وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون ، أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .
إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان ، والانحياز النهائي للصف المتميز ، والتجرد من كل عائق وكل جاذب ، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد .
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) . .
فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين : ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله ! فإما إيمان أو لا إيمان . أما هما معا فلا يجتمعان .
( ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) . .
فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان . إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين : لواء الله ولواء الشيطان . والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد . ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر . وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن . وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير . وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم . متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله .
( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) . .
فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن . فلا زوال له ولا اندثار ، ولا انطماس فيه ولا غموض !
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله . وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق ، ويصلهم بمصدر القوة والإشراق .
( ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) . .
جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ؛ ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية .
( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) . .
وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة ، ترسم حالة المؤمنين هؤلاء ، في مقام عال رفيع . وفي جو راض وديع . . ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم . انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به ؛ فتقبلهم في كنفه ، وأفسح لهم في جنابه ، وأشعرهم برضاه . فرضوا . رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه . .
فهم جماعته . المتجمعة تحت لوائه . المتحركة بقيادته . المهتدية بهديه . المحققة لمنهجه . الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه . فهي قدر من قدر الله .
( ألا إن حزب الله هم المفلحون ) .
ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون ?
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين : حزب الله وحزب الشيطان . وإلى رايتين اثنتين : راية الحق وراية الباطل . فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق ، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل . . وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان ! !
لا نسب ولا صهر ، ولا أهل ولا قرابة ، ولا وطن ولا جنس ، ولا عصبية ولا قومية . . أنما هي العقيدة ، والعقيدة وحدها . فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله . تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم ، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم ، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله ، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة . ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل ، فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة . لا من أرض ، ولا من جنس ، ولا من وطن ولا من لون ، ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر . . لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا . .
ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة ، مما تعالجه هذه الآية في النفوس ، وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم ، والمفاضلة القاطعة . . إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة ، ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام .
وهذه الصورة هي أنسب ختام للسورة التي بدأت بتصوير رعاية الله وعنايته بهذه الأمة في واقعة المرأة الفقيرة التي سمع الله لها وهي تجادل رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] في شأنها وشأن زوجها !
فالانقطاع لله الذي يرعى هذه الأمة مثل هذه الرعاية هو الاستجابة الطبيعية . والمفاضلة بين حزب الله وحزب الشيطان هي الأمر الذي لا ينبغي غيره للأمة التي اختارها الله للدور الكوني الذي كلفها إياه .
يوادّون : يتقربون إليهم بالمودة والمحبة .
بروح منه : بنور وعزم من عنده .
ثم بين تعالى أن الإيمانَ الحقّ لا يجتمع مع موالاة أعداء الله ، مهما قرُبَ بهم النسبُ ولو كانوا آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو من العشيرة القريبة . وهذا معنى قوله تعالى :
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله . . . . } ، لا تجدُ قوما يجمعون بين الإيمان باللهِ ورسولهِ واليوم الآخر ، ومَودَّةِ أعدائه مهما كانت قرابتُهم .
{ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، فهؤلاء الذين يُخلِصون لله ولا يوالون الجاحدين الذين يحادُّون الله ثَبَّتَ اللهُ في قلوبهم الإيمانَ وأيَّدهم بقوّة منه ، ويُدخِلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها لا ينقطع نعيمها ، قد أحبَّهم اللهُ وأحبّوه ورضيَ عنهم ورضُوا عنه .
{ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } ، لأنهم أهلُ السعادة والفلاح والنصر في الدنيا والآخِرة ونِعْمَة الخاتمة .
{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } الآية ، أخبر الله في هذه الآية أن المؤمن لا يوالي الكافر وإن كان أباه أو أخاه أو قريبه وذلك أن المؤمنين عادوا آباءهم وعشائرهم وأقاربهم فمدحهم الله على ذلك فقال :{ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أي أثبته ، { وأيدهم بروح منه } بنور الإيمان وقيل بالقرآن ثم وعدهم الإدخال في الجنة فقال { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } .
الأولى- قوله تعالى :{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون }أي يحبون ويوالون { من حاد الله ورسوله } تقدم{[14801]} ، { ولو كانوا آباءهم } قال السدي : نزلت في عبدالله بن{[14802]} عبدالله بن أبي ، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء ، فقال له : بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي ، لعل الله يطهر بها قلبه ؟ فأفضل له فأتاه بها ، فقال له عبدالله : ما هذا ؟ فقال : هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها . فقال له أبوه : فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها ، فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ! أما أذنت لي في قتل أبي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل ترفق به وتحسن إليه ) .
وقال ابن جريج : حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر ابنه صَكَّةً فسقط منها على وجهه ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : ( أو فعلته ، لا تعد إليه ) فقال : والذى بعثك بالحق نبيا لو كان السيف مني قريبا لقتلته . وقال ابن مسعود : نزلت في أبي عبيدة بن الجراح ، قتل أباه عبدالله بن الجراح يوم أحد وقيل : يوم بدر . وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة وأبوعبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله ، فأنزل الله حين قتل أباه : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر } الآية . قال الواقدي : كذلك يقول أهل الشام . ولقد سألت رجالا من بني الحرث بن فهر فقالوا : توفي أبوه من قبل الإسلام .
