفظه ، وحديثه وأدبه . ويوجه إليها رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وكل داعية من أمته . وكان قد بدأ السورة بوصف جفوة المدعوين وسوء أدبهم ، وتبجحهم النكير . ليقول للداعية : هذا هو منهجك مهما كانت الأمور :
( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال : إنني من المسلمين ! ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه هو السميع العليم ) .
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله ، في مواجهة التواءات النفس البشرية ، وجهلها ، واعتزازها بما ألفت ، واستكبارها أن يقال : إنها كانت على ضلالة ، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها ، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد ، كل البشر أمامه سواء .
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق . ولكنه شأن عظيم :
( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ، وعمل صالحاً ، وقال : إنني من المسلمين ) .
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض ، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء . ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ؛ ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات . فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ .
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض ، أو بسوء الأدب ، أو بالتبجح في الإنكار . فهو إنما يتقدم بالحسنة . فهو في المقام الرفيع ؛ وغيره يتقدم بالسيئة . فهو في المكان الدون :
ولما كان هذا لمن كمل نفسه ، أتبعه بمن أكمل غيره إشارة إلى أن السعادة التامة أن يكتسب الإنسان من الصفات الفاضلة ما يصير بها كاملاً في نفسه ، فإذا فرغ اشتغل بتكميل الناقص عاطفاً على ما تقديره : ما أحسن هذا الذي كمل نفسه ، وقاله تنويهاً بعلو قدر النفع المتعدي وحثاً على مداومة الدعاء وإن أبوا وقالوا { قلوبنا في أكنة } ثم قالوا { لا تسمعوا لهذا القرآن } فإنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً إلا ذكرت أجوبته الشافية الكافية فاندفعت جميع الشبهات وزالت غياهب الضلالات ، فصار تحذير الدعاء موضعاً للقبول { ومن أحسن قولاً } أي من جهة القول { ممن دعا } وحد الضمير دلالة على قلة هذا الصنف { إلى الله } أي الذي عم بصفات كماله جميع الخلق فهو يستعطف كل أحد بما تعرف إليه سبحانه به من صفاته { وعمل } أي والحال أنه قد عمل { صالحاً } في نفسه ليكون ذلك أمكن لدعائه أعم من أن يكون ذلك لصالح نية أو قولاً أو عملاً للجوارح الظاهرة سراً كان أو علناً ، ولذا حذف الموصوف لئلا يوهم تقيده بالأعمال الظاهرة وللاغناء عنها بقوله " دعا " بخلاف ما كان سياقه للتوبة كآية الفرقان أو اعتقاد الحشر كآية الكهف ، فإنه لا بد فيه من إظهار العمل ليكون شاهداً على صحة الاعتقاد وكمال التوبة ، والدعاء هنا مغنٍ عن ذلك { وقال } مؤكداً عند المخالف والمؤالف قاطعاً لطمع المفسد فيه : { إنني من المسلمين * } أي الراسخين في صفة الإسلام متظاهراً بذلك لا يخاف في الله لومة لائم وإن سماه أبناء زمانه كذا جافياً وغليظاً عاسياً لتصلبه في مخالفته إياهم فيما هم عليه بتسهله في انقياده لكل ما أمره به ربه سبحانه .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 33 ) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( 34 ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 35 ) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
تتضمن هذه الآية تنديدا بالمشركين الذين تواصوا باللغو في القرآن ، وتوبيخا لهم فيقول الله لهم مُوبخا معنِّفا : أي الكلام أحسن من القرآن ؛ وهو الكلام الرباني الفذ الذي يهدي الناس إلى سواء السبيل ويستنقذهم من الضلال والعثار والباطل إلى نور الهداية والاستقامة والحق ؛ إذ قال سبحانه : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا } والمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد دعا الناس إلى دين الحق وعقيدة التوحيد والتبرؤ من الوثنية والأباطيل ، وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول : هذا رسول الله ، هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله ، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله ، وقيل : نزلت في المؤذنين . والصحيح أنها عامة في كل من دعا إلى الله فدعا الناس إلى عبادة ربهم وحده ومجانبة الأنداد والشركاء دونه ، والإذعان له بالطاعة والخضوع .
قوله : { وَعَمِلَ صَالِحًا } أي أدى الفرائض وفعل الواجبات والمندوبات واجتنب المحرمات والمحظورات { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أعلن مجاهرا بأنني من المستسلمين لأمر الله ، المذعنين له بتمام الخضوع والطاعة ، المقرين له بالوحدانية فلا نعبد إلا إياه ولا نذعن لشيء من الملل أو المناهج أو الأناسي سواه ، فهو الإله الذي تخرُّ له الجباهُ والنواصي ، وتلين له القلوب والمشاعر وتَضْرع إليه البصائر خاشعة متذللة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.