{ أو أبناءهم } يعني أبا بكر دعا ابنه عبدالله إلى البراز يوم بدر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر ) . { أو إخوانهم } يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر ، { أو عشيرتهم } يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وعلي وحمزة قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر . وقيل : إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، على ما يأتي بيانه أول سورة " الممتحنة " إن شاء الله تعالى . بين أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب .
الثانية- استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم . قال أشهب عن مالك : لا تجالس القدرية وعادهم في الله ، لقوله تعالى :{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } .
قلت : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان . وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان ، وعن عبد العزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت ) { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر - إلى قوله - أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أي خلق في قلوبهم التصديق ، يعني من لم يوال من حاد الله . وقيل : كتب أثبت ، قاله الربيع بن أنس . وقيل : جعل ، كقوله تعالى : " فاكتبنا مع الشاهدين{[14803]} " [ آل عمران : 53 ] أي اجعلنا . وقوله : { فسأكتبها للذين يتقون{[14804]} } [ الأعراف : 156 ] وقيل :{ كتب } أي جمع ، ومنه الكتيبة ، أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض . وقراءة العامة بفتح الكاف من { كتب }ونصب النون من { الإيمان } بمعنى كتب الله وهو الأجود ، لقوله تعالى :{ وأيدهم بروح منه } ، وقرأ أبو العالية وزر بن حبيش والمفضل عن عاصم " كتب " على ما لم يسم فاعله " الإيمان " برفع النون . وقرأ زر بن حبيش { وعشيراتهم } بألف وكسر التاء على الجمع ، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم . وقيل : { كتب في قلوبهم } أي على قلوبهم ، كما في قلوبهم { في جذوع النخل{[14805]} } [ طه : 71 ] وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان . { وأيدهم بروح منه } قواهم ونصرهم بروح منه ، قال الحسن : وبنصر منه . وقال الربيع بن أنس : بالقرآن وحججه . وقال ابن جريج : بنور وإيمان وبرهان وهدى . وقيل : برحمة من الله . وقال بعضهم : أيدهم بجبريل عليه السلام . { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم } أي قبل أعمالهم { ورضوا عنه } فرحوا بما أعطاهم ، { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه ، قال داود عليه السلام : إلهي ! مَن حزبك وحول عرشك ؟ فأوحى الله إليه : ( يا داود الغاضة أبصارهم ، النقية قلوبهم ، السليمة أكفهم ، أولئك حزبي وحول عرشي ) .
قوله : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله } يعني لا تجد قوما مؤمنين بالله مقرين بيوم القيامة يوادون الكافرين الذين يشاقون الله ورسوله ويصدون عن دين الحق ولو كان المحادون المشاقون آباء المؤمنين أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . ما ينبغي للمؤمن الصادق الذي يخشى الله أن يوالي الكافرين والظالمين الذين يعادون الله ورسوله ويسعون في الأرض بالباطل فيصدون الناس عن منهج الله ويفتنون المسلمين عن دينهم ليضلوهم ضلال . ما ينبغي لمسلم صادق العقيدة والإيمان أن يتّبع خصوم الإسلام على اختلاف مللهم وأديانهم فيمالئهم ضد المسلمين ولو كان هؤلاء المشاقون أقرب الأقربين للمسلم . إنما يوالي المسلم إخوانه في الدين والعقيدة . عقيدة الحق والتوحيد والفضيلة ، عقيدة الإسلام .
ولئن كان هذا التنديد الشديد بالذين يوالون أعداء الله وهم أولو قرابة في النسب منهم ، فكيف بمن يوالي أعداء الله الكافرين وهم عنه غرباء في النسب والأصل والجنس فضلا عن غرابة الدين ، كمن يوالي الصليبيين من النصارى أو الصهيونيين من اليهود أو الوثنيين من المشركين وغيرهم من الملحدين ، فيسارونهم مسارة ويوادونهم موادة ويمالئونهم على المسلمين ، كأولئك الجواسيس الخائنين الذين يحملون للكافرين في الظلام أخبار المسلمين وأسرارهم ، من أجل أجر ممتهن نجس ، دراهم معدودة ، أولئك نفر ممتهن مستقذر من سقط الأوباش ، لا جرم أنهم قد خانوا الله ورسوله والمسلمين . فهم في الأذلين الأخسرين في الدنيا والآخرة .
قوله : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } اسم الإشارة عائد إلى المؤمنين الذين يتصفون بأنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الأقربين إليهم كالآباء والأبناء والإخوان والعشيرة ، فأولئك ممن أثبت الله في قلوبهم الإيمان وجعله مستقرا في صدورهم ، فهم مؤمنون صادقون قد أخلصوا دينهم لله ، { وأيّدهم بروح منه } أي قواهم ونصرهم بفيض رحمته ونوره ، { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } وهذا جزاؤهم في الآخرة ، أن لهم جنات النعيم بظلها الناعم الوارف الظليل ، ومائها العذب السائح الجاري ، مقيمين فيها آبدين ماكثين لا يبرحون ، { رضي الله عنهم ورضوا عنه } أي تقبّل الله منهم أعمالهم وسعدوا أكمل السعادة بما أعطوه في الآخرة من النعيم المقيم{[4493]} .
قوله : { أولئك حزب الله } هؤلاء المؤمنون الصادقون الذين لا يوادون غير المؤمنين ، هم جند الله وأولياؤه وأنصاره ، قوله : { ألا إن حزب الله هم المفلحون } هؤلاء المؤمنون الصادقون هم الفائزون السعداء المنصورون في الدنيا والآخرة . جعلنا الله منهم .